ارشيف من :آراء وتحليلات

الاستعصاء السوري: هل من سبيل لروسيا لكسره بالسياسة؟

الاستعصاء السوري: هل من سبيل لروسيا لكسره بالسياسة؟
لؤي توفيق حسن *
ما يحدث في سوريا منذ أشهر يعيدنا إلى أواخر حقبة الأربعينيات وما تلاها في خمسينيات القرن الماضي: "سوريا الساحة". بعد أن كانت "سوريا اللاعب". فيما يبدو خسارة سريعة لرصيدٍ تجمَّع على مدى أربعة عقود. ومع هذا التطور باتت معه الأزمة أكبر من الداخل السوري، نظاماً، ومعارضةً. وهنا بيت القصيد.

الأزمة السورية دخلت في لعبة الأمم! من حيث الخيوط الممسكة بها، وحتى من حيث مفرداتها الجديدة: "مؤتمر أصدقاء سوريا". قبله ما أسموه: "المبادرةالعربية"، الآن كوفي عنان "موفداً خاصاً"!! وهكذا حتى غدت هذه الأزمة جزءاً من حسابات الأقوياء. أمريكا وروسيا في المقدمة. ثم إيران وتركيا اللتان تبحثان عن دورٍ في شرق أوسط جديد لم تتضح معالمه إلا على ضوء نتائج "الصراع على سوريا"!

الباقون من العرب مجرد صيصان في صراع الفيلة! وقد تجلى ذلك في الرد الروسي على المرزوقي، الرئيس التونسي عندما أنسته قلة خبرته في الشأن الدولي حدوده وظن بأنه من أهل الرأي والمشورة!!!.أما ما يبدو في الظاهر دوراً لهذا الطرف العربي أو ذاك، فهو لا يتعدى دور (صبي الكار!) عند (المعلم) الأمريكي وبينهم بالطبع جماعات 14 آذار في لبنان حيث تَشْغَل في الورشة دور (العتّال!) من غير أن تعي خطورة المهمة على حياتها وهي تقوم بنقل مواد قابلة للانفجار!!. وقد تصبح بعد قليل عاطلة من العمل إذا صدقت التصريحات الأمريكية المتوجسة من إمكانية تحوّل سوريا إلى مستقر لتنظيم "القاعدة"!!


أمريكا تعتبر أن إسقاط النظام السوري من الوجهة الاستراتيجية مسألة لها وجهان حيويان. نزع حلقة من مكان، وربطها في مكان آخر. النزاع هو لكسر محور دمشق ـ طهران مروراً ببغداد، وانتهاءً بشرق المتوسط الأمر الذي يشكل حائطاً قوياً يقطع الطريق عليها للإمساك بوسط آسيا؛ وأما الربط فهو في تحقيق التواصل الجيواستراتيجي بين تركيا الأطلسية  ومنطقة النفوذ الأمريكي في الجزيرة العربية، المسألة الحيوية في معمعان المواجهة بين أمريكا وإيران، والتي لا تتحقق من غير سوريا.

الاستعصاء السوري: هل من سبيل لروسيا لكسره بالسياسة؟


أما تركيا فترى في سقوط هذه الأخيرة في أحضانها شرطاً ضرورياً يوفر لها الربط مع "القوس الإخواني" الممتد من تونس حتى مصر، والتي تتطلع لتشغل دور (الناظر) عليه بتوكيل أمريكي مؤداه (ضبط سلوك) الإسلام السياسي كيما يصبح مطابقاً للمواصفات الأميركية، وصولاً إلى تعميمه لكي يتحول إلى حصان طروادة يخترق الجمهوريات الإسلامية في وسط آسيا، وهو ما يعتبر هاجساً روسياً!

روسيا العائدة بقوة إلى المسرح الدولي وجدت ـ بعد سنوات الضياع! ـ أن هامش أمنها القومي قد ضاق، وباتت امريكا على أبوابها غرباً من اوروبا الأطلسية مع شبكة الدرع الصاروخية الممتدة حتى تركيا، وقبلها سقوط جورجيا في أحضان واشنطن، والآن وكما سبق ذكره التحضير لاختراق وسط آسيا أو ما يُسمى (بالكرش الروسي الرخو). الذي كان وما زال مقتل روسيا!. كما هو مقتل للصين إذا ما باتت أمريكا على حدودها في دول إسلامية تخشى أن تكون منصة لرياح صفراء، وهي بلد ـ كما روسيا ـ فيه تنويعات إثنية عدة.

بناءً على ما مرّ تتصرف روسيا ـ بشكل خاص ـ على أساس أن (الدفاع) عن سوريا هو جزء لا يتجزأ من الدفاع عن أمنها القومي، حيث سقوطها سيضعف إيران ويعيد العراق كليا للحضن الأمريكي، ما سيؤدي في خطوة لاحقة إلى سقوط الصخرة الإيرانية. لهذا فقد أعلنت جهاراً بأنها في صدد إمداد سوريا بالمزيد من الأسلحة، في خطوة نوعية لتحديث قواتها المسلحة. كما وإن الموقف الروسي من "مؤتمر أصدقاء سوريا"، والنصيحة الروسة للمرزوقي! هما أيضاً رسالة للأمريكيين على نسق المثل الشعبي"الحكي للجارة لتسمع الكنة"!!.

أما الولايات المتحدة فقد وجدت بأن إمكانية ربحها المواجهة بالطرق التقليدية، أي كما جرى الحال في العراق، أفغانستان، ومؤخرا في ليبيا، مسألة دونها مخاطر وغير مضمونة النتائج مع امكانية اشتعال المنطقة بحرب شاملة، لن تستطيع واشنطن معها تحديد خواتيمها ولا نتائجها، لذا لجأت إلى سيناريو آخر هو الاستنزاف البطيء لسوريا الدولة بتفريغها من محتواها، لا سيما في استهداف المرافق الإنتاجية والخدماتية. أتى هذا كله بعد الإفلاس في خلق انشقاق حقيقي ومؤثّر في جسم القوات المسلحة السورية. لكن أمريكا عادت بعد هذه الجولة من العنف لتلمس أمرين اثنين:
أولهما: أن تحقيق الاستنزاف وأمام جيش قوي، ومتماسك ـ كما ثبت ـ كالجيش السوري، أمر يلزمه نفَس طويل ومعنويات عالية عند الطرف الآخر، والأمر غير متوافر في المعارضة ولا سيما المسلحة منها، بحكم ما تلقته من ضربات.

وثانيهما: ان جولة العنف وفق السيناريو الأمريكي هي سلاح ذو حدين، فمع فوضى السلاح، وانتعاش التطرف ستكون حصيلته مستنقعا تنمو فوقه طحالب التطرف من القاعدة وأخواتها، وهو أشد ما تخشاه أمريكا لما يمثله هذا من خطر على دول الجوار (الصديقة)!. وهذا ما دعاها لإعادة النظر في مواقفها التي بدأت طلائعها مع كلام رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي قبل أسابيع قليلة مشككاً بالمعارضة حين قال: "من السابق لأوانه تسليح المعارضة لأنني أتحدى أي شخص يحدد لي حركة المعارضة في سوريا". ثم جاءت هيلاري كلينتون لتفسر خلفيات الموقف هذا عبر تصريحها الأخير: "لدينا مجموعة خطيرة جدا من العوامل في المنطقة: القاعدة وحماس وأولئك الذين على قائمتنا للارهاب الذين يدّعون انهم يدعمون المعارضة".

الاستعصاء السوري: هل من سبيل لروسيا لكسره بالسياسة؟

أمام هذا المشهد المكتظ تبدو "المعارضات" السورية هي أضعف اللاعبين، وقد سبق لنا على هذا الموقع وفي نفس الصفحة أن حذرنا من ذلك في مقالنا "تخاطب بارد مع المجلس الانتقالي السوري"، بتاريخ 8-10-2012.

أما النظام فهو يخوض معركته مستنداً إلى حائط ثابت: روسيا والصين. غير أن هذا لا يعني بأن المعركة مضمونة النتائج بالرغم من أرجحية النظام، هذا من غير تداعياتها!!. لكن ومن جهةٍ أخرى فإن استمرار المعارضة بغير أفق هو من المؤكد انتحار سريع لها!. كما وإن الافتقار لمبادرة جدية تضمن للجماعات المسلحة بوصفها الذراع العسكرية الأقوى بين أطياف المعارضة خط الرجعة، سيجعل النظام يخوض قتالاً مع جماعات يائسة ما عاد لها شيء تخاف عليه!!. وبهذه الكيفية مع تداعيات الأزمة فإن النظام ذاهب إلى الموت البطيء، بكل ما يحمله هذا من احتمالات الدولة الفاشلة!!.

حيال هذا الاستعصاء نلمس قصوراً ما في الدبلوماسية الروسية التي كان ينبغي لها أن تتجاوز مبادرتها حدود النص! إلى حدود مد الجسور مع أكبر قدرٍ من أطياف المعارضة. ولا سيما أن هذه المبادرة تقوم في الجذر على مبدأ الحوار الداخلي، لكن الحوار الداخلي الآن بات غير ممكن، بل مستحيلاً، فهل تستطيع روسيا أن تكسر صقيع هذا الاستعصاء لتكون ضامنا للقادمين إلى حضن الدولة؟... لم يفت الوقت بعد.

* كاتب من لبنان
2012-02-28