ارشيف من :آراء وتحليلات
روسيا على تحالفها مع سوريا... ولكن!
"حين ترسم الفلسفة لوحتها الرمادية فتضع لوناً رمادياً فوق لون رمادي، فإن ذلك يكون إيذاناً بأن صورة من صور الحياة قد شاخت"
هيغل
يستدعي تفاهم "النقاط الخمس" الناجم عن لقاء لافروف ـ الجامعة العربية النظر في وَجهه الآخر؛ ابتداءً من الشكل الذي يشير بوضوح ـ مع انتفال لافروف إلى القاهرة ـ إلى أن روسيا قد سلّمت بالمرجعية الخليجية! في إدارة شقٍ من الأزمة السورية؛ فيما يبدو من موسكو خطوة مقصودة أوجدت مسافة ما بين الحركة الدبلوماسية الروسية ومنحى السياسة السورية التي تتجنب العبور من الجامعة العربية الأمر الذي أكده الرئيس بشار الأسد عندما أشار إلى أنه يستقبل كوفي عنان بوصفه مبعوثاً أممياً بمعزلٍ عن الجامعة العربية.
وهذا أمر مفهوم تنسجم فيه سوريا مع نفسها بعد أن جرى تجميد عضويتها في الجامعة المذكورة. فضلاً عما رتّبه ذلك الإجراء من تحدّ للكبرياء السوري. مسألة يتفهمها من يعرف تاريخ هذا البلد ولا سيما أنه ظل عبر التاريخ المعاصر مُوَلِّدَاً للفكر القومي العربي وحاملاً لمشعله ولمشاريعه.
أما النقاط الخمس فقد أشار اختزالها بحد ذاته إلى أن التسوية لم تتبلور، وما زالت عالقة في منتصف الطريق. ودونها تجاذبات في مسعى كل فريق معني بالأزمة السورية إلى تجميع أكبر عدد من النقاط ليثقل بها موازينه عندما تدق ساعة الحقيقة! ومن جانب آخر يمكننا القول بأن "النقاط الخمس" هي بمثابة إعلانٍ سياسي، يحدد مستوى سقف اللعبة عند أطرافها الخارجيين من جهة، لكنه يشير فيما بين سطورها القليلة إلى موازين القوى الحالية على الساحة، وهذه أمثلة منه:
جاء في النقطة الأولى: "وقف العنف من أي مصدر كان". وجاء في النقطة الثانية: "آلية رقابة محايدة". تبدو الصياغة في كلتيهما متوازنة في الشكل لكنها في المضمون وضعت السلطة في كفة الميزان مقابل المعارضة في كفتة الأخرى، وهذا يعتبر من الوجه الشكلي نقطة لمصلحة المعارضة على حساب السلطة. حتى إن ما ورد في النقطة الأولى يبدو وقد انبنى على هذا الأساس، من حيث إنها نزعت عن رد السلطة صبغة الإجراء الشرعي ليرتد إلى مسمى"عنف" يستوجب إيقافه ومراقبته!!.
أما الشرعية التي نعنيها هنا فهي مستمدة بالأصل من شرعية السلطة ـ بحسب القانون الدولي ـ والمعتمدة تمثيلاً لدى منظمة الأمم المتحدة! ولعل هذا كاد أن يفتح الباب للدول الداعمة للمعارضة كي تجعل من تمثيل الدولة السورية مسألة استنسابية!!. وفعلياً كان التمثيل هذا سيؤول إلى "المجلس الوطني السوري" لولا الانشقاقات المؤثرة فيه !! وظهور مسميات جديدة تدّعي بدورها تمثيل الشعب السوري، ذاكرين بهذا الخصوص أن دول الخليج كانت في وارد جعل مقعد سوريا في الجامعة العربية منوطاً بالمجلس المذكور! الأمر الذي جرى طرحه في آخر اجتماع لوزراء الخارجية العرب، لكن سرعان ما تم سحبه من التداول كونه يتناقض مع مساعي الانفتاح على روسيا ومجيء لافروف إلى الاجتماع المذكور.
النقطة الثالثة: "عدم التدخل الخارجي". هذا البند يبدو بغير محل من الإعراب للوهلة الأولى حيث امكانياته، أو القرار فيه على حدٍّ سواء، ليست معقودة نواصيه عند حمد أو سعود الفيصل، بل كما يعرف أي إنسان هي بيد الولايات المتحدة حصراً!! هذا مع الأخذ بعين الاعتبار بأن سيف التدخل ليس مُصْلَتاً على سوريا، أو لنقل لم يعد مُصلتاً بعد حسابات وتجاذبات أدّت بأمريكا و"الناتو" لسحبه من التداول. وهذا ينسحب أيضا على الحل البديل أي ما يسمى "درع الجزيرة"!!!. فقراره هو الآخر أيضاً في واشنطن وليس في مكانٍ آخر!، إلا أن الغاية من زج هذا البند هي فقط للتأكيد على منسوب سقف قواعد اللعبة باعتبار أن الجانب الخليجي وتحديداً القطري هو وكيل أمريكا في هذا المخاض! ونعتقد أن لافروف هنا كان يسعى ليعكس منسوب التوازنات الحرجة في المنطقة.
لماذا لم يترك الروس هذا المستوى من التفاهم مقتصراً على نِدِّهم الآخر الممسك بخيوط الأزمة. أي أمريكا؟!. لعل ما سبق يدعو للاستنتاج بأن روسيا قد أخذت تعدّل من تكتيكاتها .آخذةً في الحسبان أمرين بحسب المراقبين. الأول تجنب الوقوع في فخ التجاذبات مع عالمٍ إسلامي يقع شقٌ منه تحت تأثير دول المال النفطية. فيما بعض جمهورياتها ومقاطعاتها في واقع الأمر جزءٌ من هذا العالم. وقد قيل بأن لافروف سمع شيئاً من هذا القبيل في الجلسة المغلقة مع الوزراء العرب! غير أن الأمر الثاني الذي تضعه موسكو في حسبانها هو عدم وجود تناغم بين إيقاع المقاربة الروسية للأزمة السورية ووتيرة الحل الذي تنتهجته السلطة بالجرعات أو بالسرعة.
ففي حين ترى موسكو من وحي مراقبتها اليومية لمجريات الأمور بأن الذهاب بعيدا في الحل الأمني سيجعل الحل السياسي أبعد منالا، فإن السلطة قد أخّرت (عملياً) الحل السياسي لتقدم الحل الأمني، وهذا ما حدا بلافروف وفي ظاهرة جديدة للقول ـ أمام مجلس الدوما ـ بأن الإصلاح في سوريا قد "تأخر كثيرا"!
غير أن شيئاً لم يتغير في الجوهر، فروسيا ما زالت على تحالفها مع سوريا لاعتبارات غير ظرفية بقدر ما هي استراتيجية. وعلى هذه الخلفيّة قدمت دعمها السياسي وغير السياسي لها، ولكن على تصور منها وهو أن يحقق حليفها السوري نقاطاً على الأرض تتيح له موقعا متقدما في تثبيت الحل السياسي من موقع القوي الواثق. وليس لتصفية الآخر! إذ يكاد من العسير قتل الدبابير بسلاح ناري!!؛ هذا الدرس عرفته روسيا في أفغانستان وتكابد منه الآن أمريكا! كما وأن هذا الحل سيفتح الآفاق لكي تخرج المعارضات السورية من تحت سقفها المنخفض إلى رحاب الممارسة السياسية (الحقيقية) التي ستؤدي حتما لفرز جديد لقواها وشخصياتها، هذا فضلاً عن استرجاع السلطة في سوريا للصورة التي تعتبر رصيدا لها أمام المجتمع الدولي.
إن حراك الدبلوماسية الروسية التي تكسبها لغتها المتوازنة تأثيراً على أطراف عدة من المعارضة السورية قد يؤدي، بحسب التقديرات، إلى التضييق على أطراف التآمر إمكانياتهم للمناورة، ولعله من ناحية أخرى يستدرك بعض مفاعيل الخطايا التي سمحت للمؤامرة على سوريا من أن تدخل وتصادر حراكاً بدأ سلمياً ومحقاً، وانتهى إلى مطيّة بيد التحالف العربي ـ الغربي!!.
لؤي توفيق حسن: كاتب من لبنان
هيغل
يستدعي تفاهم "النقاط الخمس" الناجم عن لقاء لافروف ـ الجامعة العربية النظر في وَجهه الآخر؛ ابتداءً من الشكل الذي يشير بوضوح ـ مع انتفال لافروف إلى القاهرة ـ إلى أن روسيا قد سلّمت بالمرجعية الخليجية! في إدارة شقٍ من الأزمة السورية؛ فيما يبدو من موسكو خطوة مقصودة أوجدت مسافة ما بين الحركة الدبلوماسية الروسية ومنحى السياسة السورية التي تتجنب العبور من الجامعة العربية الأمر الذي أكده الرئيس بشار الأسد عندما أشار إلى أنه يستقبل كوفي عنان بوصفه مبعوثاً أممياً بمعزلٍ عن الجامعة العربية.
وهذا أمر مفهوم تنسجم فيه سوريا مع نفسها بعد أن جرى تجميد عضويتها في الجامعة المذكورة. فضلاً عما رتّبه ذلك الإجراء من تحدّ للكبرياء السوري. مسألة يتفهمها من يعرف تاريخ هذا البلد ولا سيما أنه ظل عبر التاريخ المعاصر مُوَلِّدَاً للفكر القومي العربي وحاملاً لمشعله ولمشاريعه.
أما النقاط الخمس فقد أشار اختزالها بحد ذاته إلى أن التسوية لم تتبلور، وما زالت عالقة في منتصف الطريق. ودونها تجاذبات في مسعى كل فريق معني بالأزمة السورية إلى تجميع أكبر عدد من النقاط ليثقل بها موازينه عندما تدق ساعة الحقيقة! ومن جانب آخر يمكننا القول بأن "النقاط الخمس" هي بمثابة إعلانٍ سياسي، يحدد مستوى سقف اللعبة عند أطرافها الخارجيين من جهة، لكنه يشير فيما بين سطورها القليلة إلى موازين القوى الحالية على الساحة، وهذه أمثلة منه:
جاء في النقطة الأولى: "وقف العنف من أي مصدر كان". وجاء في النقطة الثانية: "آلية رقابة محايدة". تبدو الصياغة في كلتيهما متوازنة في الشكل لكنها في المضمون وضعت السلطة في كفة الميزان مقابل المعارضة في كفتة الأخرى، وهذا يعتبر من الوجه الشكلي نقطة لمصلحة المعارضة على حساب السلطة. حتى إن ما ورد في النقطة الأولى يبدو وقد انبنى على هذا الأساس، من حيث إنها نزعت عن رد السلطة صبغة الإجراء الشرعي ليرتد إلى مسمى"عنف" يستوجب إيقافه ومراقبته!!.
أما الشرعية التي نعنيها هنا فهي مستمدة بالأصل من شرعية السلطة ـ بحسب القانون الدولي ـ والمعتمدة تمثيلاً لدى منظمة الأمم المتحدة! ولعل هذا كاد أن يفتح الباب للدول الداعمة للمعارضة كي تجعل من تمثيل الدولة السورية مسألة استنسابية!!. وفعلياً كان التمثيل هذا سيؤول إلى "المجلس الوطني السوري" لولا الانشقاقات المؤثرة فيه !! وظهور مسميات جديدة تدّعي بدورها تمثيل الشعب السوري، ذاكرين بهذا الخصوص أن دول الخليج كانت في وارد جعل مقعد سوريا في الجامعة العربية منوطاً بالمجلس المذكور! الأمر الذي جرى طرحه في آخر اجتماع لوزراء الخارجية العرب، لكن سرعان ما تم سحبه من التداول كونه يتناقض مع مساعي الانفتاح على روسيا ومجيء لافروف إلى الاجتماع المذكور.
النقطة الثالثة: "عدم التدخل الخارجي". هذا البند يبدو بغير محل من الإعراب للوهلة الأولى حيث امكانياته، أو القرار فيه على حدٍّ سواء، ليست معقودة نواصيه عند حمد أو سعود الفيصل، بل كما يعرف أي إنسان هي بيد الولايات المتحدة حصراً!! هذا مع الأخذ بعين الاعتبار بأن سيف التدخل ليس مُصْلَتاً على سوريا، أو لنقل لم يعد مُصلتاً بعد حسابات وتجاذبات أدّت بأمريكا و"الناتو" لسحبه من التداول. وهذا ينسحب أيضا على الحل البديل أي ما يسمى "درع الجزيرة"!!!. فقراره هو الآخر أيضاً في واشنطن وليس في مكانٍ آخر!، إلا أن الغاية من زج هذا البند هي فقط للتأكيد على منسوب سقف قواعد اللعبة باعتبار أن الجانب الخليجي وتحديداً القطري هو وكيل أمريكا في هذا المخاض! ونعتقد أن لافروف هنا كان يسعى ليعكس منسوب التوازنات الحرجة في المنطقة.
لماذا لم يترك الروس هذا المستوى من التفاهم مقتصراً على نِدِّهم الآخر الممسك بخيوط الأزمة. أي أمريكا؟!. لعل ما سبق يدعو للاستنتاج بأن روسيا قد أخذت تعدّل من تكتيكاتها .آخذةً في الحسبان أمرين بحسب المراقبين. الأول تجنب الوقوع في فخ التجاذبات مع عالمٍ إسلامي يقع شقٌ منه تحت تأثير دول المال النفطية. فيما بعض جمهورياتها ومقاطعاتها في واقع الأمر جزءٌ من هذا العالم. وقد قيل بأن لافروف سمع شيئاً من هذا القبيل في الجلسة المغلقة مع الوزراء العرب! غير أن الأمر الثاني الذي تضعه موسكو في حسبانها هو عدم وجود تناغم بين إيقاع المقاربة الروسية للأزمة السورية ووتيرة الحل الذي تنتهجته السلطة بالجرعات أو بالسرعة.
ففي حين ترى موسكو من وحي مراقبتها اليومية لمجريات الأمور بأن الذهاب بعيدا في الحل الأمني سيجعل الحل السياسي أبعد منالا، فإن السلطة قد أخّرت (عملياً) الحل السياسي لتقدم الحل الأمني، وهذا ما حدا بلافروف وفي ظاهرة جديدة للقول ـ أمام مجلس الدوما ـ بأن الإصلاح في سوريا قد "تأخر كثيرا"!
غير أن شيئاً لم يتغير في الجوهر، فروسيا ما زالت على تحالفها مع سوريا لاعتبارات غير ظرفية بقدر ما هي استراتيجية. وعلى هذه الخلفيّة قدمت دعمها السياسي وغير السياسي لها، ولكن على تصور منها وهو أن يحقق حليفها السوري نقاطاً على الأرض تتيح له موقعا متقدما في تثبيت الحل السياسي من موقع القوي الواثق. وليس لتصفية الآخر! إذ يكاد من العسير قتل الدبابير بسلاح ناري!!؛ هذا الدرس عرفته روسيا في أفغانستان وتكابد منه الآن أمريكا! كما وأن هذا الحل سيفتح الآفاق لكي تخرج المعارضات السورية من تحت سقفها المنخفض إلى رحاب الممارسة السياسية (الحقيقية) التي ستؤدي حتما لفرز جديد لقواها وشخصياتها، هذا فضلاً عن استرجاع السلطة في سوريا للصورة التي تعتبر رصيدا لها أمام المجتمع الدولي.
إن حراك الدبلوماسية الروسية التي تكسبها لغتها المتوازنة تأثيراً على أطراف عدة من المعارضة السورية قد يؤدي، بحسب التقديرات، إلى التضييق على أطراف التآمر إمكانياتهم للمناورة، ولعله من ناحية أخرى يستدرك بعض مفاعيل الخطايا التي سمحت للمؤامرة على سوريا من أن تدخل وتصادر حراكاً بدأ سلمياً ومحقاً، وانتهى إلى مطيّة بيد التحالف العربي ـ الغربي!!.
لؤي توفيق حسن: كاتب من لبنان