ارشيف من :آراء وتحليلات
بعد ليبيا، الإسلاميون والغربيون في مالي : تعاطف متبادل
لم يكن من المنتظر للانتخابات الرئاسية، التي كان من المقرر إجراؤها في مالي أواخر نيسانم ابريل الحالي أن تجلب الترياق من العراق. خصوصاً وأن قسماً كبيراً من السكان لا يشاركون فيها ولا يهتمون بمعرفة قيمتها وأهميتها، ولا يعترفون حتى بالحدود التي وضعها المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون وغيرهم بين بلدهم والبلدان المجاورة.
المهم أن تلك الانتخابات قد خرجت من الأجندة بفعل تطور الأحداث على الأرض: في وقت واحد تقريباً تمكنت جماعات مسلحة من الطوارق والعلمانيين والإسلاميين الذين قدم بعضهم من الصومال وتونس ونيجيريا من فرض نفسها على المناطق الشمالية، ومن السيطرة على أكثر من ثلثي مساحة البلاد، في حين شهد القسم الجنوبي المتبقي منها حول العاصمة باماكو انقلاباً عسكرياً قاده أمادو سانوغي، وهو من صغار الضباط من حيث رتبته.
خلفية الأحداث الأكثر بروزاً هي الصدامات المسلحة التي تجري منذ أكثر من عام في الشمال بين الجيش النظامي وبين المسلحين المنتمين إلى قبائل الطوارق والإسلاميين (بعضهم ينتمي إلى تنظيم القاعدة). وقد تمكن هؤلاء المسلحون من إلحاق خسائر بشرية ومادية ومعنوية كبيرة بالجيش النظامي، وهذه الخسائر تفاقمت بوجه خاص بعد عودة أعداد كبيرة من المقاتلين الطوارق من ليبيا حيث كانوا يشكلون أحد الأعمدة الرئيسية لنظام القذافي، على ما يقوله البعض، أو شطراً مهماً من المسلحين الذين أسهموا بهذا القدر أو ذاك في إسقاط ذلك النظام، على ما يقوله آخرون.
ويقول الإنقلابيون الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "اللجنة الوطنية لإصلاح الديمقراطية وإعادة الدولة" بأن ما دفعهم إلى التحرك هو عجز النظام الحاكم في مالي عن مواجهة مسلحي الشمال والتسبب بهزيمة الجيش الوطني.
قد يكون ذلك صحيحاً لكن توقيت الانقلاب يثير كثيراً من التساؤلات لأن ضعف النظام وهشاشته وتفاقم الأوضاع المعيشية لأربعة عشر مليون نسمة من سكان مالي الذين يعيش أكثر من نصفهم تحت خط الفقر، إضافة إلى ضعف الجيش، هي أمور مزمنة وتتطلب العلاج منذ سنوات طويلة.
وما يبعث على الريبة أيضاً هو تركيز وسائل الإعلام الغربية وشريكاتها العربيات على "عفوية" الانقلاب، حيث يربطون بينها وبين عفوية الثورات العربية في محاولة واضحة لتبخير الحركة الانقلابية.
ورغم الإدانات اللفظية الشديدة اللهجة التي وجهتها الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي إلى الانقلابيين، لا تلوح في الأفق بوادر تحرك دولي حازم من أجل إعادة البلاد إلى "الديموقراطية" التي يقولون بأنها نعمت بها منذ العام 2002 تاريخ انتخاب آمادو توماني توري رئيساً للبلاد.
لكن الأكثر إثارة للريبة هو الصمت الغربي المشوب بالرضا عن لا شرعية العمل المسلح في شمال البلاد والذي وصل إلى حد إعلان الانفصال وإقامة "جمهورية أزواد" في المناطق التي طرد منها الجيش الوطني، واستمرار حالة الصمت والرضا حتى بعد احتلال مدينة تومبوكتو الشهيرة بتراثها الإسلامي العريق ومكانتها الثقافية والاقتصادية الرفيعة كحاضرة إسلامية مميزة تاريخياً في منطقة الساحل الإفريقي. والتي يقتصر ذكرها حالياً على كونها مقصداً للسياح.
والجدير بالذكر أن احتلال تومبوكتو قد تم على يد حركة أزواد العلمانية وجماعات إسلامية كتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وجماعة أنصار الدين الجهادية السلفية. والحركة الأخيرة يقودها إياد أغ غالي، وهو قنصل سابق لجمهورية مالي في السعودية.
والمعروف أن حركة أنصار الدين كانت قد بسطت سيطرتها على العديد من المناطق في شمال مالي وأعلنت تطبيق الشريعة فيها بشكل يصفه المراقبون بأنه شبيه بممارسات طالبان في أفغانستان. ومن قبيل ذلك أنها فرضت الحجاب على النساء مع العلم أن التقاليد السائدة بين الطوارق هي سفور النساء وتحجب الرجال !
المهم أن الإسلاميين قد عمدوا فور الاستيلاء على المدينة إلى طرد حركة أزواد منها وباشروا تطبيق الشريعة فيها.
ومن الأمور ذات الدلالة أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي يفترض به أن يكون معنياً بمالي ـ المستعمرة الفرنسية السابقة ـ أكثر بكثير من ليبيا، قد رد على استغاثات الانقلابيين ومطالبتهم بتدخل خارجي لحماية ما تبقى من مالي في وجه الزحف الأصولي القادم من الشمال بشكل واضح لا يقبل التأويل: نحن لا نتعاون مع متمردين!
وعلى ذلك، يصبح من الممكن توصيف الوضع في مالي على الشكل التالي : هيمنة متصاعدة للسلفيين على المناطق الشمالية، حالة انهيار في الجنوب واحتمال تفجر نزاع مسلح بين قبيلة الرئيس المخلوع المدعوم من قبل كبار الجنرالات في الجيش، واحتمال استمرار السلفيين في التقدم لاكتساح القسم المتبقي من البلاد، وشبه إجماع دولي على إدانة الانقلاب رغم كل المؤشرات التي تفيد بأنه كان أبعد ما يكون عن العفوية، وأن وظيفته الرئيسية هي إحداث ضجيج يغطي على تحول مالي إلى ما يشبه إمارة إسلامية متاخمة لبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا والسنغال وموريتانيا والجزائر والنيجر... غير بعيد عن نيجيريا حيث ترتدي السلفية شكل جماعة باكو حرام المنخرطة في صراع لا هوادة فيه مع المسيحيين.
بكلام آخر، وفي الوقت الذي يبدو فيه أن الغربيين مرتاحون إلى التقدم الذي يحققه الأصوليون، جاء تطور الأحداث في مالي كواحد من تداعيات تدخل الناتو وأصدقائه العرب وما أحدثه من فوضى في ليبيا، وهذا التطور يخشى أن يجر ذيوله على الجزائر (اول المستهدفين بعد ليبيا) خصوصاً وأنها شكلت قبل سنوات قليلة مسرحاً لحرب أهلية طاحنة بين النظام والإسلاميين الأصوليين، ولأنها تشكل منذ سنوات أيضاً مسرحاً لتحرك ما بات يعرف باسم الأمازيغ الذين يقدمون اليوم على أنهم ينتمون إلى اتنية واحدة مع الطوارق المتواجدين في جنوب الجزائر وشمال مالي، إضافة إلى المغرب وبلدان أخرى
المهم أن تلك الانتخابات قد خرجت من الأجندة بفعل تطور الأحداث على الأرض: في وقت واحد تقريباً تمكنت جماعات مسلحة من الطوارق والعلمانيين والإسلاميين الذين قدم بعضهم من الصومال وتونس ونيجيريا من فرض نفسها على المناطق الشمالية، ومن السيطرة على أكثر من ثلثي مساحة البلاد، في حين شهد القسم الجنوبي المتبقي منها حول العاصمة باماكو انقلاباً عسكرياً قاده أمادو سانوغي، وهو من صغار الضباط من حيث رتبته.
خلفية الأحداث الأكثر بروزاً هي الصدامات المسلحة التي تجري منذ أكثر من عام في الشمال بين الجيش النظامي وبين المسلحين المنتمين إلى قبائل الطوارق والإسلاميين (بعضهم ينتمي إلى تنظيم القاعدة). وقد تمكن هؤلاء المسلحون من إلحاق خسائر بشرية ومادية ومعنوية كبيرة بالجيش النظامي، وهذه الخسائر تفاقمت بوجه خاص بعد عودة أعداد كبيرة من المقاتلين الطوارق من ليبيا حيث كانوا يشكلون أحد الأعمدة الرئيسية لنظام القذافي، على ما يقوله البعض، أو شطراً مهماً من المسلحين الذين أسهموا بهذا القدر أو ذاك في إسقاط ذلك النظام، على ما يقوله آخرون.
ويقول الإنقلابيون الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "اللجنة الوطنية لإصلاح الديمقراطية وإعادة الدولة" بأن ما دفعهم إلى التحرك هو عجز النظام الحاكم في مالي عن مواجهة مسلحي الشمال والتسبب بهزيمة الجيش الوطني.
قد يكون ذلك صحيحاً لكن توقيت الانقلاب يثير كثيراً من التساؤلات لأن ضعف النظام وهشاشته وتفاقم الأوضاع المعيشية لأربعة عشر مليون نسمة من سكان مالي الذين يعيش أكثر من نصفهم تحت خط الفقر، إضافة إلى ضعف الجيش، هي أمور مزمنة وتتطلب العلاج منذ سنوات طويلة.
وما يبعث على الريبة أيضاً هو تركيز وسائل الإعلام الغربية وشريكاتها العربيات على "عفوية" الانقلاب، حيث يربطون بينها وبين عفوية الثورات العربية في محاولة واضحة لتبخير الحركة الانقلابية.
ورغم الإدانات اللفظية الشديدة اللهجة التي وجهتها الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي إلى الانقلابيين، لا تلوح في الأفق بوادر تحرك دولي حازم من أجل إعادة البلاد إلى "الديموقراطية" التي يقولون بأنها نعمت بها منذ العام 2002 تاريخ انتخاب آمادو توماني توري رئيساً للبلاد.
لكن الأكثر إثارة للريبة هو الصمت الغربي المشوب بالرضا عن لا شرعية العمل المسلح في شمال البلاد والذي وصل إلى حد إعلان الانفصال وإقامة "جمهورية أزواد" في المناطق التي طرد منها الجيش الوطني، واستمرار حالة الصمت والرضا حتى بعد احتلال مدينة تومبوكتو الشهيرة بتراثها الإسلامي العريق ومكانتها الثقافية والاقتصادية الرفيعة كحاضرة إسلامية مميزة تاريخياً في منطقة الساحل الإفريقي. والتي يقتصر ذكرها حالياً على كونها مقصداً للسياح.
والجدير بالذكر أن احتلال تومبوكتو قد تم على يد حركة أزواد العلمانية وجماعات إسلامية كتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وجماعة أنصار الدين الجهادية السلفية. والحركة الأخيرة يقودها إياد أغ غالي، وهو قنصل سابق لجمهورية مالي في السعودية.
والمعروف أن حركة أنصار الدين كانت قد بسطت سيطرتها على العديد من المناطق في شمال مالي وأعلنت تطبيق الشريعة فيها بشكل يصفه المراقبون بأنه شبيه بممارسات طالبان في أفغانستان. ومن قبيل ذلك أنها فرضت الحجاب على النساء مع العلم أن التقاليد السائدة بين الطوارق هي سفور النساء وتحجب الرجال !
المهم أن الإسلاميين قد عمدوا فور الاستيلاء على المدينة إلى طرد حركة أزواد منها وباشروا تطبيق الشريعة فيها.
ومن الأمور ذات الدلالة أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي يفترض به أن يكون معنياً بمالي ـ المستعمرة الفرنسية السابقة ـ أكثر بكثير من ليبيا، قد رد على استغاثات الانقلابيين ومطالبتهم بتدخل خارجي لحماية ما تبقى من مالي في وجه الزحف الأصولي القادم من الشمال بشكل واضح لا يقبل التأويل: نحن لا نتعاون مع متمردين!
وعلى ذلك، يصبح من الممكن توصيف الوضع في مالي على الشكل التالي : هيمنة متصاعدة للسلفيين على المناطق الشمالية، حالة انهيار في الجنوب واحتمال تفجر نزاع مسلح بين قبيلة الرئيس المخلوع المدعوم من قبل كبار الجنرالات في الجيش، واحتمال استمرار السلفيين في التقدم لاكتساح القسم المتبقي من البلاد، وشبه إجماع دولي على إدانة الانقلاب رغم كل المؤشرات التي تفيد بأنه كان أبعد ما يكون عن العفوية، وأن وظيفته الرئيسية هي إحداث ضجيج يغطي على تحول مالي إلى ما يشبه إمارة إسلامية متاخمة لبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا والسنغال وموريتانيا والجزائر والنيجر... غير بعيد عن نيجيريا حيث ترتدي السلفية شكل جماعة باكو حرام المنخرطة في صراع لا هوادة فيه مع المسيحيين.
بكلام آخر، وفي الوقت الذي يبدو فيه أن الغربيين مرتاحون إلى التقدم الذي يحققه الأصوليون، جاء تطور الأحداث في مالي كواحد من تداعيات تدخل الناتو وأصدقائه العرب وما أحدثه من فوضى في ليبيا، وهذا التطور يخشى أن يجر ذيوله على الجزائر (اول المستهدفين بعد ليبيا) خصوصاً وأنها شكلت قبل سنوات قليلة مسرحاً لحرب أهلية طاحنة بين النظام والإسلاميين الأصوليين، ولأنها تشكل منذ سنوات أيضاً مسرحاً لتحرك ما بات يعرف باسم الأمازيغ الذين يقدمون اليوم على أنهم ينتمون إلى اتنية واحدة مع الطوارق المتواجدين في جنوب الجزائر وشمال مالي، إضافة إلى المغرب وبلدان أخرى
عقيل الشيخ حسين