ارشيف من :آراء وتحليلات
الموازنة في العراق: غياب الرؤى الاستراتيجية وحضور المزايدات الاستهلاكية
سواء كان توقيت سلسلة الهجمات الارهابية التي ضربت بغداد ومدناً اخرى قد تزامن مع جلسة مجلس النواب العراقي المخصصة للتصويت على مشروع قانون الموازنة المالية للعام الجاري، كان صدفة أو مقصوداً، إلا أنه القى بظلاله على أجواء البرلمان، ووسع باب المزايدات، ورفع مؤشر المساومات بين أعضاء البرلمان والكتل السياسية، وزاد من حدة الانتقادات الشعبية للمؤسستين التشريعية والتنفيذية على حد سواء.
ورغم ان مشروع الموازنة وضع على طاولة البرلمان منذ وقت مبكر، وتحديداً منذ بداية شهر تشرين الاول/اكتوبر الماضي، اي قبل خمسة أشهر، لكنه لم يكن متوقعا أن يحسمه البرلمان خلال وقت قصير، وبالتالي فإن مشاهد الاعوام السابقة تكررت مع اختلافات وفوارق بسيطة في طبيعة الطروحات والمطالب والشروط.
طيلة خمسة شهور كانت الموازنة من اكثر الملفات عرضة للمزايدات والمساومات السياسية البعيدة في جانب كبير منها عن هموم واحتياجات ومشاكل المواطن العراقي، وإن بدت في ظاهرها تتمحور حول تلك الهموم والاحتياجات والمشاكل وتسعى الى حلها ومعالجتها، وتقليل الفجوة بين قلة من الاشخاص، وهم الذين يمثلون الطبقة السياسية وكبار موظفي الدولة، يتمتعون بامتيازات مالية عالية من قبيل الرواتب والمخصصات والسلطة والنفوذ، وكثرة من الاشخاص، يمثلون الغالبية المطلقة من ابناء الشعب العراقي، فيهم موظفو الدولة الصغار من ذوي الرواتب المتواضعة، والكسبة في القطاع الخاص، والمتقاعدون، والطلبة والارامل والايتام وذوو الاحتياجات الخاصة، فضلاً عن اعداد هائلة من العاطلين عن العمل واغلبهم من ذوي التحصيل الجامعي. وكل هذه الفئات تعاني بشكل عام ضغوطاً حياتية كبيرة بسبب قلة ـ او انعدام ـ مداخيلها إضافة إلى غلاء الاسعار، وارتفاع معدلات التضخم، وغياب الخدمات الاساسية لا سيما الكهرباء بصورة شبه كاملة.
وكما هو الحال في الاعوام السابقة تلقت تلك الفئات وعوداً من مختلف الكتل السياسية بتحسين أوضاعها وظروفها الحياتية، من قبيل إعادة النظر برواتب موظفي الدولة بما يحقق أكبر قدر من العدالة والمساواة، وزيادة رواتب المتقاعدين والمشمولين بشبكة الحماية الاجتماعية، وتخصيص منح مالية شهرية لطلبة الجامعات، فضلاً عن شمول كل مواطن عراقي بمبالغ مالية من واردات النفط.
في ذات الوقت برز توجه واضح لإلغاء المنافع الاجتماعية للرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان) التي قد تصل الى خمسة مليارات دولار، وتخفيض رواتب وامتيازات أعضاء البرلمان وذوي الدرجات الخاصة من وزراء وممن هم بدرجة وزير ووكيل وزير.
وكما يقولون فإن الجبل تمخض فولد فأراً، فالبرلمان العراقي لم يقر أية زيادة حقيقية وفق الوعود التي أطلقها الكثير من أعضائه في اطار حملة المزايدات والمساومات، وما حصل، والذي من غير الواضح ان يصار الى ترجمته على ارض الواقع, هو توزيع فوائض الوارادات النفطية على المواطنين، علماً ان الموازنة بوبت وأقرت على اساس 85 دولاراً لبرميل النفط، وبتصدير مليونين وستمائة الف برميل يومياً، وكذلك توزيع منحة مالية قيمتها ستمائة الف دينار عراقي (خمسمائة دولار) على ست دفعات للمتقاعدين الذين تقل رواتبهم الشهرية عن اربعمائة الف دينار، ولم تتضمن الموازنة الغاء المنافع الاجتماعية للرئاسات الثلاث ولا أي تخفيض في رواتب وامتيازات الدرجات الخاصة، ناهيك عن كونها اقرت شراء سيارات مصفحة لاعضاء البرلمان بقيمة ستين مليار دينار.
وهذه النقطة الاخيرة هي التي فجرت الموقف، وكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير،ـ وفتحت الباب واسعاً لموجة من الانتقادات الحادة واللاذعة التي وجهها بعض اعضاء البرلمان لزملاء لهم واكثر منها الحملات التي انطلقت من مختلف اوساط الشارع العراقي.
وبينما يؤكد اعضاء كتلة المواطن التابعة للمجلس الاعلى الاسلامي العراقي انهم صوتوا ضد فقرة شراء السيارات المصفحة، ويطالبون بعرض التسجيل الخاص بالتصويت على الرأي العام، تقول بعض الكتل ان اعضاءها عارضوا التصويت على تلك الفقرة، كما هو الحال مع كتلة الاحرار التابعة للتيار الصدري.
ومع اتساع نطاق السجالات والجدالات حول الموازنة، راح بعض الذين صوتوا على بعض فقراتها المثيرة للجدل، لا سيما شراء السيارات المصفحة، ينتقدونها في سياق المحاولات لامتصاص ردود الفعل الشعبية الغاضبة، وبالتالي دخلت الموازنة ضمن اوراق التنافس والصراع السياسي بين الفرقاء.
وفي الوقت الذي رأت فيه كتلة "ائتلاف دولة القانون" التي يتزعمها رئيس الوزراء نوري المالكي ان شراء سيارات مصفحة تخصص للبرلمانيين خلال فترة نيابتهم امر طبيعي، كما عبر عن ذلك النائب عباس البياتي، وجدت الكتلة "العراقية" بزعامة رئيس الوزراء الاسبق اياد علاوي في تلك التوجهات فرصة لتوجيه المزيد من النقد "لدولة القانون"، علماً ان اعضاء "العراقية" صوتوا على فقرة شراء السيارات المصفحة!.
وربما كان من سوء حظ البرلمان ان يقترن تصويت اعضائه على سيارات مصفحة تخصص لتوفير المزيد من الاجراءات لحمايتهم، مع انفجار عدد من السيارات المفخخة وسقوط مئات الضحايا من المدنيين في بغداد ومدن اخرى بين شهيد وجريح. ولا شك ان اتساع دائرة الانتقادات يحتم اعادة نظر ومراجعة لبعض فقرات وبنود الموازنة، وهذا ما التفتت اليه الحكومة مبكراً، وراحت تحاول امتصاص ردود الفعل الغاضبة حيالها وتركز اللوم والانتقاد على البرلمان فقط، لذلك اتجهت الى الطعن بقرار البرلمان بالتصويت على مشروع الموازنة.
وفي هذا السياق اوعز مجلس الوزراء خلال جلسته يوم الثلاثاء الماضي لوزير العدل بالإسراع في نشر قانون الموازنة والقيام بإعداد المخالفات الواردة فيه من الناحية الدستورية أو الطعن أمام المحكمة الاتحادية بشأن تلك المخالفات وتكليف الدائرة القانونية في الأمانة العامة لمجلس الوزراء بإعداد لائحة الطعن بالمخالفات.
وقد اعتبر النائب الكردي محمود عثمان انه "من حق الحكومة ان تطعن في قرار مجلس النواب، لكن كان من المفروض إن يسبق هذا الطعن وجود تنسيق بين الحكومة ومجلس النواب لأن الامر يخص قوت الشعب وعمل الوزارات ومؤسسات الدولة"، مشيراً الى "انه عادة ما تدخل الصراعات السياسية في كل جوانب عمل مؤسسات الدولة من بينها قرار طعن الحكومة بالموازنة وحتى على قوت الشعب ودمائه"، داعياً الى "عدم أخذ قرار الطعن الكثير من الوقت من اجل عدم اعاقة عمل الوزارات وتنفيذ مشاريعها".
من جانب اخر، وحتى لا يكون البرلمان في دائرة الاستهداف وحده، دعا رئيسه اسامة النجيفي النواب الى التخلي عن شراء السيارات المصفحة، وتأجيل تنفيذ هذا القرار إلى وقت يكون الشعب فيه أكثر تفهماً لعمل البرلمانيين الشاق. ومن المستبعد ان تنتهي دوامة المزايدات والمساومات السياسية حول الموازنة التي يبدو انها ستبقى حاضرة بقوة في مقابل غياب الرؤى الاستراتيجية الواضحة والمنطقية فيها، وقد وصف بعض البرلمانيين والمتخصصين في شؤون المال والاقتصاد مشروع الموازنة بأنه اشبه ما يكون بعملية توزيع مبلغ من المال على مجموعة من المفاصل والابواب عبر مبدأ الترضيات السياسية لا الاستحقاقات والمتطلبات والضرورات الواقعية، لا سيما وان كفة الاستهلاك رجحت كثيراً جداً على كفة الانتاج والاستثمار.