ارشيف من :ترجمات ودراسات

انهيار الستراتيجية الاميركية لغزو العالم: فضائح غوانتانامو ومظاهرات اميركية ضد الحرب في العراق

انهيار الستراتيجية الاميركية لغزو العالم: فضائح غوانتانامو ومظاهرات اميركية ضد الحرب في العراق

صوفيا ـ جورج حداد
يتخمنا انصار المعسكر الاميركي ـ الاسرائيلي، كمؤيدي الاحتلال الاميركي لافغانستان والعراق بحجة "تحريرهما" من نظام طالبان ونظام صدام حسين، ومؤيدي العدوان الاسرائيلي على غزة وكل فلسطين، بحجة "مكافحة الاصولية الاسلامية"، وزعماء وغلمان فريق 14 اذار و"ثورة الارز والشربين والعليق" في لبنان، بحجة "تحريره" من رستم غزاله الذي كان يحرك أولئك الزعماء والغلمان بإشارة من خنصره لا غير، ـ يتخموننا صبحا ومساء بالدمقراطية الاميركية، التي يرون انها هي النظام السياسي الامثل الذي اخذت اميركا على عاتقها مهمة نشره في العالم، ولو بقوة الجحافل البرية والاساطيل البحرية والجوية والصواريخ الذكية والغبية، التي لا يدخل في تركيبها ذرة من الدمقراطية، بل والتي هي النقيض تماما لابسط اولويات الدمقراطية، حتى لو كانت الدمقراطية الكاذبة الاميركية. ولكن جميع المرضى بـ"إيدز" الدمقراطية الاميركية، يعمون او يتعامون عن ان يروا ان الدمقراطية الاميركية ما هي سوى غيوم ضبابية كبيرة من الاكاذيب التي تفبركها مختبرات ومطابخ الديماغوجيا الاميركية التي تلعب دور المدفعية الاعلامية في الحروب النفسية التي تشنها الولايات المتحدة الاميركية على شعوب العالم، بدءا من شعبها الخاص، تمهيدا لابشع حروب الغزو والعدوان والاجتياح الاستعماري. والمدلول الوحيد والهدف الوحيد لشعار الدمقراطية الاميركية هو غزو العالم واستعماره وتحويله الى مستعمرة اميركية للطغمة المالية الاحتكارية الانغلو/ساكسونية ـ الماسونية ـ اليهودية. وفي العقود الاخيرة مرت الستراتيجية الاميركية بمرحلتين رئيسيتين:

الاولى ـ ويمكن ان نطلق عليها مجازا تسمية "المرحلة الروسية":
وهي المرحلة التي اعقبت الانقلاب الغورباتشوفي ـ الصهيوني والانهيار الداخلي للمنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي السابقين. ودامت هذه المرحلة حتى الدقيقة الاخيرة في الساعة الاخيرة (23.60) او (24.00) في 31/12/1999، اي الدقيقة التي اعلن فيها بوريس يلتسين استقالته من الرئاسة الروسية وتسليم الحكم الى فلاديمير بوتين، بدون اراقة دماء، ومقابل الحفاظ على سلامته وسلامة افراد عائلته وعدم مساءلتهم وتقديمهم للمحاكمة.

انهيار الستراتيجية الاميركية لغزو العالم: فضائح غوانتانامو ومظاهرات اميركية ضد الحرب في العراقفي هذه المرحلة التي دامت اكثر من عشرين سنة كانت العصابات الصهيونية العالمية والكتل المالية الاحتكارية الكبرى اليهودية ـ الماسونية ـ الانكلو/ساكسونية تطمح الى القضاء التام على روسيا كقوة عظمى، والى محو الدور التاريخي للشعب الروسي بوصفه احد "الكتـّاب" الرئيسيين للتاريخ العالمي، والى السيطرة على الارض الروسية التي تشكل 1/6 من الجغرافيا العالمية، والاستيلاء على خيراتها غير المحدودة. وكان جهابذة الاستراتيجية الامبريالية الاميركية ـ الصهيونية يعتقدون ان السيطرة على روسيا هي شرط مسبق للسيطرة على العالم بأسره لمئات من السنين القادمة. ولهذه الغاية الستراتيجية العليا كانت السياسة الستراتيجية الاميركية ـ الصهيونية تعمل على "الابادة الحقيقية" للروس، بواسطة اسلحة "دمقراطية" تماما مثل: البطالة والفقر والجوع ونقص التغذية ونقص الطبابة واعادة نشر الامراض القديمة ونشر الامراض الجديدة التي تطلقها المختبرات العسكرية الاميركية ودفع الناس الى اليأس والانتحار (في صفوف الاجيال القديمة) والهجرة (في صفوف الاجيال الجديدة) (خلال تلك المرحلة "الدمقراطية" السوداء، انخفض عدد سكان روسيا اكثر من 10 ملايين نسمة، في ما يزيد قليلا على 20 سنة، وكان من المتوقع ان لا ينتصف القرن الواحد والعشرون حتى يصبح عدد سكان روسيا اقل من نصف عددهم في الوقت الحاضر، اي اقل من عدد سكان المانيا وغيرها من الدول "متوسطة الحجم" ديموغرافيا). كما كانت تلك الاستراتيجية تعمل على القضاء على الصناعة والزراعة وقطاعات البناء والانشاءات الميكانيكية، ومراكز الابحاث العلمية المتطورة والمختبرات الطليعية، في روسيا، من اجل تحويلها الى بلد عالمثالثي فقير "يعيش" بقايا شعبه على تصدير الخامات و"صناعة" الخدمات و"اقتصاد" الفساد والمخدرات والدعارة وتصدير اليد العاملة الرخيصة والعاهرات. وطبعا كان ذلك كله يتم في ظل "غزوة دمقراطية" لا مثيل لها: فبدلا من الخبز حلت العلكة الاميركية الشهيرة، وبدلا من التوتاليتارية والحزب الحاكم الواحد والاذاعة الرسمية والتلفزيون الرسمي وجريدة الحزب وجريدة الكومسومول (اتحاد الشبيبة الشيوعية) وجريدة النقابات الخ، امتلأت الساحة السياسية الروسية بعشرات ومئات الاحزاب الشيوعية والليبيرالية وغيرها، وامتلأ الفضاء الروسي المفتوح بعشرات ومئات الصحف والاذاعات والتلفزيونات من كل شاكلة ولون؛ واصبحت "اخبار" "نجوم" المجتمع ـ وخصوصا اخبار الفضائح الجنسية ـ تملأ الساحة وتشغل "الرأي العام"، واصبحت اخبار مسابقات الرقص والغناء، وسباقات اليخوت والخيول والسيارات، ومسابقات الجمال بما في ذلك جمال القطط والكلاب والحمير والديوك والفئران؛ وكل ما يشبه ذلك من لوازم و"عدة شغل" الدمقراطية الهادفة الى تبليد الناس وصرفهم عن الاهتمام بقضاياهم الانسانية والحضارية الحقيقية؛ ـ اصبحت كل هذه المظاهر التهتكية والمرَضية تملأ الفضاءات الروسية، وكان "الرئيس الدمقراطي" السكران دوما بوريس يلتسين يشجع هذه "الاجواء المفتوحة" من اجل اعادة بناء روسيا "دمقراطيا!!!". ولكن نظرا لكثافة الدخان "الدمقراطي" الذي اطلقه الاميركيون والصهاينة، للتعشية على عيون الناس في روسيا، فقد عشـّى الدخان ذاته على عيونهم هم ايضا، فاغتروا كثيرا بانتصاراتهم "الدخانية"، ولم يعودوا قادرين على رؤية الغضب المتزايد في اعماق الشعب الروسي الذي يمكن ان يشرب الكأس حتى الثمالة وتدور رأسه ولكنه لا يسقط ارضا، والذي يمكن ان يكبو في غفلة زمنية وجيزة ولكنه لا يمكن ان "يسقط من الحساب" وان يفارق ساحة التاريخ. لقد كررت القيادة الاميركية ـ الصهيونية الخطأ ذاته الذي سبق وارتكبه نابوليون في حينه حينما هاجم روسيا ومعه 500 الف جندي فرنسي هم "زبدة" شباب فرنسا في ذلك الوقت. استطاع نابوليون ان يتوغل مئات الكيلومترات في روسيا ويحتل موسكو ذاتها؛ ولكن هذا "النصر" لم يمكنه من الامساك بزمام روسيا واخضاعها، بل على العكس ادى الى إيقاظ الدب الروسي من سباته، وبدأ الروس يحرقون مدنهم ودساكرهم، ولم يعد الفرنسيون يجدون قطعة حطب يتدفأون بها او رغيف خبز يقتاتون به. واصبح كل هم الغزاة الفرنسيين الخروج من الجحيم الروسي الابيض؛ ولكنهم اذا كانوا عرفوا كيف يدخلون فهم لم يعودوا يعرفون كيف يخرجون؛ ومن اصل الـ500 الف جندي عاد حوالى 20 الفا او اقل الى فرنسا؛ وعند عبور احد الانهار في طريق الانسحاب اضطر "الامبراطور العظيم" نفسه الى احراق اوراقه الرسمية ربما تمهيدا للانتحار وخوفا من الوقوع في الاسر حيا كما فعل هتلر بعد اكثر من قرن؛ وكانت الهزيمة الشنيعة لنابوليون في روسيا تمهيدا لهزيمته لاحقا في اوروبا في معركة واترلو.

ان الحرب "الدمقراطية" الاميركية ـ الصهيونية، الشنيعة والمخزية، ضد روسيا، و"الانتصارات" التي حققتها، اسكرت الاميركيين والصهاينة اكثر من سكر يلتسين نفسه، الى درجة انهم حينما تم "الانقلاب على يلتسين" لم يعودوا يعرفون ماذا يمكن ان يفعلوا بعد في روسيا سوى تركها وشأنها، كما سبق وتركها نابوليون، وهم يجرجرون اذيال الهزيمة.   

الثانية ـ ويمكن ان نطلق عليها مجاراة للرئيس السابق بوش تسمية "مرحلة الشرق الاوسط الكبير او الاكبر": ان منطقة الشرق الادنى والاوسط والاقصى (باستثناء روسيا) هي "المنطقة التقليدية" للنشاط الاستعماري الاوروبي والغربي، منذ الاسكندر المقدوني. وبعد سقوط يلتسين وفشل "الحرب الدمقراطية" الغربية ـ الصهيونية على روسيا، عادت الامبريالية الاميركية ـ الصهيونية لتركيز "جهودها الدمقراطية" على منطقة الشرق التقليدية، التي سماها الرئيس السابق جورج بوش "الشرق الاوسط الكبير"، التي تشمل الجسم الرئيسي من المنطقة العربية ـ الاسلامية الممتدة من موريتانيا حتى باكستان، ومن اليمن حتى شيشانستان. وتمتلك هذه المنطقة اهمية ثلاثية الابعاد بوصفها:

انهيار الستراتيجية الاميركية لغزو العالم: فضائح غوانتانامو ومظاهرات اميركية ضد الحرب في العراق-1- الخزان الاضخم لاحتياطات الطاقة في العالم، ولا سيما النفط والغاز.

-2- السوق التجارية الاضخم والاكثر ربحية لشتى اصناف المنتوجات الغربية، لانه في هذه السوق بالذات ـ ونظرا لوجود الانظمة الدكتاتورية والاستبدادية القائمة على الجهل والتبعية العمياء للغرب ـ يجري تصريف جميع انواع المنتوجات الرديئة والمعابة والكاسدة ومنتوجات "الاستهلاك الثاني"  (second hand)التي لا يمكن تصريفها في البلدان الغربية والتي يصعب تصريفها في اي بلد يحترم نفسه؛

-3- المجمع الاكبر لشبكات الخطوط التجارية العالمية. فإلى هذه المنطقة ينتمي ما كان يسمى تاريخيا "طريق الحرير" الذي كانت تمر فيه قوافل التجارة العالمية القديمة، والذي قامت على جنباته واطرافه شتى الامبراطوريات القديمة. وتثبت التجربة التاريخية ان تطور وسائل المواصلات والنقل لم يقلل من شأن الموقع الجغرافي ـ التجاري لهذه المنطقة، بل على العكس تماما، ان اهمية هذه المنطقة كـ"مفصل رئيسي" و"عقدة رئيسية" لشبكة الاتصالات والمواصلات العالمية قد تعززت بشكل مضاعف، بمقدار تعزيز وزيادة اهمية الاتصالات والمواصلات في العصر الحديث. والشبكة العنكبوتية المسماة الانترنت، وشبكة الاتصالات اللاسلكية ذاتها (عبر الاقمار الاصطناعية) تؤكد وتضاعف هذه الحقيقة ولا تلغيها. فالناس ـ ايا كانوا ـ يمكنهم ان يتخابروا ويتفقوا ويختلفوا ويحولوا الحسابات الخ، بواسطة الاتصالات؛ ولكن في النهاية ان العامل المقرر في الحياة البشرية ليس الصورة والرمز والمخيال، بل الواقع المعاش. فاذا تعارف شاب وفتاة بواسطة الانترنت وتحادثا بالموبيل وتبادلا الصور والكلمات، فهذا لا يغنيهما عن اللقاء المحسوس والسفر احدهما نحو الاخر. والتاجر الصغير والكبير والاحتكاري يمكنه فتح حساب بنكي وتحويل اموال وعقد صفقات، بواسطة الانترنت والموبيل، ولكن حين تتم الصفقة، فيجب نقل السلع المعينة على متن البواخر او الطائرات او القطارات او الشاحنات او حتى على ظهور الحمير والبغال والجمال (وليس من الصدفة ابدا انه، في دبي مثلا، والى جانب معارض الطيران وسباقات السيارات واليخوت العصرية، تجري اعادة الاعتبار للخيول والنوق، عن طريق تجديد سباقات الخيل والنوق وحتى الحمير). وهذا يعني عمليا ان التسهيلات التي تقدمها شبكة الاتصالات المخيالية تزيد الحاجة الى المواصلات الواقعية وليس العكس.

وليسمح لنا القارئ المستعجل ان نستوقفه قليلا هنا لنقدم له ولمجمل القراء مثالين عن ان زيادة اهمية الاتصالات والمواصلات، ولا سيما العلاقة الجدلية بين الاتصالات والمواصلات، قد ادت كلها الى مضاعفة، بل ومفاقمة اهمية منطقة "الشرق الاوسط الكبير" في الاقتصاد العالمي برمته، بوصفه يمثل "عقدة المواصلات" الرئيسية في العالم:

المثال الاول: يذكر الجميع انه جاء وقت صار فيه الحديث عن "الاعجوبة الاقتصادية لليابان"، التي هي، مثل بريطانيا، بلد جزيري غير كبير جدا لا سكانيا ولا جغرافيا. واخذ الكثيرون من الباحثين الجادين انفسهم يبحثون عن خصائص تميز الانسان الياباني او النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الياباني. ولا شك ان لكل بلد تقاليده وخصائصه، سواء كنظام وسواء كخصال انسانية مصنوعة وموروثة عبر التاريخ. ولكن في رأيي المتواضع ان "الاعجوبة الاقتصادية اليابانية" ليس فيها اي ذرة من "العجائبية". فهذه "الاعجوبة" قد بدأت بالظهور والطفو على سطح الاقتصاد العالمي بعد حرب حزيران 1967، التي كان من نتائجها ان اغلقت لسنوات قناة السويس، احد اهم شرايين المواصلات التجارية العالمية. وبما ان اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا واندونيسيا والفيليبين وغيرها مما سمي لاحقا "النمور الاسيوية" توجد "شرقي قناة السويس"، فإن القدرة التنافسية لليابان و"النمور الاسيوية" لتصريف بضائعها (الجيدة والمتوسطة والرديئة) في منطقة "الشرق الاوسط الكبير" اصبحت اكبر من القدرة التنافسية للبلدان الاوروبية والغربية التي كانت تحتكر اسواق "الشرق الاوسط الكبير" و"الطريق الى الهند" الخ؛ وهكذا لم تعد المعامل اليابانية قادرة على تلبية الطلبيات السوقية، وبدأ التوسع الانتاجي ـ المالي ـ الاقتصادي، وفي هذه الفترة بالذات اصبح الين عملة دولية جنبا الى جنب الدولار والجنيه والمارك، وبلغت نسبة الزيادة السنوية في الانتاج الياباني 20% واكثر. طبعا ان الكتلة المالية العالمية اليهودية ـ الماسونية ـ الانغلو/ساكسونية لم تكن راضية عن ذلك لانه ليس لها مصلحة مباشرة فيه، الا انها تركت "اللعبة" الرأسمالية تأخذ مجراها، لقطع الطريق على "الشيوعية الهدامة" و"الراديكالية الاسلامية" خصوصا في بلدان كانت تقف على "حافة الهاوية" (من وجهة نظر الامبريالية الاميركية) كأندونيسيا وباكستان وايران. ولكن بعد ان تغيرت الظروف، خصوصا في اعقاب توقيع اتفاقية كامب دايفيد واعادة فتح قناة السويس، "نظمت" الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية حرب الخليج الاولى بهدف ضرب الثورة الاسلامية في ايران، كما قامت بين ليلة وضحاها بافتراس "النمور الاسيوية" التي كانت بمثابة قطعة حلوى لا اكثر للكتلة المالية العالمية اليهودية ـ الماسوينية ـ الانغلو/ساكسونية. وقد امتنعت عن التهام الاقتصاد الياباني والتايواني والكوري الجنوبي، للاحتفاظ بهذه البلدان كدروع، من جهة، وكوسائل ضغط، من جهة اخرى، ضد كوريا الشمالية والصين وروسيا، في منطقة الشرق الاقصى. ولكنه من الواضح تماما انه بعد اعادة فتح قناة السويس فقدت "الاعجوبة اليابانية" بريقها وهالتها العجائبية السابقة.  

انهيار الستراتيجية الاميركية لغزو العالم: فضائح غوانتانامو ومظاهرات اميركية ضد الحرب في العراقالمثال الثاني: في ما مضى كانت "الاسواق العامة" (الوطنية او الاقليمية او الدولية) تضطلع بدور اقامة الاتصال بين المنتجين انفسهم وبين المنتجين والمستهلكين (في الحساب الاخير كل منتج هو مستهلك وبالعكس) من اجل تصريف البضائع المنتجة، بالنسبة للبعض، الذي يعني الحصول على البضائع المنتجة، بالنسبة للبعض الاخر. ومع تطور التجارة اصبح التجار والوسطاء التجاريون يحلون محل المنتجين في "لعبة السوق". وصار من الممكن شراء لا البضائع المنتجة فقط، بل والشراء المسبق للبضائع التي ستنتج لاحقا. ومع تطور النظام الرأسمالي اتخذت "الاسواق" شكلا متطورا هو "البورصات" التي يتم فيها تداول لا المنتوجات فقط، بل العملات والسندات والاسهم وشتى "الاوراق المالية" التي تمثل "صورة" الاقتصاد الفعلي وتتحكم به. واخيرا فإن "البورصات" ذاتها لم تعد تكفي للعملية الاقتصادية الرأسمالية، فنشأت الضرورة لوجود "مجمعات" او "مراكز تجارية"، تتمثل فيها الشركات والمؤسسات الانتاجية والمالية والاقتصادية ومختلف مؤسسات الدول ذات الصلة، بمكاتب خاصة لكل منها، تتجمع كلها في "مجمع" واحد، او في عدة "مجمعات" في مدينة مالية عالمية معينة، كما هي لندن او نيويورك. ووفرت هذه "المجمعات" امكانية الاتصالات المباشرة بين مختلف الشركات والمؤسسات والدول، في الحقل التجاري: التسويق، بيع الاسهم والسندات، عقد الصفقات الاطارية والمستقبلية، القروض، الالتزامات، العقود والاتفاقات طويلة الامد، الخ الخ. واصبحت هذه "المجمعات" تنوب عن البورصات، دون ان تلغيها. وكان اكبر "مجمع تجاري" من هذا النوع هو "المركز التجاري العالمي" (البرجان) في نيويورك، الذي كان يمكن اعتباره "المكتب التجاري الجامع" او "العاصمة التجارية الموحدة" للعالم الرأسمالي بأسره.

وجاءت التسهيلات المذهلة التي تقدمها شبكة الاتصالات العالمية: الهاتف، الانترنت، تكنولوجيا التلفزيون، امكانية المحادثة والرؤية وارسال الصور والبيانات والمعلومات وتبادل الوثائق وتصديقها، بين اطراف متعددة في وقت واحد، واغلاق العلاقة مع طرف وابقائها مع طرف آخر وفتحها مع طرف ثالث الخ، في نفس اللحظة؛ وغيرها من المنجزات التي لا ندعي المعرفة بها، كل ذلك فسح المجال لكل شركة ومؤسسة كبيرة وذات مصلحة في تأمين جميع اتصالاتها و"لقاءاتها" وعقد صفقاتها بيعا او وساطة او شراء، من مكاتبها الخاصة بالذات، وفي صلة مع العالم بأسره؛ وهذا ما جعل "المجمعات التجارية" التي سبق حديثنا عنها، فائضة عن الحاجة ولا لزوم لها ويمكن الاستغناء عنها، بل والافضل الاستغناء عنها، لانه لا لزوم ان يكون للشركة ذاتها مكتبان اداريان: مكتبها الاداري الخاص، ومكتبها التمثيلي الموجود في "المجمع التجاري العام". ومن هنا نشأت الحاجة لالغاء "المركز التجاري العالمي" (البرجين) في نيويورك، الذي لم يعد له ضرورة، بل اصبح يمثل مصروفا اضافيا وعائقا طفيليا (بارازيت) في "لعبة السوق" الرأسمالية التي تتجه للمزيد من التبسيط والمباشرة والمركزة والتمركز والاحتكار. وكان بالامكان ان تقوم الادارة الاميركية بإلغاء وظيفة البرجين كمركز تجاري عالمي لم يعد له لزوم، وان تحولهما الى معرض ـ سوق مركزي او اي شيء آخر. ولكن يبدو ان العصابات المافياوية ـ السياسية، المسيطرة على المجتمع الاميركي، والتي هي عصابات متوحشة من أكلة لحوم البشر المعاصرين، لم تهتد الى صيغة ريعية مناسبة لها لتحويل وظيفة البرجين، ووجدت انه من الانسب تدميرهما والاستفادة من الارض التي يقومان عليها. وحتى لا يتم التدمير كعملية فنية لا غير، تفتق العقل الجهنمي للقيادة الامبريالية الاميركية ـ الصهيونية عن فكرة القيام بعملية تفجير اجرامي مفتعل يتم فيه ضرب عصفورين بحجر واحد: اولا، التخلص من البرجين؛ وثانيا، وضع هدف سياسي ـ ستراتيجي لتدميرهما.

وحيال اغلاق الافق الروسي امام الغزوة الاستعمارية الاميركية ـ الصهيونية، والتحفز للقفز نحو غزو "الشرق الاوسط الكبير"، تم وضع سيناريو قيام تنظيم "القاعدة" "الاسلامي!!!" بتدمير البرجين ومقر البنتاغون الاميركي. ولهذه الغاية استعانت المخابرات الاميركية باصدقائها القدامى من "الافغان العرب" وعلى رأسهم الشيخ اسامة بن لادن، لتضليل بعض الشبان العرب المسلمين، كي يكونوا "كبش محرقة" و"ديكورا عربيا ـ اسلاميا" لا اكثر ولا اقل في عملية تدمير البرجين. وكل الدراسات التقنية التي اعقبت احداث 11 ايلول 2001، تؤكد:
1- ان عملية اصطدام الطائرتين بالبرجين لم يكن من الممكن ان يقوم بها "هواة" او "شبه هواة" كالشبان العرب ـ المسلمين الذين جرى التغرير والتضحية بهم في تلك العملية.
2- ان الفسحة الزمنية بين الطائرة الاولى والطائرة الثانية كانت اكثر من كافية كي يقوم الطيران الحربي الاميركي بتفجير الطائرة الثانية في الجو قبل اصطدامها بالبرج الثاني.
3- بالنظر الى الطريقة التي انهار بها البرجان يتضح انهما لم ينهارا بفعل قوة اصطدام كل من الطائرتين، لانه لو كان الامر كذلك لانهارا جانبيا بفعل الاهتزاز، كما انهما لم ينهارا بفعل قوة النيران، لان حرارة النيران تفعل فعلها صعودا وليس هبوطا، بل انهارا عموديا وبسرعة مما يدل على حدوث انفجار داخلي مدروس، تماما كما يحدث في اي انهيار لبناية يراد هدمها، فتزنر بالمتفجرات من الداخل وتفجر بطريقة تسقط فيها "داخليا" حتى لا تؤذي الجوار، وهذا ما حدث للبرجين، والتفجير بالطائرات كان للتغطية، وكان تفجيرا سياسيا بكل معنى الكلمة.

وقد نظمت العصابات المالية الامبريالية الاميركية ـ الصهيونية هذه الجريمة التي اودت بحياة الوف الاميركيين والاجانب الذين كانوا يعملون في البرجين، من اجل اعطاء مبرر كي يعلن جورج بوش "الحرب الصليبية" الجديدة على ما سماه "الارهاب والاصولية الاسلاميين"، وهو يقصد الشعوب العربية والاسلامية بمجملها. وهناك الكثير من القرائن التي تفضح الجانب التآمري والهدف الحقيقي من ارتكاب هذه الجريمة، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، غياب كل الموظفين اليهود العاملين في البرجين، وهم بالمئات، يوم التفجير، ورفض رئيس بلدية نيويورك حينذاك قبول الشيك بعشرة ملايين دولار الذي تبرع به الامير السعودي الوليد بن طلال لصالح عائلات ضحايا التفجير، وهذا يعني ان كل العرب والمسلمين وحتى الاصدقاء والشركاء القدماء لاميركا مثل الامير الوليد بن طلال اصبحوا "متهمين" ومستهدفين من قبل "الحرب الصليبية" الاميركية ـ الصهيونية على العرب والمسلمين.

وعلى اثر هذا التفجير المفتعل تجندت اجهزة الاعلام الاميركية والصهيونية وكلابها "الدمقراطية" النباحة، ومعها كل اجهزة المخابرات الغربية والصهيونية وكل العصابات الاجرامية والحثالات "الفكرية" في جميع انحاء العالم، من اجل تحقيق مهمتين مترابطتين غير مشرفتين هما:

الاولى ـ التعتيم التام على حقيقة ما جرى في 11 ايلول 2001، وقد لاحظ العالم المتمدن بأسره انه جرى فعلا "وضع القفل" على التحقيقات في احداث ذلك اليوم المشؤوم واعطاؤه طابع "اسرار الدولة" الاشد سرية، فلم يعلن شيء رسمي في وسائل الاعلام عن التحليل الفيزيائي لطريقة الانفجار وانهيار المباني ولا عن تحليل الرماد والمواد المحترقة لمعرفة المواد الحارقة والمتفجرة التي ادت الى الانهيارات، ولا تحليلات الحمض النووي للضحايا لمعرفة اسباب الوفاة والمواد الكيماوية في الاجساد المحترقة او المختنقة لمعرفة اسباب الحريق والانفجار، وغير ذلك من الحقائق التي ـ اذا كان يوجد فعلا دمقراطية في اميركا ـ يحق للرأي العام ان يعرفها، ولكن تلك الحقائق اسدل عليها الستار ووضع عليها ختم "اسرار الدولة" وربما سيكشف عنها بعد 50 او مائة سنة. ولا ندري اذا كان من سوء حظ او من حسن حظ اميركا انه لا يوجد فيها حزب مثل "حزب السنيورة" اللبناني للمطالبة بكشف "الحقيقة".

والمهمة الثانية والاهم هي: القاء مسؤولية ما حدث، وقبل اي تحقيق جدي، على "الارهاب العربي ـ الاسلامي"، حتى قبل ان تعلن اي منظمة "ارهابية!!"، لا "القاعدة" ولا غيرها، مسؤوليتها عن ذلك. فاذا كانت "القاعدة" هي فعلا من قام بالتفجير، فكيف عرف جورج بوش وادارته بذلك لو لم يكن هناك تنسيق سابق مشترك. وحتى لو كانت "القاعدة" فعلا تتحمل مسؤولية التفجير لوحدها، فهذا لا يعني ابدا اتهام العالم العربي ـ الاسلامي بالتفجير. ان هدف هذا الاتهام الجماعي الجزافي هو واضح تماما، وهو شن الحرب على العالم العربي ـ الاسلامي واحتلاله.

وفي ظل هذه الحملة العنصرية البشعة المعادية للعرب والاسلام والمسلمين، جرت حملات مطاردة للجاليات العربية والاسلامية في اميركا خصوصا وفي العديد من البلدان الغربية عموما، واعتقل الالوف بدون ابداء الاسباب بحجة "الامن القومي" الاميركي، وبلغت الهستيريا المعادية للعرب والمسلمين حد التعدي على الناس المسالمين، في الشوارع والاماكن العامة، على السحنة، حتى انه جرى اطلاق النار وقتل بعض المواطنين الهنود من طائفة السيخ لمجرد انهم يطلقون لحاهم مما هو تقليد متبع لدى ابناء تلك الطائفة المعروفة بالاستقامة والفروسية.

وفي ظل الشعار الكاذب حول "مكافحة الارهاب العربي ـ الاسلامي!!" جرى شن الحرب على افغانستان واحتلالها، بحجة اسقاط نظام طالبان الذي كان الاميركان انفسهم قد جاؤوا به الى افغانستان.

وفي خلال هذه الحملة الهوجاء من الاكاذيب والاضاليل على مستوى الدولة الاميركية وحلفائها، جرى ايضا ادخال منظمة الامم المتحدة في سيرك التهريج الاعلامي، وشهد العالم كله كيف وقف وزير الخارجية الاميركية الاسبق "الشاب الاسمر الحلو ايضا!!!" كولن باول يشرح على شاشة التلفزيون امام المندوبين في الامم المتحدة عن المواقع الثابتة والمتحركة لاسلحة الدمار الشامل العراقية ايام صدام حسين طبعا.

وبهذه الحجج الكاذبة والاضاليل تم ايضا شن الهجوم الظالم على العراق، وصب ملايين اطنان اليورانيوم المنضب على شعبه وارضه، لجعله كبلد غير صالح للحياة السوية لعشرات ومئات الوف السنين القادمة. كما جرى استخدام الاسلحة المحرمة ضد جنود وضباط الجيش العراقي لقتل اكبر عدد منهم، بدون اي ضرورة عسكرية،  ولمجرد كونهم مواطنين عراقيين عرب ومسلمين ليس الا.

وتحت الحجج الكاذبة والاضاليل ذاتها حول "الارهاب والاصولية الاسلامية!!!" جرى شن الحرب الوحشية على لبنان في تموز 2006، وعلى قطاع غزة في شباط 2008.

واطلقت اميركا لابواقها الاعلامية وكلابها في كل مكان عنان النباح المسعور ضد ايران، التي وضعت على رأس قائمة "الدول المارقة!!!" المستهدفة للعدوان والاحتلال بعد افغانستان والعراق ولبنان وفلسطين.

لقد كانت الاستراتيجية الامبريالية الاميركية ـ الصهيونية تهدف من وراء هذه "الحرب الصليبية" الجديدة الى الاحتلال والاستعمار المباشر للعالم العربي ـ الاسلامي ووضعه تحت العقب الحديدي للفاشية الاميركية ـ الصهيونية الجديدة، تمهيدا لمحاصرة روسيا واسقاطها، ووضع العالم كله تحت هذا العقب لمئات السنين.

ولكن مثلما اخطأت الستراتيجية الاميركية ـ الصهيونية الحساب، وعادت بخفي حنين من المنطقة الروسية في المرحلة الاولى، فإنها أخطأت الحساب ايضا في المنطقة العربية ـ الاسلامية. ومع كل التبجحات الكاذبة لاميركا واذنابها وكلابها حول "الدمقراطية" فإنهم ابعد ما يكونون عن الدمقراطية الحقيقية، وبالتالي عن معرفة وادراك التوجهات الحقيقية للشعوب العربية والاسلامية، التي تتمحور حول الارادة الصلبة بالتحرر التام من ربقة الاستعمار والامبريالية الاميركية والغربية والصهيونية، كشرط مسبق لا بد منه لاي تقدم وتنمية اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية للبلدان العربية والاسلامية.

ان الارادة الشعبية في التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والحضاري هي السمة المميزة للحراك الكفاحي، السياسي والعسكري، للشعوب العربية والاسلامية، وهي السمة التي لاحظها لينين زعيم الثورة الاشتراكية الروسية خلال الحرب العالمية الاولى، وهو الذي لفت انظار العالم ان غالبية حركة النضال ضد الاستعمار تقع على عاتق الشعوب الاسلامية، وقد وجه النداءات المتتالية "الى مسلمي آسيا والشرق" ودعا الى عقد مؤتمر شعوب الشرق في موسكو في مطلع العشرينات من القرن الماضي. واستنادا الى هذه الارادة التحررية نشأت المقاومة الشعبية للاحتلال الاميركي والاسرائيلي، في كل من فلسطين ولبنان والعراق وافغانستان؛ وذلك بالرغم من التمزق والتناحر السياسي ـ الحزبي والديني والطائفي والاتني والعشائري في هذه البلدان، مثله مثل البلدان العربية والاسلامية الاخرى، وهو التمزق والتناحر الناشئ عن التخلف التاريخي، والذي يصب في النهاية في مصلحة الامبريالية والصهيونية. ولكن بالرغم من ذلك، فإن الاحتلال الاميركي ـ الاطلسي ـ الاسرائيلي تحول، حيثما وجد، ليس الى وسيلة لترسيخ الهيمنة الامبريالية وتوسيعها ونشرها، بل الى "مصيدة" لجيوش اميركا وحلف الاطلسي واسرائيل والى مقتل لهم. وبالفعل وقعت اميركا والحلف الاطلسي  واسرائيل في مأزق مزدوج، فهم: من جهة لا يستطيعون التخلي بسهولة عن الاحتلال، لانهم حينذاك سيتحملون كل مسؤولية وتبعات جعل المقاومة وانصارها وحلفاءها الدوليين يملأون الفراغ الذي سيتركه الاحتلال؛ وهم، من جهة ثانية، لا يستطيعون مواصلة الاحتلال، الذي (اذا استثنينا "المنتزهات والمنتجعات السياحية" الاسرائيلية في الجولان)، يكلفهم الكثير ماديا وسياسيا وبشريا، على النطاق العالمي والوطني معا.

وكانت الطغمة المالية الاميركية ـ الصهيونية تأمل انها ستعوض سريعا مئات مليارات الدولارات التي انفقت على الحرب الاعلامية والنفسية والعسكرية وعلى نشر الجيوش والاساطيل الاحتلالية في منطقة "الشرق الاوسط الكبير"، وعلى العملاء والاذناب والقطط والجرذان والكلاب "المحليين" الذين يقومون بتنفيذ سياسة "الفوضى البناءة" كما سمتها غونداليزا رايس، والتي تبدأ باستقبال سمير جعجع على اعلى المستويات في البيت الابيض، وكأنه المهاتما غاندي او ماو تسي تونغ او جمال عبدالناصر، ولا تكاد تنتهي بقتل رجال الدين والوطنيين المسيحيين العراقيين وتهجيرهم، وبتفجير المساجد والمعابد وحتى الجنازات في العراق وقتل الابرياء بالعشرات والمئات "على الهوية" الطائفية. ولكن كل الجهود المبذولة في سرقة وتهريب خيرات العراق، ولا سيما النفط، وتحويل قتل العراقيين الى "صناعة موت" تدر الملايين على اصحابها، وتحويل كردستان العراق "المبرزن ـ المطلبن" الى "جنة للتهريب" من جميع والى جميع انحاء العالم؛ ـ كل هذه الجهود لم تفلح في تعويض الطغمة المالية الاميركية ـ الصهيونية ارباحها المفترضة وخسائرها الفعلية في "الحرب على الارهاب"، فكشرت عن انيابها الفرنكشتاينية و"اكلت" اقرب المقربين اليها، اي الكتلة المالية ـ النفطية العربية ـ الاسلامية، التي تكدس ودائعها من عائدات النفط والغاز التي تعود الى الشعوب العربية والاسلامية في البنوك الغربية عموما والاميركية خصوصا. وفي اجواء الازمة المالية ـ الاقتصادية المفتعلة في اميركا، وفي ليلة ليلاء، استولت الطغمة المالية اليهودية ـ الماسونية ـ الانغلو/ساكسونية على كل ودائع الكتلة المالية العربية ـ الاسلامية في البنوك والبورصات الاميركية والتي تبلغ الوف مليارات الدولارات. ومثلما صمت صدام حسين حتى الرمق الاخير، ولم يكشف سرا واحدا من اسرار علاقاته مع الاميركان، منذ ايام آلان دالاس، الى ايام رامسفيلد واخيرا الى ايام غروسبي؛ حتى يحافظ على وجهه "العروبي" المزعوم؛ فإن الكتلة المالية العربية ـ الاسلامية، وحتى تحافظ على وجهها "الاسلامي!!!" المزعوم، لم تشأ ان تكشف اسرار علاقاتها التاريخية مع الامبريالية والصهيونية، فصمتت ايضا صمت القبور عن عملية النهب الهائلة التي تعرضت لها في اميركا، تماما مثلما صمتت ولا زالت تصمت صمت القبور عن المؤامرة الاميركية ـ الاسرائيلية لاغتيال رئيس الوزراء "اللبناني" الاسبق الشيخ رفيق الحريري، الذي كان احد ابرز ممثلي الكتلة المالية العربية ـ الاسلامية على الساحة الدولية. بل هي، ايغالا في "اللؤم" ليس الا، تدفـّع الخزينة اللبنانية (اي في الاخير المواطن اللبناني المظلوم) عدة ملايين من الدولارات كجزء من نفقات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال المرحوم رفيق الحريري، التي هي ليست اكثر من سيرك لاخفاء "الحقيقة" حول هذه الجريمة الاميركية ـ الصهيونية بامتياز، حتى لو كان يوجد (في الجريمة وفي المحكمة) بعض الكومبارس العرب.

والان لم يبق امام الكتلة المالية الاميركية ـ الصهيونية ما تأكله سوى اجساد الاطفال والنساء والشيوخ الذين تقتلهم، اذا استطاعت ـ ولن تستطيع ـ ان تستمر في ذلك.

وفي معركة غزة اختزلت كل آلة القتل الاميركية ـ الاسرائيلية، التي تكلف دافع الضرائب الاميركي الوف والوف مليارات الدولارات، والتي يدعي انصار "الدمقراطية" في لبنان وغير لبنان انها مخصصة لـ"مكافحة الارهاب والاصولية الاسلامية!!!"؛ ـ اختزلت تلك الآلة الجهنمية الى مجرد آلة سادية لقتل الاطفال والنساء والشيوخ والمعاقين العزل والعاجزين... ولكن: ايضا بدون جدوى!!!

فليس فقط سماحة السيد حسن نصرالله هتف مع الحسين "هيهات منا الذلة"، وليس فقط الرئيس اسماعيل هنية هتف "ليقتلونا جميعا، ولن نوقع"، بل ان النساء والاطفال والشيوخ انفسهم في غزة وقانا واخواتهما كانوا ولا زالوا يهتفون "نموت ولا نستسلم!". اي ان الادارة الاميركية العظمى والصهيونية العالمية بكل جبروتها اصبحت عاجزة حتى عن الاستمرار في قتل الاطفال والنساء والشيوخ العزل في "الشرق الاوسط الكبير" الذي ارادت له غونداليزا رايس ان يولد من فوهات مدافع "دمقراطيتها" المعهرة.

لقد تآمرت الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية لتفجير البرجين التجاريين في نيويورك، لاتخاذ التفجير ذريعة لاحتلال "الشرق الاوسط الكبير". ولكنها بهذا التفجير لم تفعل سوى ان تدق اسفينا كبيرا في نعشها الذي سيكونه حتما "الشرق الاوسط الكبير". وكما انهار ذينك البرجان، فإن الستراتيجية الاميركية ـ الصهيونية برمتها بدأت الان بالانهيار. وفيما يلي بعض مؤشرات هذا الانهيار:

-1- المجيء بالرئيس الاسود، باراك حسين اوباما، الى البيت الابيض، مما ينقض كل البناء العنصري للولايات المتحدة الاميركية، ويفتح الطريق قريبا جدا لطرح مسألة الاتنيات والقوميات في اميركا ومنح حق تقرير المصير للزنوج واللاتينو وغيرهم، وبالتالي فتح الطريق لتقسيم اميركا الى عدة دول مستقلة لعدة شعوب. وكان الهدف من المجيء بأوباما انه ربما يستطيع "احتواء الاعصار القادم" وتجنيب اميركا مصيرها المشؤوم. ومن المناسب جدا على هذا الصعيد ان يستدعي وزير الاعلام اللبناني، ايا كان، السفير الاميركي السابق في لبنان، الذي اصبح مندوبا اميركيا خاصا في الشرق الاوسط، السيد فيلتمان، ويترجم له الحكمة التي يتضمنها بيت الشعر العربي القديم "لا يصلح العطار ما افسد الدهر".

-2- ردا على رسالة التهنئة التي ارسلها الرئيس الروسي ميدفيدييف الى اوباما، والتي هي رسالة بروتوكولية عادية جدا، ـ رد برسالة خاصة وسرية يطلب فيها وساطة روسيا "لاحتواء" الازمة مع... ايران.

-3- وفي الوقت نفسه تقريبا ارسل اوباما رسالة الى الحكومة الايرانية يطالب فيها بالحوار والعلاقات الايجابية. (الله الله يا دنيا، وين كنا ووين صرنا؟!): من التهديد والوعيد، الى استجداء الحوار.

-4- وفي افغانستان ذاتها بدأ الاميركيون مفاوضات جديدة مع من؟ ـ مع... طالبان. لانهم يدركون تماما ان مقاومة الشعب الافغاني لهم لا تقتصر على "طالبان"، بل هي تتجاوزهم وتتجاوز "طالبان" معا. وهم يعتقدون ان اعادة "طالبان" الى السلطة في افغانستان قد تمثل "مخرجا مشرفا" من ورطتهم الافغانية التي لا يدري احد كيف ستنتهي. ولكن ذلك هو تعبير عن الافلاس التام لكل الستراتيجية الاميركية، وخصوصا ادعاءاتها "الدمقراطية" الفارغة. والخيار الدمقراطي الحقيقي للشعب الافغاني لن يكون لا الاميركان ولا الاطلسي ولا طالبان.

-5- وفي العراق ذاته، عاد الاميركيون الى التعاون السري وغير السري مع البعثيين الصداميين، حلفائهم "التاريخيين". لقد احتل الاميركيون العراق بحجة تحريره من نظام صدام؛ واستبدلوا "طاقم الاحصنة" التي تجر العربة الاميركية من صفوف ما كان يسمى "المعارضة العراقية"، التي فشلت في تحقيق الاستقرار للاحتلال الاميركي للعراق، وفي حماية الجنود الاميركيين من شحنهم بالتوابيت الى اميركا. وغدا، اذا نجح الاميركيون في تركيب حكم بعثي جديد (صدامي بدون صدام) في العراق، سنرى ماذا سيحل بكل انصار الاحتلال الاميركي في العراق، الذين سابقوا البعثيين الصداميين على خدمة الامبريالية الاميركية وتنفيذ مخططاتها.   

-6- ان وضع الادارة الاميركية ـ الصهيونية الحالية هو اشبه ما يكون بوضع عصابة لصوص يفرون بزورق نجاة في بحر عاصف والزورق يتسع لعدد محدود وعدد افراد العصابة هو الضعف، فما العمل؟ ـ طبعا ان العدد الزائد لن يرمي نفسه في البحر لانقاذ الاخرين. وطبعا ان افارد العصابة لن يقترعوا "دمقراطيا" على من يرمونه في البحر. والمنطقي ان يتعاركوا ويتطاعنوا ويتقاوصوا. وهذا هو الوضع الحالي للادارة الاميركية. وقد بدأت الفضائح السياسية المتبادلة تنتشر، حيث ان كل طرف يريد ان يلقي مسؤولية الفشل والانهيار على الاطراف الاخرى. ولا يستبعد ان تبدأ الاغتيالات المتبادلة في وقت قريب جدا، لأن "الدق محشور" بكل معنى الكلمة. ومن الفضائح التي كشفت مؤخرا ما جاء على لسان المدعو لورانس ويلكيرسن، في تصريح الى الاسوشيتد برس. وهذا الويلكيرسن هو جمهوري وكان يشغل منصب مسؤول مكتب وزير الخارجية الاميركي الاسبق "الشاب الاسمر الحلو" كولين باول. ويقول ويلكيرسن ان الكثيرين من المعتقلين في غوانتانامو هم اناس ابرياء (يعيش ويفيق!) قامت القوات الاميركية باعتقالهم، لانها لم تكن تستطيع التمييز بين "الاعداء" والسكان المدنيين (السبب بسيط يا ويلكيرسن: كلهم ملونون ومسلمون، اي كلهم اعداء!!!). وهو يضيف انه لا يزال يوجد ابرياء في غوانتانامو. ويقول ويلكيرسن ان السلطات الاميركية تثبتت من براءة الكثير من المعتقلين ولكنها احتفظت بهم  على امل انتزاع معلومات منهم لصالح المخابرات. وقال ويلكيرسن انه لم يدل بهذه التصريحات قبلا، لانها كانت خاضعة للرقابة، اما الان فهو يريد ان يرد على تشيني، الذي يؤكد ان قرار اوباما باغلاق سجن غوانتانامو هو قرار مضر بأمن الولايات المتحدة الاميركية. ولم ننس بعد ان تشيني، او ديك تشيني هو نائب الرئيس الاميركي السابق، وكان يعتبر مما يسمى "الصقور الاميركية"، وهي الصقور التي نتف ريشها، واصبحت اشبه بالديك الرومي الذي يأكله الاميركيون في "عيد الشكر"، الا ان هذه الصقور منتوفة الريش لا فائدة منها حية او ميتة، ولا تؤكل كالديك الرومي، لانها تقتات على الجثث.

-7- بالرغم من الانتشار الواسع في اميركا لمطاعم الوجبات السريعة، ماكدونالدز وغيره، المتخصصة بتقديم اللحوم والشحوم الملغومة والمشحونة بالمواد الضارة المصنوعة خصيصا للاصابة بالسمنة البدنية والبلادة الذهنية لدى المواطنين المساكين، فإن الاميركيين العاديين بدأوا يدركون ان قيادتهم الامبريالية ـ الصهيونية انما تستغلهم وترسل ابناءهم للقتل والموت في العراق وغيره (مقابل حفنة من الدولارات) من اجل المصالح العليا للامبريالية والصهيونية. وقد بدأت المظاهرات المعادية للحرب في العراق. وحدثت احدى هذه المظاهرات في مدينة لوس انجلس امام "ممر المجد" في هوليوود، كما اذاعت قناة سي بي سي 2. ودعا المتظاهرون في هوليوود ادارة اوباما الى سحب الجيوش الاميركية من العراق. وحمل المتظاهرون عددا من النعوش الرمزية الملفوفة بالاعلام الاميركية وهم يزمعون وضعها امام الساحة التي يتم فيها تجميع المطلوبين للخدمة العسكرية في هوليوود.

وفي واشنطن قام اكثر من عشرة الاف شخص بالتظاهر امام مقر البنتاغون (وزارة الدفاع الاميركية) للتعبير عن معارضتهم للحرب على العراق. وصرح برايان بيكر، احد منظمي المظاهرة "اننا نأمل ان الرئيس اوباما سيضع حدا لاحتلال العراق".  

2009-03-28