ارشيف من :آراء وتحليلات

"دولة برقة" على الأعتـاب المصرية... ماذا بعد اكتمال الطـوق؟!

"دولة برقة" على الأعتـاب المصرية... ماذا بعد اكتمال الطـوق؟!
أعظم ما تعلمته من نظام الرئيس مبارك هو كيف ينهزم وطن دون أن يحارب وكيف يتحلل مجتمع دون أن يموت
الكاتب المصري الراحل جلال عامر

مبروك للعرب مولودهم الجديد الذي يطل برأسه من رحم الشرق الأوسط الجديد،"دولة برقة"!؛ وقد سبقه إلى الحياة جمهورية جنوب السودان، ثم "الحراك "اليمني الجنوبي" تمهيداً للعودة إلى الانفصال. وتكر السبحة!.
البارز في الحدث الجديد أنه مفصلي بحكم الجغرافيا بما سيترتب عليه سريعاً من حالة انفراط الأقاليم الليبية الثلاثة. ومنها إلى شمال أفريقيا بفعل الدومينو الذي يشق طريقه بسهولة في مجتمعات قبلية، فكيف إذا أدى القمع والاستبداد إلى وهن في الانتماء للدولة بوصفها في هذه الحالة الإطار الجامع لقطع الموزاييك الاجتماعي ليس أكثر!.
لا شك بأن الأكثر تأثراً سيكون مصر، مع اجتماع عاملين: تنامي الولاء القبلي في الأطراف غير الحضرية نسبياً! مع العامل الجغرافي حيث امتدادات إقليم برقة شرقاً إلى مصر ترسمه الديموغرافيا السكانية التي هي من نسيج قبلي واحد على جانبي الحدود!

إنها ذات القبائل التي تشدها صلة الدم وتتوزع بين برقة الليبية، والجانب المصري، أبرزها: أولاد علي بمحافظة البحيرة وقبيلة العوامة بمحافظة مطروح وقبيلتا المنفه والعجنة ببرج العرب، وقبائل واحة سيوه، وقبائل القطعان بمنطقة سيدي برانى على الحدود الليبية وقبيلة الجوابيص والفوايد والحرابي والرماح والفرجان والجوازي.. وغيرهم يمتدون حتى محافظتي المنيا وأسيوط. وهذه مع غيرها مما لم نأتِ على ذكرها تشكل رقماً كبير يبلغ 13 مليوناً بحسب تقديرات شبه مؤكدة.

هذا الواقع فتح شهية القذافي ليحلم بتوسيع (ملكه)، وقد بدأ فعلياً بوضع يده على هذه القبائل مستغلاً فقرها، ومستغلاً وهن السلطة المركزية المصرية؛ حتى بلغ به لعب دورٍ أبوي حيال هذه القبائل ناقلا ظلاماتها للسلطات المصرية! كان يلقى من هذه القبائل استقبالاً وهتافاً فبدت وكأنها جزءٌ من رعيته، يرفعون له الأعلام الخضراء، وتُعدُّ له مهرجانات الاستقبال؛ وبدوره كان القذافي يتعامل معهم بوصفهم وديعة ليبية عند مصر! وكمثال عليه نستعيد ما جاء في كلمته في أحد المهرجانات التي أقيمت له في "العامرية" بمحافظة الإسكندرية يوليو/ تموز ـ 2008. حيث قال: "هذه المناطق كلها التي الآن نحن موجودون بها بيّنت وكأننا ـ في الجبل الأخضر أو في سرت أوفي زليتن أو في مصراتة أو في ترهونة أو في الجبل الغربي، لأنه لا تحس أنك في مكان آخر أو أن وراءك حدوداً... هنا شعب واحد يمتد من النيل إلى جبل نفوسة..." ـ وليس لجبال الأورال أو الأطلس في المغرب!ـ التحديد هنا غير بريء!!. أما مسألة "الوديعة" التي أشرنا إليها فتظهر في خطابه بين هذه السطور: "وجهت عدة ملاحظات أو نصائح لأبناء القبائل الذين التقيت بهم بأن يقدروا وجودهم هنا في أرض الكنانة، ويقدروا احتضان مصر لهذه القبائل العربية.."!.

"دولة برقة" على الأعتـاب المصرية... ماذا بعد اكتمال الطـوق؟!

طبعا لم يكن أحد من أهل السلطة في مصر آنذاك ليسأل عن هذه الإيماءات غير البريئة. أو ليستوقفه شيء ما ـ كما استوقف بعض المراقبين في حينها ـ رابطين هذه الظاهرة (القذافية!) غير البريئة بانعطافه نحو الغرب. وايضا بمخططات الغرب لتقسيم المنطقة. وقد أعفت وقاحة بوش الابن أحداً للبحث عنها يوم أفصح عن النيه في تقسيم السعودية لخمس دول!، بل وفي لحظة من نشوة (المنتصر) بعيد احتلاله للعراق أشار إلى أن مصر ستكون في الشرق الأوسط الجديد "الجائزة الكبرى"!... ترى لمن تكون هذه الجائزة؟!!!. وكيف؟. الأمر لا يحتاج لعناء. إنها للربيب المدلل "إسرائيل" من خلال تقسـيم مصر. وتحويلها إلى كيان هيولي غير متماسك. يجعل من "إسرائيل" كياناً قابلاً للحياة لقرن على الأقل.

لقد التقط القذافي الإشارة فكان أن اختار أقصر الطرق قاصداً به ضرب عصفورين بحجر واحد؛ طلب ود "اسرائيل" كمدخل لرضى الغرب عليه، لقاء بقائه في الحكم ثم توريثه! هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى إشغال دورٍ في تفتيت مصر!. مماثل لدوره في دعم الحركة الانفصالية جنوب السودان!. (دفعة على الحساب!) لنيل جائزة ترضية من ( الكعكة المصرية)! هي الجزء الغربي من مصر الممتد من السلوم حتى محافظة البحيرة. وإلى الواحات جنوباً.. هذا المدخل الاسرائيلي ولجه أكبر أبنائه "سيف الاسلام". بشكل مفضوح؛ وأدى كما بدأت تكشف المعلومات إلى حضور كبير للموساد الإسرائيلي في "باب العزيزية" مقر القذافي، ما يسمح لنا بالمحصلة الاستنتاج بأن "العقيد" كان يسعى ليكون وكيلاً لأمريكا في منطقة شمال أفريقيا تماماً كما الآن قطر التي تنفرد بهذه الوكالة الحصرية بشكل موسع !.ـ مع منافسة سعودية لسحب بعض الامتيازات الممنوحة امريكياً للقطرين!! ـ.

لا شك بأن الأمريكيين في البداية كانوا حريصين على الاحتفاظ (بالعقيد)، والأكثر منهم كان الإسرائيلون؛ بدليل ما قدموه له من مساعدات بدايات الثورة، الأمر الذي مكنه من استعادة زمام المبادرة. وحشر الثوار في بنغازي التي أصبحت على وشك السقوط يومها! سبق ذلك وعودٌ قدمها "العقيد" للغرب بإعادة النظر بكل عقود النفط. وهذا ما جعل الروس غير متحمسين كما بدا للتدخل في ليبيا.

غير أن الغرب وجد بأن القذافي ـ بعد مسلسل الدم ـ بات ورقة محروقة في الداخل الذي أصابته رياح الثورة التونسية والمصرية، وهو بالإضافة غير حريص بالأساس على مجاراة طموح "القائد!!" في توسيع رقعة ليبيا. فحَوَّل إنتصاراته على الثوار إلى أداةٍ لابتزازهم. حتى إذا ما احتواهم انقلب هذا الغرب على القذافي نفسه مراهناً وبلا شك على الأبواب الواسعة التي تقوده لاحتواء ليبيا ككل، وهي التناقضات القبلية والجهوية والأتنية وشاهدها الآن إنفصال أقليم برقة.

حاول "العقيد" أن يتذاكى على الغرب باسترضائه ليصيب عصفورين. فصاده الغرب!. وصاد معه ثلاثة عصافير. نفط ليبيا المستباح بلا رقيب. تقسيم ليبيا. تطويق مصر بكيانات مقسمه تصبح فيما بعد منصة لاستهدافها بذات الرياح الصفراء. ومصر هي بحق" الجائزة الكبرى" لأنها عمود الأمة، وبالتالي لا قيامة للعرب من غيرها.

أما المصريون فهم على تناحرهم بما فيهم أبناء الصف الواحد سواء القوى القومية، أو القوى الاسلامية. هذه الأخيرة بالتحديد ينبغي عليها أن تتعلم من أمثولة العقيد وهي تناور مع الأمريكين. ـ او تتكتك ـ . شيء يذكرنا بـ"التكتكجيه" التعبير الساخر للشاعر العراقي مظفر النواب!. كل هذا يشهد على تلاشي الإحساس بالخطر الذي يرتب الحركة ولو بأدنى مستوياتها: الدفاع المباشر بحكم قانون رد الفعل. هذا غير موجود على المستوى الرسمي مع (مجلس العاجزين العسكري). والأخطر أن أبعاده على المستوى الشعبي، غير واضحة، وحيث الأخطر من الخطر نفسه هو الاستخفاف فيه. ومنه فائض اعتداد المصريين ـ التاريخي!ـ الذي يعطي في هذه الحالة ثقة غير واقعية بقدرة مصر على قلب الدفة في معركة تستهدفها وقد أعد لها الكبار جيداً ومنذ زمن.

من جهة أخرى تبرز ظاهرة غريبة وهي تصرف هذه "الكتلة التاريخية" التي صنعت ثورة 25 يناير/كانون الثاني ووجه الغرابة يكمن في عدم قدرتها على الاستمرار في مشروع الحد الأدنى الذي أجمعت عليه؛ كما أجمعت الكتل التاريخية التي صنعت الثورات وهي لم تكن متجانسة ولكنها كانت قادرة على بلورة "المصلحة الموضوعية الواحدة" بحسب تعبير محمد عابد الجابري. هكذا كان الحال في الثورات الفرنسية، الأمريكية، الروسية، الإيرانية.
ترى ألا تستحق مسألة: (بقاء مصر) بحد ذاتها لكي يكون هو "مصلحة موضوعية واحدة"، نحن هنا نتحدث عن دولة عريقة عمرها سـبعون قرناً من الزمن.

لؤي توفيق حسن:(كاتب من لبنان)
2012-03-13