ارشيف من :آراء وتحليلات
التقسيم الجديد للعالم العربي: نماذج تطبيقية نفذت وأخرى قيد التنفيذ (2)
عبد الحسين شبيب
في المقالة السابقة تحدثنا عن الخلفية الأساسية التي تكمن وراء اشتغال الغرب على تقسيم العالم العربي وإنشاء جغرافية جديدة بعدما انتهت وظيفة جغرافية سايكس ـ بيكو، وهي تشتيت القوة الصاعدة للتيار الاسلامي من خلال افتعال نزاعات بينية تصرف هذه القوة عن عدوها الحقيقي "اسرائيل". وثمة طبعاً خلفيات ـ وظائف اخرى تتعلق بفتح مسارات جديدة للنفوذ في منطقتنا من خلال حاجة الدول الناشئة لرعاية خارجية حتى تضمن استمراريتها، وهذه الوظيفة تفتح على وظائف اخرى تتعلق بثروات تلك الدول المتوقع نشوؤها وتسليحها بما يعني ايجاد فرص عمل جديدة للدول العظمى تشكل مورداً مالياً مهماً لها في ظل نضوب ثرواتها وتصاعد ازماتها الاقتصادية.
الكلام في هذا المجال عليه شواهد وادلة كثيرة يمكن العثور عليها في عملية بحث قصيرة على اي محرك بحث على شبكة الانترنت بما يوفر مصادر متنوعة الجنسيات تشرح باستفاضة الخلفيات ـ الوظائف الجديدة للجغرافية التي يعمل على رسم خارطتها هذه الايام. لا يقع هذا الكلام في نطاق المؤامرة، لان عملية بحث أخرى على الشبكة العنكبوتية تزود الباحث بما يحتاج من خرائط ورسوم ووثائق ودراسات معدة منذ زمن عن الشرق الاوسط ومن مصادر ومؤسسات موثوقة واغلبها غربي واغلبها متصل بمراكز صنع القرار في العواصم الغربية. وما يعزز المخاوف هو النماذج التطبيقية التي ابصرت النور خلال فترة زمنية تعد قصيرة جداً في عمر الدول وفي علم السياسة. وحتى لا ينسى احد فإنه في عقدين من الزمن فقط، اي بين العامين 1991 و2011 انشئت دولتان جديدتان في العالم العربي اقتطعتا من قلب وروح دولتين كبيرتين، هما العراق والسودان.
عام 1991 وبعد حرب عاصفة الصحراء التي دبرتها واشنطن لصدام حسين واغوته بغزو الكويت ثم استقدمت جيوشها باسم تحرير هذه الدولة الخليجية، ثم فرضت حظراً جوياً على العراق لتفتح الباب واسعاً امام اقامة دولة كردية في الشمال، يطلق عليها مجازاً اليوم اسم اقليم كردستان، ولديها رئيس وحكومة وبرلمان وعملة وعلم وحدود وكل ما تحتاج الدولة من عناصر، بما فيها السيادة. ولم يحرك العالم العربي ساكناً، بل انه وقف حينها مجتمعاً خلف الجيوش الغربية باسم تحرير بلد شقيق اسمه الكويت. لا احد طبعاً ينسى، الا من يريد ان يتناسى، ان صدام ارتكب افظع مجازره في مدينة حلبجة الكردية باسلحة كيمائية فتاكة زودته بها دول غربية عدة كانت تعرف اين وكيف سيستخدمها، ثم نفس هذه الدول رعت عملية فصل شمال العراق عن بقية المناطق.
اليوم وبعد عشرين عاماً على هذه التجربة ورغم الاحتلال الاميركي للعراق والخروج المذل منه، الا ان اي عملية لاعادة الشطر الشمالي منه الى حضن السلطة المركزية لم تبصر النور، لا بل تعززت النزعات والاحاديث الانفصالية وبات الحديث عن تقسيم العراق الى ثلاث دويلات: كردية قائمة حالياً بالواقع في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، وفي هذا نصوص كثيرة متداولة.
العام الماضي وقبيل اسبوع فقط من انطلاق الثورات العربية اُنجزت "قانونياً" عملية تقسيم السودان وتم فصل جنوبه عن شماله باسم "حق تقرير المصير" ونظم استفتاء كانت نتائجه معروفة ومعلنة مسبقاً، ووظفت الولايات المتحدة كل امكانياتها وترهيبها للنظام السوداني برئاسة عمر حسن البشير ووضعت فوق رأسه المحكمة الجنائية الدولية، فكان للولايات المتحدة ما تريد، وابصرت رسمياً منتصف العام 2011 الدولة الجنوبية النور وباتت قائمة بكل ما للكلمة من معنى، الى درجة ان السودانيين الشماليين المقيمين في الجنوب باتوا رعايا اجانب في اقل من عام، وكذلك صار الجنوبيون المقيمون في الشمال رعايا اجانب تتم معاملتهم كأي مواطن اجنبي يدخل "السودان القديم".
وكما في شمال العراق حيث تنشط الاستخبارات الاسرائيلية ويتوغل نفوذها في ذلك الاقليم، فإن اول شيء فعلته دولة جنوب السودان هو اعترافها بـ"اسرائيل"، وباتت سفارتها في الدولة الوليدة تحصيلاً حاصلاً. وكما "اسرائيل" فإن القاسم المشترك الاكبر الآخر بين الدولتين الوليدتين هو النفط، فكلاهما تعومان على الذهب الأسود الذي سيبقى حتى امد طويل يسيّل لعاب الدول الغربية، وسيبقى كما سيتضح لاحقاً حاضراً كما "اسرائيل" في خلفية اي نشاط اميركي ـ اوروبي مشترك لاستهداف العالم العربي والاسلامي.
طبعاً بقية القصة معروفة التفاصيل، فلم تنبس الدول العربية ببنت شفة ضد عملية تقسيم السودان، كما العراق قبلها، ووجدت هذه الدول "عذراَ" في انصرافها الى شؤونها الداخلية باسم مواجهة استحقاق الثورات الشعبية، ليتضح على الدوام ان عالمنا العربي "الرسمي" هذا ليس لديه القدرة على التركيز على اكثر من القضية والعمل على اكثر من جبهة في وقت واحد، وهو اصلاً لا يريد اختبار قدراته في هذا المجال.
اليوم وبعد عام بالتمام فقط على تقسيم السودان توضع ليبيا على مشرحة التقسيم بشكل جدي وعلى مرأى ومسمع من الرعاة الغربيين الذين صادروا الثورة الشعبية التي أسقطت نظام الطاغية معمر القذافي والتفوا على انجازات الثوار، ومدوهم بما تيسر من سلاح فردي سيكون عدة الشغل الاولى في تأزيم الوضع الامني وفتح باب الصراعات المناطقية والقبلية على مصراعيها، تمهيداً لنزاعات اكبر تؤدي في خاتمة المطاف الى تكرار تجربة الشقيق الجغرافي الاكبر، أي السودان، الذي انتهت حربه الاهلية باتفاق رسمي على تقسيمه لدولتين، والثالثة على الطريق.
المحطة الاولى في ليبيا كانت من برقة التي اعلن زعماؤها القبليون وسياسيوها منطقتهم "اقليماً فدرالياً اتحادياً ذاتي الحكم" واختاروا الشيخ أحمد الزبير الشريف السنوسي رئيساً لمجلسه الأعلى، وذلك كتعبير ملطف لمسار مرتقب للانفصال عن بقية الدولة الليبية. اما الذرائع فمتعددة، منها التهميش من قبل القيادة التي تدير البلد الآن باسم المجلس الوطني، وعدم منحهم حصتهم في التعيينات العسكرية وغيرها، واعادة تدوير بعض قيادات النظام السابق لدمجهم في السلطة الجديدة، وغيرها من الاعتبارات التي دفعت زعامات برقة الى رفض الصيغة الجديدة وطرح صيغتهم التي تستعيد ثلاثية كانت تحكم ليبيا سابقاً تتمثل باقاليم برقة في الشرق وفزان في الجنوب وطرابلس في الغرب.
من الذي شجع هذه الزعامات على هذه الخطوة؟ بالتاكيد فإن المجتمع الدولي ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا التي تفردت بإدارة الملف الليبي بعد الثورة ستجد في خطوة الفدرالية هذه طريقاً لتحقيق طموحاتها في تجزئة هذا البلد، لا سيما وان اقليم برقه يشتهر بأنه غني بالنفط، وهو يحتاج حكماً الى رعاية خارجية لكي يستطيع ان يواصل خطته نحو الانفصال. وقد كان لافتاً في الملاحظة الاولى ان هذه الدول لم تعلق على هذه الخطوة، التي ستُقدَّم لاحقاً على انها "تعبير عن رغبة جزء من الشعب الليبي في ممارسة حقه بتقرير المصير" ويفترض دعمه كما دعموا جزءاَ من الشعب السوداني باسم هذا الحق.
اما الملاحظة الثانية فهو التراجع الذي ابداه رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل عندما هدد باستخدام القوة لمنع تقسيم ليبيا، قبل ان يتراجع عن نبرته تلك في تصريح آخر ويراهن فقط على وعي الجماهير في منع مؤامرة التقسيم، ويسحب التهديد بالقوة، ما يؤكد ان هذا الامر يتخطى نطاق وقدرات عبد الجليل ومجلسه الوطني، لا سيما في ظل تقديرات غربية متقاطعة تفيد بانطلاق قطار التقسيم الليبي، وهو ما جزم به الصحافي الفرنسي جان لوي لو توزيه الذي سأل في تحقيق له في صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية بعيد اعلان برقه: «هل يكون هذا الإعلان آخر فصول التقسيم في ليبيا؟»، واحال لو توزيه الاجابة الى الدبلوماسي السابق في ليبيا، باتريك حايمزاداه، ليقول ان «مسألة التقسيم حتمية»، مشيراً إلى رفض البنغازيين للحكم الذي تمثله طرابلس.
وفي غمرة المقالات والتحقيقات التي تناولت الحدث الليبي اطلت لعبة المصالح برأسها لتعطي نموذجاً عن الفوائد الاقتصادية لتعزيز الغرب نزعات الانقسام والانفصال، حيث لا يحظى نشاط المستثمرين والسياسيين الغربيين في ليبيا بتغطية إعلامية كبيرة، ويبقى طي الكتمان، لكن زيارة وزير الدفاع الفرنسي الى ليبيا وتوقيع صفقات سلاح وتدريبات مع الجيش الليبي، يضيء على عمليات الاستغلال الاقتصادي لمآسي الشعوب وكيف تحاول فرنسا "اقتطاف أرباح الحرب، وسعيها لتوقيع عقود جديدة وإعادة طائرات الميراج إلى عتاد الجيش الليبي"، وهو طبعاً يمكن ان يتكرر مع اي اقليم سينفصل وسيحتاج الى مقومات بناء دولة مستقلة وبينها طبعاً التسلح، وحكماً لن يكون الشراء من غير اولئك الذين "لليبيين" في رقبتهم فضيلة تحريرهم من حكم الطاغية.
اين تقع برقة؟ برقه تمتد على طول الحدود الغربية للسودان ومصر. ومن دون الاستفاضة بالحديث فإن اقليم دارفور غرب السودان المرجح لأن يصبح دولة مستقلة تماماً كدولة الجنوب يجاور هذا الاقليم الليبي، وبين زعامات حركة العدل والمساواة التي تقود الحراك السياسي والعسكري في دارفور ضد الحكومة المركزية في الخرطوم صلات وثيقة وحضور في ليبيا، وكانت سابقاً محل اعتراض واحتجاج من قبل حكومة الخرطوم. وعليه يمكن اضافة ادوات تفسير مساعدة لتحليل ما سيلي من تداعيات تقسيم ليبيا بدءاً من برقة. اما مجاورة الاخيرة لمصر فهي ايضاً ذات صلة بالموضوع نفسه، ولا نعرف إن كان من باب المصادفة او اي حكمة اخرى تقف خلف تزامن تعبير اهالي برقة عن رغبتهم بالانفصال وبين كشف قاضيي التحقيق المصريين في قضية التمويل الأجنبي المستشارين سامح أبو زيد و أشرف العشماوي ـ والتي اوقف فيها عدد من الاميركيين والمصريين ثم اطلاق الاوائل بصفقة مشبوهة ـ في مؤتمر صحفي عقداه في مقر وزارة العدل عن الخرائط التي عثروا عليها داخل مقر المعهد الجمهوري الأميركي فى الدقي حول تقسيم مصر الى أربع دويلات: الدلتا وقنال والقاهرة الكبرى وصعيد مصر، فاتحين الجدل على مصراعيه حول حقيقة وظيفة بعض المنظمات التي تختبئ وراء حقوق الانسان. ولدى الكثير من الباحثين المصريين قناعة تامة بأن هناك مشروع تقسيم معداً منذ زمن بعيد لبلدهم، ويشيرون دائماً الى مشروع "الشرق الاوسط الكبير" الذي تبناه الكونغرس الأمريكي عام 1983 لتقسـيم المنطقـة العربية إلى دويلات صغيرة طائفيـة يسـهل التحكم فيها، وبحيث تكون في نهايـة الأمر السيطرة للولايات المتحدة و"إسـرائيل".
وقبيل اعلان القاضيين ابو زيد والعشماوي وبعد الاعلان نشرت مقالات ودراسات كثيرة تمحورت حول هذا المخطط الذي اعده د.برنـارد لويـس، الذي يطلق عليه اسم "بطريـرك الاستشـراق الاميركي الصهيوني"، لتقسيم الدول العربية والاسلامية الى عدة دويلات ، وذكر منها مصر ووزع خريطة تقسيمها الى اربع دويلات هي دويلة اسلامية في الشرق، ودويلة مسيحية في الصعيد، ودويلة نوبية في جنوب مصر مع حدود السودان، ودويلة في سيناء يتم "طرد" الفلسطينيين من قطاع غزة اليها.
ويشير هؤلاء الى انه في خطة لويس تم اقتراح تقسيم السودان إلى ثلاث دويلات واحدة في الجنوب واخرى في الشمال وثالثة في الغرب، اي دارفور. ودولة النوبة هذه تتاخم اقليم برقة في جنوب غرب مصر، تماماً كما تحاذي اقليم دارفور. والمعروف والمتداول ان هناك تقاطعاً سكانياً كبيراً بين اقليم برقة وجوارها المصري حيث تنتشر القبائل والعائلات بين البلدين وبينهما صلات قرابة كبيرة الى درجة ان النظام الليبي السابق كان يعتبر سكان المناطق المصرية المجاورة لبرقة وديعة ليبية في مصر.
ما تقدم يوضح ان ثمة مساراً تقسيمياً مرسوماً بعناية ويتم حالياً تجهيز ادوات تشغيله عبر استغلال فوضى مرحلة ما بعد الثورات، وهي عادة تشكل اخطر المراحل في تاريخ اي ثورة واي بلد، لا سيما وان هناك من سارع الى اقتناص الفرص لاستيعاب هذه التغيرات وتمرير مشاريعه. لكن اذا كانت احجار الدومينو التي بدأت تساقطها من برقة مرجحة وفق الخرائط الموجودة للتدحرج الى الجوارين المصري والسوداني، فهل من صلة للمعزوفة الليبية بسوريا؟
(يتبع جزء ثالث)
في المقالة السابقة تحدثنا عن الخلفية الأساسية التي تكمن وراء اشتغال الغرب على تقسيم العالم العربي وإنشاء جغرافية جديدة بعدما انتهت وظيفة جغرافية سايكس ـ بيكو، وهي تشتيت القوة الصاعدة للتيار الاسلامي من خلال افتعال نزاعات بينية تصرف هذه القوة عن عدوها الحقيقي "اسرائيل". وثمة طبعاً خلفيات ـ وظائف اخرى تتعلق بفتح مسارات جديدة للنفوذ في منطقتنا من خلال حاجة الدول الناشئة لرعاية خارجية حتى تضمن استمراريتها، وهذه الوظيفة تفتح على وظائف اخرى تتعلق بثروات تلك الدول المتوقع نشوؤها وتسليحها بما يعني ايجاد فرص عمل جديدة للدول العظمى تشكل مورداً مالياً مهماً لها في ظل نضوب ثرواتها وتصاعد ازماتها الاقتصادية.
الكلام في هذا المجال عليه شواهد وادلة كثيرة يمكن العثور عليها في عملية بحث قصيرة على اي محرك بحث على شبكة الانترنت بما يوفر مصادر متنوعة الجنسيات تشرح باستفاضة الخلفيات ـ الوظائف الجديدة للجغرافية التي يعمل على رسم خارطتها هذه الايام. لا يقع هذا الكلام في نطاق المؤامرة، لان عملية بحث أخرى على الشبكة العنكبوتية تزود الباحث بما يحتاج من خرائط ورسوم ووثائق ودراسات معدة منذ زمن عن الشرق الاوسط ومن مصادر ومؤسسات موثوقة واغلبها غربي واغلبها متصل بمراكز صنع القرار في العواصم الغربية. وما يعزز المخاوف هو النماذج التطبيقية التي ابصرت النور خلال فترة زمنية تعد قصيرة جداً في عمر الدول وفي علم السياسة. وحتى لا ينسى احد فإنه في عقدين من الزمن فقط، اي بين العامين 1991 و2011 انشئت دولتان جديدتان في العالم العربي اقتطعتا من قلب وروح دولتين كبيرتين، هما العراق والسودان.
عام 1991 وبعد حرب عاصفة الصحراء التي دبرتها واشنطن لصدام حسين واغوته بغزو الكويت ثم استقدمت جيوشها باسم تحرير هذه الدولة الخليجية، ثم فرضت حظراً جوياً على العراق لتفتح الباب واسعاً امام اقامة دولة كردية في الشمال، يطلق عليها مجازاً اليوم اسم اقليم كردستان، ولديها رئيس وحكومة وبرلمان وعملة وعلم وحدود وكل ما تحتاج الدولة من عناصر، بما فيها السيادة. ولم يحرك العالم العربي ساكناً، بل انه وقف حينها مجتمعاً خلف الجيوش الغربية باسم تحرير بلد شقيق اسمه الكويت. لا احد طبعاً ينسى، الا من يريد ان يتناسى، ان صدام ارتكب افظع مجازره في مدينة حلبجة الكردية باسلحة كيمائية فتاكة زودته بها دول غربية عدة كانت تعرف اين وكيف سيستخدمها، ثم نفس هذه الدول رعت عملية فصل شمال العراق عن بقية المناطق.
اليوم وبعد عشرين عاماً على هذه التجربة ورغم الاحتلال الاميركي للعراق والخروج المذل منه، الا ان اي عملية لاعادة الشطر الشمالي منه الى حضن السلطة المركزية لم تبصر النور، لا بل تعززت النزعات والاحاديث الانفصالية وبات الحديث عن تقسيم العراق الى ثلاث دويلات: كردية قائمة حالياً بالواقع في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، وفي هذا نصوص كثيرة متداولة.
العام الماضي وقبيل اسبوع فقط من انطلاق الثورات العربية اُنجزت "قانونياً" عملية تقسيم السودان وتم فصل جنوبه عن شماله باسم "حق تقرير المصير" ونظم استفتاء كانت نتائجه معروفة ومعلنة مسبقاً، ووظفت الولايات المتحدة كل امكانياتها وترهيبها للنظام السوداني برئاسة عمر حسن البشير ووضعت فوق رأسه المحكمة الجنائية الدولية، فكان للولايات المتحدة ما تريد، وابصرت رسمياً منتصف العام 2011 الدولة الجنوبية النور وباتت قائمة بكل ما للكلمة من معنى، الى درجة ان السودانيين الشماليين المقيمين في الجنوب باتوا رعايا اجانب في اقل من عام، وكذلك صار الجنوبيون المقيمون في الشمال رعايا اجانب تتم معاملتهم كأي مواطن اجنبي يدخل "السودان القديم".
في عقدين من الزمن فقط، اي بين العامين 1991 و2011 انشئت دولتان جديدتان
في العالم العربي اقتطعتا من قلب وروح دولتين كبيرتين، هما العراق والسودان |
وكما في شمال العراق حيث تنشط الاستخبارات الاسرائيلية ويتوغل نفوذها في ذلك الاقليم، فإن اول شيء فعلته دولة جنوب السودان هو اعترافها بـ"اسرائيل"، وباتت سفارتها في الدولة الوليدة تحصيلاً حاصلاً. وكما "اسرائيل" فإن القاسم المشترك الاكبر الآخر بين الدولتين الوليدتين هو النفط، فكلاهما تعومان على الذهب الأسود الذي سيبقى حتى امد طويل يسيّل لعاب الدول الغربية، وسيبقى كما سيتضح لاحقاً حاضراً كما "اسرائيل" في خلفية اي نشاط اميركي ـ اوروبي مشترك لاستهداف العالم العربي والاسلامي.
طبعاً بقية القصة معروفة التفاصيل، فلم تنبس الدول العربية ببنت شفة ضد عملية تقسيم السودان، كما العراق قبلها، ووجدت هذه الدول "عذراَ" في انصرافها الى شؤونها الداخلية باسم مواجهة استحقاق الثورات الشعبية، ليتضح على الدوام ان عالمنا العربي "الرسمي" هذا ليس لديه القدرة على التركيز على اكثر من القضية والعمل على اكثر من جبهة في وقت واحد، وهو اصلاً لا يريد اختبار قدراته في هذا المجال.
اليوم وبعد عام بالتمام فقط على تقسيم السودان توضع ليبيا على مشرحة التقسيم بشكل جدي وعلى مرأى ومسمع من الرعاة الغربيين الذين صادروا الثورة الشعبية التي أسقطت نظام الطاغية معمر القذافي والتفوا على انجازات الثوار، ومدوهم بما تيسر من سلاح فردي سيكون عدة الشغل الاولى في تأزيم الوضع الامني وفتح باب الصراعات المناطقية والقبلية على مصراعيها، تمهيداً لنزاعات اكبر تؤدي في خاتمة المطاف الى تكرار تجربة الشقيق الجغرافي الاكبر، أي السودان، الذي انتهت حربه الاهلية باتفاق رسمي على تقسيمه لدولتين، والثالثة على الطريق.
المحطة الاولى في ليبيا كانت من برقة التي اعلن زعماؤها القبليون وسياسيوها منطقتهم "اقليماً فدرالياً اتحادياً ذاتي الحكم" واختاروا الشيخ أحمد الزبير الشريف السنوسي رئيساً لمجلسه الأعلى، وذلك كتعبير ملطف لمسار مرتقب للانفصال عن بقية الدولة الليبية. اما الذرائع فمتعددة، منها التهميش من قبل القيادة التي تدير البلد الآن باسم المجلس الوطني، وعدم منحهم حصتهم في التعيينات العسكرية وغيرها، واعادة تدوير بعض قيادات النظام السابق لدمجهم في السلطة الجديدة، وغيرها من الاعتبارات التي دفعت زعامات برقة الى رفض الصيغة الجديدة وطرح صيغتهم التي تستعيد ثلاثية كانت تحكم ليبيا سابقاً تتمثل باقاليم برقة في الشرق وفزان في الجنوب وطرابلس في الغرب.
من الذي شجع هذه الزعامات على هذه الخطوة؟ بالتاكيد فإن المجتمع الدولي ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا التي تفردت بإدارة الملف الليبي بعد الثورة ستجد في خطوة الفدرالية هذه طريقاً لتحقيق طموحاتها في تجزئة هذا البلد، لا سيما وان اقليم برقه يشتهر بأنه غني بالنفط، وهو يحتاج حكماً الى رعاية خارجية لكي يستطيع ان يواصل خطته نحو الانفصال. وقد كان لافتاً في الملاحظة الاولى ان هذه الدول لم تعلق على هذه الخطوة، التي ستُقدَّم لاحقاً على انها "تعبير عن رغبة جزء من الشعب الليبي في ممارسة حقه بتقرير المصير" ويفترض دعمه كما دعموا جزءاَ من الشعب السوداني باسم هذا الحق.
أقر الكونغرس الاميركي 1983 مخططاً اعده د.برنـارد لويـس يقسم الدول العربية والاسلامية الى عدة دويلات، وذكر منها مصر ووزع خريطة تقسيمها الى اربع دويلات |
اما الملاحظة الثانية فهو التراجع الذي ابداه رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل عندما هدد باستخدام القوة لمنع تقسيم ليبيا، قبل ان يتراجع عن نبرته تلك في تصريح آخر ويراهن فقط على وعي الجماهير في منع مؤامرة التقسيم، ويسحب التهديد بالقوة، ما يؤكد ان هذا الامر يتخطى نطاق وقدرات عبد الجليل ومجلسه الوطني، لا سيما في ظل تقديرات غربية متقاطعة تفيد بانطلاق قطار التقسيم الليبي، وهو ما جزم به الصحافي الفرنسي جان لوي لو توزيه الذي سأل في تحقيق له في صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية بعيد اعلان برقه: «هل يكون هذا الإعلان آخر فصول التقسيم في ليبيا؟»، واحال لو توزيه الاجابة الى الدبلوماسي السابق في ليبيا، باتريك حايمزاداه، ليقول ان «مسألة التقسيم حتمية»، مشيراً إلى رفض البنغازيين للحكم الذي تمثله طرابلس.
وفي غمرة المقالات والتحقيقات التي تناولت الحدث الليبي اطلت لعبة المصالح برأسها لتعطي نموذجاً عن الفوائد الاقتصادية لتعزيز الغرب نزعات الانقسام والانفصال، حيث لا يحظى نشاط المستثمرين والسياسيين الغربيين في ليبيا بتغطية إعلامية كبيرة، ويبقى طي الكتمان، لكن زيارة وزير الدفاع الفرنسي الى ليبيا وتوقيع صفقات سلاح وتدريبات مع الجيش الليبي، يضيء على عمليات الاستغلال الاقتصادي لمآسي الشعوب وكيف تحاول فرنسا "اقتطاف أرباح الحرب، وسعيها لتوقيع عقود جديدة وإعادة طائرات الميراج إلى عتاد الجيش الليبي"، وهو طبعاً يمكن ان يتكرر مع اي اقليم سينفصل وسيحتاج الى مقومات بناء دولة مستقلة وبينها طبعاً التسلح، وحكماً لن يكون الشراء من غير اولئك الذين "لليبيين" في رقبتهم فضيلة تحريرهم من حكم الطاغية.
اين تقع برقة؟ برقه تمتد على طول الحدود الغربية للسودان ومصر. ومن دون الاستفاضة بالحديث فإن اقليم دارفور غرب السودان المرجح لأن يصبح دولة مستقلة تماماً كدولة الجنوب يجاور هذا الاقليم الليبي، وبين زعامات حركة العدل والمساواة التي تقود الحراك السياسي والعسكري في دارفور ضد الحكومة المركزية في الخرطوم صلات وثيقة وحضور في ليبيا، وكانت سابقاً محل اعتراض واحتجاج من قبل حكومة الخرطوم. وعليه يمكن اضافة ادوات تفسير مساعدة لتحليل ما سيلي من تداعيات تقسيم ليبيا بدءاً من برقة. اما مجاورة الاخيرة لمصر فهي ايضاً ذات صلة بالموضوع نفسه، ولا نعرف إن كان من باب المصادفة او اي حكمة اخرى تقف خلف تزامن تعبير اهالي برقة عن رغبتهم بالانفصال وبين كشف قاضيي التحقيق المصريين في قضية التمويل الأجنبي المستشارين سامح أبو زيد و أشرف العشماوي ـ والتي اوقف فيها عدد من الاميركيين والمصريين ثم اطلاق الاوائل بصفقة مشبوهة ـ في مؤتمر صحفي عقداه في مقر وزارة العدل عن الخرائط التي عثروا عليها داخل مقر المعهد الجمهوري الأميركي فى الدقي حول تقسيم مصر الى أربع دويلات: الدلتا وقنال والقاهرة الكبرى وصعيد مصر، فاتحين الجدل على مصراعيه حول حقيقة وظيفة بعض المنظمات التي تختبئ وراء حقوق الانسان. ولدى الكثير من الباحثين المصريين قناعة تامة بأن هناك مشروع تقسيم معداً منذ زمن بعيد لبلدهم، ويشيرون دائماً الى مشروع "الشرق الاوسط الكبير" الذي تبناه الكونغرس الأمريكي عام 1983 لتقسـيم المنطقـة العربية إلى دويلات صغيرة طائفيـة يسـهل التحكم فيها، وبحيث تكون في نهايـة الأمر السيطرة للولايات المتحدة و"إسـرائيل".
وقبيل اعلان القاضيين ابو زيد والعشماوي وبعد الاعلان نشرت مقالات ودراسات كثيرة تمحورت حول هذا المخطط الذي اعده د.برنـارد لويـس، الذي يطلق عليه اسم "بطريـرك الاستشـراق الاميركي الصهيوني"، لتقسيم الدول العربية والاسلامية الى عدة دويلات ، وذكر منها مصر ووزع خريطة تقسيمها الى اربع دويلات هي دويلة اسلامية في الشرق، ودويلة مسيحية في الصعيد، ودويلة نوبية في جنوب مصر مع حدود السودان، ودويلة في سيناء يتم "طرد" الفلسطينيين من قطاع غزة اليها.
ويشير هؤلاء الى انه في خطة لويس تم اقتراح تقسيم السودان إلى ثلاث دويلات واحدة في الجنوب واخرى في الشمال وثالثة في الغرب، اي دارفور. ودولة النوبة هذه تتاخم اقليم برقة في جنوب غرب مصر، تماماً كما تحاذي اقليم دارفور. والمعروف والمتداول ان هناك تقاطعاً سكانياً كبيراً بين اقليم برقة وجوارها المصري حيث تنتشر القبائل والعائلات بين البلدين وبينهما صلات قرابة كبيرة الى درجة ان النظام الليبي السابق كان يعتبر سكان المناطق المصرية المجاورة لبرقة وديعة ليبية في مصر.
ما تقدم يوضح ان ثمة مساراً تقسيمياً مرسوماً بعناية ويتم حالياً تجهيز ادوات تشغيله عبر استغلال فوضى مرحلة ما بعد الثورات، وهي عادة تشكل اخطر المراحل في تاريخ اي ثورة واي بلد، لا سيما وان هناك من سارع الى اقتناص الفرص لاستيعاب هذه التغيرات وتمرير مشاريعه. لكن اذا كانت احجار الدومينو التي بدأت تساقطها من برقة مرجحة وفق الخرائط الموجودة للتدحرج الى الجوارين المصري والسوداني، فهل من صلة للمعزوفة الليبية بسوريا؟
(يتبع جزء ثالث)