نهاية جغرافيا سايكس _ بيكو: البحث عن تقسيم جديد للعالم العربي (1)
تفصلنا سنتان فقط عن ذكرى مرور مئة عام على اندلاع الحرب العالمية الاولى عام 1914 والتي انهت نحو اربعة قرون من حكم الامبراطورية العثمانية، وكان ابرز تداعياتها تقسيم تركتها في العالم العربي بين الاطراف الاوروبية التي ربحت الحرب وفق ما صار يعرف باتفاقية سايكس _ بيكو التي انشأت جغرافية عربية جديدة تضمنت مجموعة من الدول لم يبلغ اي واحد منها حتى الان عمر المئة العام. هذه الجغرافية مكنت الاستعمار الاوروبي باسم الانتداب من وضع يده على الدول الجديدة ورسم مصائر شعوب المنطقة العربية وفق خرائط هندسية ضمنها ما امكنه من اسباب نزاعات حدودية وعرقية ودينية ومذهبية وقبلية يستطيع توظيفها في المستقبل في حال اصبحت مصالحه في دائرة الخطر.
اقفلت الحرب العالمية الاولى على استصدار وعد بلفور عام 1917 بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين واقفلت الحقبة الاستعمارية المباشرة على استصدار قرار من الامم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين الى دولتين واحدة يهودية واخرى عربية، ابصرت اليهودية النور عام 1948 بما توفر لها من دعم اوروبي اميركي فيما لم تبصر الدولة العربية الفلسطينية النور حتى الان.
كان تقسيم فلسطين تجربة ناجحة اختبر فيها الغرب بمختلف جنسياته امكانيات العرب في مواجهة هكذا مشاريع فتبين انها امكانية هشة، لا بل ظهرت قابليات كثيرة لتكرار التجربة في اكثر من دولة عربية، وجرى اختبار الفكرة في عدة اماكن تبينت فيها فرص نجاح كبيرة، مثل تقسيم اليمن الى دولتين جنوبية وشمالية، قبل ان تعودا للتوحد قبل نحو عقدين من الزمن.
اليوم تبدو جغرافية سايكس بيكو كانها ادت وظيفتها وانتهت ولم تعد تنفع لعالم برزت فيه قوى اخرى مناوئة للغرب وضعت مصالحه في دائرة الخطر وباتت تشكل منافسا له على السوق وعلى الموارد وعلى الثروات، فضلا عن النفوذ السياسي والثقافي، فكان لا بد من الانتقال الى خريطة جديدة للمنطقة موجودة منذ عقود على طاولات صناع القرار الاميركي والاوروبي مرفقة بابحاث اكاديمية معمقة انجزها للاسف طلاب دراسات عليا من العالم العربي لنيل شهادات الماجستير والدكتوراة من جامعات اوروبية واميركية معروفة. وتتضمن هذه الدراسات ادق التفاصيل عن البيئات الاجتماعية والثقافية والدينية والعرقية والسياسية والاقتصادية ومن اكثر من منظور علمي (علم الشعوب، علم الاجتماع، علم النفس، علم السياسة، علم السكان..الخ) بما يتيح توظيف هذه المعرفة في بلورة قرارات مصيرية لدى اولئك الباحثين دائما عن سبل حماية مصالحهم وزيادة مداخيلها.
ليس في هذا الكلام اي مبالغة ولا اي صلة بنظرية المؤامرة التي طالما رماها البعض في وجه من يقرع جرس الانذار من مشاريع تقسيم جديدة للعالم العربي. مصطلح الشرق الاوسط الجديد هو ابرز المصطلحات المتداولة منذ سنوات على لسان كبار المسؤولين الاميركيين والاوروبيين، وبرز اكثر بعد هجمات 11 ايلول 2001 ضد الولايات المتحدة. ويوجد نسخ وترجمات كثيرة تعرض لتفاصيل هذا المشروع الذي كانت حرب تموز ضد لبنان عام 2006 احدى ابرز محطاته وقبلها اجتياحا افغانستان والعراق. وهناك اسباب جوهرية عديدة يمكن ايجازها بسرعة وهي متداولة في صلب جميع الابحاث التي تناقش امكانيات التقسيم الجغرافي الجديد للعالم العربي، وابرز هذه الاسباب الهزائم المتتالية التي لحقت باسرائيل على يد حزب الله والمقاومة الفلسطينية وتراجع وظيفة اسرائيل من قوة مهاجمة قادرة على الضرب اين ما تشاء الى قوة محاصرة بجدار اسمنتي والكتروني ومترددة ان لم تكن عاجزة عن الضرب، وباحثة حصراً عن سبل حماية نفسها. ويمكن تلخيص كل الوضع الاسرائيلي بعبارات موجزة مثل تراجع دورها في حماية المصالح الغربية لصالح البحث عن حماية نفسها، وطبعا هذا تطور سلبي كبير في وظيفة اسرائيل منذ انشائها.
المعطى الثاني يكمن في التراجع الاميركي نفسه وما بات يسمى الضمور الاميركي بعد سلسلة الهزائم المباشرة بدءا من هزيمتها في لبنان عام 2006 ربطا بالهزيمة الاسرائيلية في حرب تموز، مرورا بهزيمتها في العراق وصولا الى هزيمتها المرتقبة في افغانستان، وبين كل ذلك ما يمكن تسميته بالعجز الاميركي الاوروبي ازاء التمدد الايراني، وبموازة ذلك اعادة تشكل العالم وفق نظام متعدد الاقطاب انهى فترة الاحادية التي اعقبت انهيار المعسكر الاشتراكي، اذ انه بوجد اليوم على الساحة العالمية لاعبين كبيرين غير الولايات المتحدة وهما الصين وروسيا، ولاعب اقليمي ذو بعد دولي كبير اسمه ايران.
وحيث ان العالم العربي هو احد مسارح التنافس، فان المعطى الثالث تمثل بانطلاق موجة الثورات الشعبية من تونس مطلع العام 2011 وانهيار نظامين حليفين لواشنطن فيها وفي مصر وتهديد انظمة حليفة اخرى لها في الخليج وغيرها بمصير مشابه، ما استدعى من الاميركيين البحث مباشرة عن الخيارات المتاحة لاستيعاب التحولات العربية ووضع حد لعملية انهيار المواقع الاميركية ومواجهة المخاطر المرتقبة على المصالح الاميركية خصوصا والغربية عموماً. ذلك ان هذه التحولات تتضمن صعودا بارزا للتيار الاسلامي المناوئ للهيمنة الاميركية، وان تأخر بعض اطرافه في الافصاح رسميا عن مواقفهم من القضايا الخارجية، بما يؤدي الى تشكل بيئة شعبية حاضنة لمشروع تغييري كبير اطلقت عليه ايران اسم الصحوة الاسلامية ومدت اليه اليد مباشرة لتشكيل مصير جديد لعالم عربي واسلامي متحرر من الهيمنة والنفوذ الاميركيين، واي نفوذ استعماري آخر، وهو خطاب يلاقي جاذبية كبيرة لدى الثورات الجديدة، لاسيما وان هذا المزاج العام تم التعبير عنه انتخابيا بايصال غالبية كبرى من المرشحين الاسلاميين الى مجلسي النواب في تونس ومصر، وهو مآل مرتقب في اي بلد يشهد عملية تغيير مماثلة.
هل هذه التغييرات مفاجئة في مضمونها لصناع القرار في واشنطن؟ هي مفاجئة في توقيتها نعم، لكن في هويتها ومشروعها الفكري فهي مرتقبة ومتوقعة، لذا فان سبل المواجهة موجودة مسبقا في كيفية التعاطي مع هكذا حالات، خاصة انه كان هناك في الولايات المتحدة واوروبا من يتوقعها، لذا ستظهر على الطاولة سريعا الافكار المكثفة التي انتجت في حلقات بحثية متخصصة وبناءا على تقارير استخبارية ودراسات تاريخية تعين على بلورة خيارات تجهض نمو التيار الاسلامي وتضع حدا لمخاطره،لاسيما ان اسرائيل في قلب تلك العاصفة، حيث ان يوما تحاط فيه هذه الدولة العبرية ببيئة شديدة الرفض لها ومن منظور ديني كان دائما يوما مرتقبا في تل ابيب، لذا كانت الفكرة الموجودة دائما على طاولة صناع القرار الاميركيين والاوروبيين والاسرائيليين هي تشتيت اي قوة اسلامية صاعدة واختلاق نزاعات بينية داخلها وصرفها الى اشتباكات داخلية تحول دون تبلورها على شكل خطر استراتيجي يتهدد وجود اسرائيل ونفوذ الولايات المتحدة واوروبا، وهذا طبعا ليس ابتكارا جديدا، بل اسلوبا معتمدا منذ زمن يتم تجديده باشكال ومسميات مختلفة تلائم زمانه ومكانه، وكان سابقا يختصر بنظرية "فرق تسد"، ولديه اليوم اسماء عديدة لكن بالمضمون نفسه، لكن ان لم تكن التفرقة هي طريق لبسط النفوذ، فانها اليوم على الاقل طريق لدرء المخاطر او في احسن الاحول تقليصها.
عبد الحسين شبيب