ارشيف من :آراء وتحليلات

هو الربيع العربي... المُسمَّى من جنس التسمية

هو الربيع العربي... المُسمَّى من جنس التسمية

من يقصرون نظرهم على الماضي أو الحاضر سوف يخسرون المستقبل.

جون كندي


نعم هو "الربيع العربي". وسنبقى نكررها. وإلا ماذا عساه أن يكون هذا الحراك الشعبي العارم الذي أطلق عجلة التاريخ على امتداد أمتنا بعد أن أصابها الصدأ؟ ومن سواه كان بوسعه بعث حرارة الحياة في هذا اليباس العربي الذي طال؟

نعـــــم هو "الربيـع" بالقراءة الشاملة؛ وليس بيومياته التي تتراءى عند البعض ارتكاسات، أو قهقرى إلى الـــوراء!. فهذا الالتباس ـ أو الخداع البصري ـ ليس عرَضياً، بل هو ناشىء من صلب ثقافتنا التي تستمد خصائصها من اجتماع أمرين، أولهما موروثنا التاريخي، وهذا لا يحتاج إلى شرح وافر باعتبار ان تاريخنا الغابر لم يشهد ثورات حقيقية ـ إلا بعض الحركات الاحتجاجية ـ. فقد ظل هذا الفعل الإنساني الارتقائي مكبوتاً تحت وطأة ثقافة دخيلة على الفكر الاسلامي هي: "طاعة ولي الأمر" بحيث بات الخروج عليه يقع في باب "الفتـنة"!!

أما الأمر الثاني فهو من تجاربنا المعاصرة التي لم تعرف التغير كحصيلة لنضال قاعدي شعبي المنشأ، وإنما تغير فوقي يأتي فجأة بالانقلابات العسكرية. فيما هذه الأخيرة لم تكن بالأساس تعبيراً عن مقدمات سابقة لها في إطار "الصيرورة التاريخية" للمجتمع، وإنما كانت فصلاً من فصول الصراع على المنطقة، لعل مثالها الساطع سلسلة الانقلابات التي شهدتها سوريا. والمثال هنا يشتمل على أكثر من مدلول يتناسب وحجم الصراع على هذا البلد واشتباكه الشديد مع عناصر الداخل أي الطبقة السياسية الحاكمة.

ربما من باب الاستطراد المفيد الإشارة هنا إلى أن النخب السياسية في الغالب كانت تعمل على ركوب موجة هذه الحركات الانقلابية، ليس وحسب في انتهازية لا تخفى معالمها، بل أيضاً في دلالة على أن غياب الأصالة والأخلاق الديمقراطية مسألة تربية وموروث قيمي، هذا بالرغم من أن النخب المذكورة كانت على حصيلة وافرة من التعليم؛ وبعضها تخرّج من أرقى المعاهد الأوروبية.

ترى هل كانت سوريا ستشهد انقلاباً آخر لو قاطعت الطبقة السياسية الانقلاب الأول الذي قام به رئيس الأركان يومها حسني الزعيم بدل أن يتلقفه البعض، الكثير منهم 72 نائباً من أصل 136، اجتمعوا في جلسة طارئة قرروا فيها تأييد قائد الانقلاب فيما آزرته شخصيات أخرى يسارية مدنية على رأسها أكرم الحوراني الذي أصبح " مستشاراً قانونياً" له فيما تحقق باتريك سيل في كتابه "الصراع على سوريا" من أن الحوراني كان شريكاً في الانقلاب وهو من "وضع البلاغات الأولى للحركة"!. ثم بات شريكاً في الانقلاب الثالث الذي قام به العقيد أديب الشيشكلي؛ وقد شهد هذا الثالث أيضاً تخاذل السياسيين الذين عملوا تحت (جناحه) وفيهم أسماء كبيرة. لا بل بعضهم في مرحلة لاحقة بايعه رئيساً للجمهورية في انتخابات صورية!! كل هذا والرئيس الشرعي للبلاد شكري القوتلي خارج سوريا لاجئ إلى مصر!. أما الطبقة السياسية في هذه الأخيرة فلم تكن أفضل حالاً إن لم تكن أسوأ! حيث كثيراً ما كان بعضها يستقوي على بعض بالاستعانة بالانكليز، وحادثة 4 فبراير/شباط مثال بارز حين جاء النحاس باشا إلى الحكم محمولاً على دبابات الجيش البريطاني الذي فرضه على الملك عنوة عندما طوق قصره في حركة شبه انقلابية فضلاً عما مثله هذا من تحدّ لمشاعر المصريين يومها.

وبنفس الكيفية فإن حريق القاهرة الشهير في 26 يناير/ كانون الثاني كان في سياق تصفية الحسابات السياسية الداخلية حتى إذا ما جاءت حركة الضباط الأحرار حاول بعض السياسين التقليديين تلقفها وركوب موجتها. كذلك سعى الأخوان لتجييرها لمصحتهم. والحقيقة أن ما حدث في 23يوليو/ تموز عام 52 كان من الممكن ان يبقى مجرد انقلاب عسكري، غير أن الرؤية المتبصرة لجمال عبد الناصر ارتقت به إلى مصافّ الثورات. وهذا مثال حي على أن التغيير الذي جاء به كان فعلاً فوقياً، بل استثنائياً أملاه وجود عبد الناصر بالذات. بدليل أن أكبر مشكلة ظلت تواجهه حتى وقت متأخر هي عدم وجود قاعدة تواكب هذه الحالة الاستثنائية حتى قال أحد المراقبين إن عبد الناصر كان سابقاً لمن حوله بدرجات فيما هؤلاء كانوا يسيرون لاهثين من خلفه!.

والدليل أن هؤلاء لم يستطيعوا أن يثبتوا بعد وفاته بالرغم مما كان بحوزتهم من "مراكز قوى" حتى أسقطهم السادات بالضربة القاضية في ساعات قليلة ليبدأ بعدها وبسرعة عملية الارتداد على ما اختطّه عبد الناصر على مدى 16 عاماً!!. مسألة هي بلا شك متعددة الأوجه، لكن يظل أهمها أن ثورة الضباط الأحرار كانت تحاكي في أحسن الفرضيات وعي أصحابها أو البعض منهم!!.

لعل الفارق بين الحدث التاريخي والحدث الاستثنائي يظهر جلياً عند المقارنة بالثورة الفرنسية، وهي معيار قياسي كونها جاءت نتاج مسار طويل لحراك اجتماعي سياسي معقد اجتاح أوروبا، بدأ بعصر النهضة، فالإصلاح الكنسي، ثم بناء الدولة المدنية المركزية... الخ. لذلك فقد استمرت ارتدادات هذه الثورة على محيطها بالرغم مما أصابها من نكسات. لقد كان ما سبق وليد تطور الآلة، ووسائل المعرفة. كان منها المطبعة، والصحافة التي لعبت دور الأداة الثورية في القرن الماضي ـ لا سيما الثورة الروسية ـ. أما الآن فإن ما يحدث هو وليد ثورة الاتصالات. وهو في فوضاه يحاكي ما شهدته أوروبا قبل قرنين تقريباً. حتى استقرت على ملكيات دستورية تطورت أو أُرغمت على أن تتطور بفعل الموجة الثورية التي أطلقتها الثورة الفرنسية.

ماذا يحدث الآن في عالمنا العربي محطة تاريخية أنجزت في سنة أمرين: الأول كسر الحاجز النفسي بين الحاكم والمحكوم، وهو حاجز من الرهبة والخوف لطالما اجتهدت الأنظمة في اصطناعه. والأمر الثاني انتقال العمل السياسي من فعل إنابة تتولاه نخب فوقية من المجتمع، أو على المجتمع؛ إلى فعل أصالة تتولاها الجماهير أو هي تسعى اليه بكدّ على الأقل. ولعل المكسب الاساس الذي حققته حتى الآن أنها شكلت من نفسها ما كان غائباً حتى الأمس القريب وهو الرأي العام الذي لم يعد بالإمكان تجاوزه، بل سيصبح في مرحلة لاحقة جزءاً من القرار, وهذا ما حدا "بمركز أبحاث الأمن القومي الاسرائيلي" إلى إقامة مؤتمر تحت عنوان "الربيع العربي". وقد أجمعت آراء المشاركين فيه على الخشية من إزاحة أنظمة كانت تشكل ضمانة "لأمن اسرائيل"!!. وكان التركيز بهذا الخصوص على مصر بالذات. وهذا أيضاً يتقاطع مع آراء العديد من الباحثين الأمريكيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط نكتفي بالاستشهاد بأبرزهم وأكثرهم خبرة "بريجنسكي" المستشار الأسبق للأمن القومي: "إن الشارع العربي زادت قوّته بعد الربيع العربي"... وفي إحدى مقالاته أشار إلى أن ما يشهده العالم العربي أضرّ " بشكل كبير بقوة الولايات المتحدة...". أما تفسيره فهو لأن الادارة الأمريكية "كانت تتعامل في السابق مع حكومات تعرف كيف تتجاهل الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي".

هو إذاً الربيع العربي؛ والمُسمَّى من جنس التسمية إذا ما دققنا ملياً في المصطلح بمعناه العلمي وبعيداً بالطبع عن سطحية الرومانسيات ومنمنماتها اللغوية العقيمة!. فالربيع لا يقدّم الفقاعات التي عوّدنا عليها (البلاغ رقم واحد)!. هو بالأساس ليس فصل قطاف الثمر، بل هو المرحلة السابقة للثمار. الفرق كبير والمسافة أكبر. هذا لمن يفتش عن المحصول.

لؤي توفيق حسن ـ كاتب من لبنان

2012-04-02