ارشيف من :آراء وتحليلات

الثورة المصرية على مشنقة انتخابات الرئاسة

الثورة المصرية على مشنقة انتخابات الرئاسة

"هذه الثورة ما هى إلا زوبعة في فنجان.. بس طبعا الكلام ده هنا فى المؤتمر بس"
(المشير محمد حسين طنطاوي ـ خلال اجتماع لكبار ضباط الجيش)

النظر في حال مصر هذه المرة، يفضح أكثر من أي وقت سابق حقيقة الطبقة السياسية التي حكمتها على مدى أربعة عقود ونيف، وبلغت بها هذا الدرك من التردي غير المسبوق، وذاك بعد أن سمحت ثورة يناير/كانون الثاني بسطوع بيانات ووقائع أدق تكشف حجم النهب المنظم الذي مارسته هذه الطبقة، وحاولت طمسه أو حجبه عن الأنظار.

عصابة بكل ما للكلمة من معنى، مارست أبشع أنواع النهب، والسطو على خيرات وموارد بلد ومقدرات شعبه. كل ذلك جرى بحراسة و(رعاية) من قيادات عسكرية، وأمنية كان لها النصيب الأكبر من الشراكة المافيوية، وفي تقصد عن سابق تصميم لتفريغ القوات المسلحة المصرية من محتواها، حتى بات الحديث عن" جنرالات البزنس" على كل لسان، وهم ذاتهم الآن الذين يشكلون عماد "المجلس العسكري" الذي يحكم مصر عملياً.

البداية كانت في عهد السادات الذي رغب بعد صفقة "كامب ديفيد" في رشو الجيش بشراء ولائه من خلال تقديمات مثل سكن، واستراحات للضباط، ومستشفيات، غير أن هذا الإستيعاب للقوات المسلحة والسيطرة عليها أخذ منحى الإفساد المنظم بعد مجيء مبارك بالمشير محمد حسين طنطاوي، حيث باتت الأموال التي تغدق على القوات المسلحة والتي تصل إلى ثلث الميزانية السنوية للدولة، تُسَيَّل في مشاريع استثمارية ليس لها علاقة بمهمات الجيوش، وفي ظاهرة فريدة من نوعها أفرغت القوات المسلحة من محتواها من حيث الوظيفة، ومن حيث المناقبية، فيما نفقات التسليح والتدريب ظلت مقتصرة فقط على الإعانة الأمريكية السنوية للجيش المصري المقدرة بحوالي 1.3مليار دولار !.ـ نظيرها المعلن لإسرائيل 3.1 مليارات، غير القروض الميسرة)!!!

يقدّر جوشوا ستاكر، استاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية كينت والمختص في شؤون الجيش المصري "أن هذا الأخير يتحكم في 33 الى 45 في المئة من الاقتصاد المصري. وقد أظهرت معظم التحليلات مؤخرا أن الجيش المصري يسيطر في أقل التقديرات على 25 في المئة من الاقتصاد المصري، الذي تعدى حجمه التريليون جنيه وفقا للبيانات الرسمية، أي أنه يستحوذ بالحد الأدنى على أصول اقتصادية تتراوح قيمتها ما بين 250 مليار جنيه و450 مليار جنيه. هذه الأصول تدر ارباحاً تقدر بعشرات المليارات من الجنيهات سنويا، بحيث بات المجلس العسكري كناية عن "مجلس إدارة" لإدارة هذه الإمبراطورية المالية، وهي المكونة ابتداءً من معامل تعبئة المياه المعدنية والزيوت، وحتى معامل الصناعات الكبيرة مثل: الكيماويات، الأنابيب، الكابلات، الأدوات المنزلية، الإسمنت، والإنشاءات، وغيرها. هذا فضلاً عن استثمارات زراعية ـ (يستخدم فيها الجنود في مواسم القطاف كعمال زراعيين!!) ـ ،ومنشآت سياحية من منتجعات وفنادق فخمة ـ يوجد في مدينة القاهرة منها 20 فندقاً ـ وكل هذا من ألفه إلى يائه معفى من الضرائب؛ ولعل في ذلك أو بعضه ما يفسر جانباً من حرص المجلس العسكري على أن يلحظ الدستور عدم المساس بهذه الإمبراطورية المالية، وبحيث تظل ميزانية الجيش خارج أية رقابة أو مساءلة.


حيال ما سبق لعبت هذه الثروة الطائلة لعبتها الشيطانية، أو كما هو مطلوب أن تفعل من تفريغٍ للقوات المسلحة من مضمونها، وإفساد كبار ضباط الجيش بأعطيات يحددها المشير طنطاوي، لكل منهم بحسب ولائه أو قربه أو بعده!. فلهذا قصر مثلاً ولذاك فيلا ولآخر شقه أو شاليه، أو قطعة أرض... وهكذا حتى بات آخر هَمّ هؤلاء، مسؤولياتهم العسكرية، وباتت سمعتهم السيئة على كل لسان... مثلاً ثروة المشير طنطاوي بالتحديد لا يعرفها إلا الله! وهي بحسب بعض الصحفيين المصريين لا تقل عن ثروة المليارديرية من كبار أباطرة الفساد في عهد مبارك مثل زكريا عزمي، حسين سالم، رشيد محمد رشيد، بطرس غالي، وشفيق جبر وغيرهم.

أما رئيس الأركان الفريق سامي عنان، وغيره من ضباط المجلس فحدث ولا حرج، فسيرتهم الفاسدة على كل صفحة، لفتنا منها صفحة على الفايس بوك لأحد صغار الضباط*ـ لم يذكر اسمه بالطبع ـ جاء فيها تفاصيل مفاسد هؤلاء الأباطرة مقرونة بصور لقصورهم واستراحاتهم التي جرى فرشها بأثاث فاخر من أمريكا والصين، يُقال بأنها أستُقدِمت بطائرات نقل عسكرية هبطت في قواعد جويّة للجيش وذلك حتى لا تمر على الجمارك.

استطراداً لا بد من الإشارة هنا إلى أن ما سبق، جرى ويجري في جوٍ ساخط يعتري صغار ضباط الجيش ـ (من ملازم حتى مقدم) ـ يتفاقم مع تلك الطبقية الفجة في المعاملة ونوعية الخدمات المتاحة لهم في السكن أو في العلاج! مقارنة بغيرها من مشافي الخمس نجوم المخصصة لكبار القادة والقادرين من المرضى المدنيين على دفع نفقات علاجهم، بعد أن تم تحويل المستشفيات العسكرية إلى خدمات (قطاع خاص)! يستفيد منها غير العسكريين من الميسورين. وهذا كلــه بالطبع خلافاً لما كان معمولاً به قبل مجيء مبارك ومشيره!!.

في هذا الجو الموبوء باتت مألوفةً تلك الأخبار التي تتحدث عن تراجع الكفاءة القتالية للجيش المصري ومستوى العديد من كبار ضباطه خصوصاً عندما يكون مصدرها أكثر من خبير مخضرم من قدامى المحاربين المحالين على التقاعد ـ (المعاش) ـ. فهل يعقل أن يكون هذا هو حال الجيش الذي عبر يوما قناة السويس في أكبر عملية عسكرية شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية؟!! وهل كان يمكن لـ"إسرائيل" أن تتصور تدميراً لهذا الجيش كمثل هذا التدمير الممنهج الذي جرى بأيدٍ مصرية! أعتقد أن "إسرائيل" نفسها لم تكن تحلم يوماً بأكثر من استبعاد مصر عن ساحة الصراع!

ثم يأتيك من بعد هذا (مثقف) من هنا ليقول لك بأن ما حدث في "الربيع العربي" كان "فورة"!.. أو مثقف! من هناك ليقول بأنها فعل "مؤامرة"!! والحقيقة أن المؤامرة بل كل التآمر هو في ما آلت إليه مصر من أحوال.

أليس ذلك من منظور الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو الحالة المثالية لأمن "إسرائيل" انطلاقاً من القاعدة الذهبية لكسينجر: "لا حرب بغير مصر..". وهو الحالة الأكثر مثالية لمستقبل "اسرائيل" انطلاقا من قاعدة بن غوريون، من ان التنمية ورفع مستوى الشعوب العربي هو أكثر ما يؤذي كيانه**.

ولكي تكتمل الصورة أكثر لا بد للقارئ بأن يعلم بأن هذا (الحوت) المالي ـ العسكري ليس مفصولاً عن الشبكة الأم المؤلِّفة لمافيا الحيتان من رجال مبارك وشركائهم من (رجال الأعمال)!. وهذا يعطيه سنداً قوياً باعتبار أن هذه الطبقة لم يجر المس بمفاصل قوتها، حيث ملياراتها بأمان في البنوك العالمية، وما زالت ذراعها طويلة في مؤسسات الدولة وفي مختلف فعالياتها.

لقد كانت هذه (النخبة العسكرية الأرستقراطية) حريصةً في الدفاع عن مبارك، لكن الموج كان أكبر من أن تصده، حتى أنها خشيت على بقائها بالذات عندما بدأت مجموعات من صغار الضباط الموجودين بالميدان بالانضمام إلى المنتفضين فسعت عندها لإغرائهم وصرفت لهم "حوافز" بلغت نحو 500 جنيه في اليوم. ثم أحياناً "كانت تتضاعف الى 2500 جنيه في اليوم" بحسب الغارديان ونقلاً عن لسان أحد الضباط الصغار الذين قابلتهم في ميدان التحرير.

لقد سعى المجلس العسكري وما زال إلى تفريغ الثورة من مضمونها. فمع حكومة أحمد شفيق ربيب مبارك، تم تهريب كل الأموال السوداء إلى الخارج أو تبييضها ليتم منها الصرف على الثورة المضادة من رشو الكبير أو الصغير متى استلزمت متطلبات إثارة الفوضى ذلك!.. إلى دفع المكافآت للذراع الضاربة للثورة المضادة المتمثلة في: "البلطجية". وهو جيش من المجرمين المحترفين وأصحاب السوابق يبلغ عدده حوالي 400 الف، هدفهم إشاعة أجواء الفوضى والارتباك، إلى جانب تصفية القيادات النشطة من شباب الثورة، بحيث يصبح الهاجس الوحيد للمصريين هو طلب الأمن والأمان ـ (الشعارالمرفوع من فريق عمر سليمان!!!) ـ.

أما في المرحلة الراهنه فإن المهمة الأساس أمام المجلس العسكري هي احتواء نتائج الإنتخابات البرلمانية التي طرحت على الساحة قوى تقلقه بكل تأكيد في مقدمتها حزب "الحرية والعدالة"، الذي ـ مهما ابتعدنا عنه أو اقتربنا ـ لن ننكر اعتقادنا في رغبته بعدم ترك هذه الإمبراطورية المالية العسكرية هاربةً خارج قبضة القيادة السياسية للدولة. لذلك فالمرجح أن المجلس العسكري ـ أو مجلس إدارة هذه الإمبراطورية المالية! ـ سيلجأ إلى تأمين الشروط لفوز مرشحه المرجح أن يكون أحمد شفيق فرس الرهان في الشوط الأخير الذي سينحصر في مرشحين اثنين: أحدهما ينتمي إلى مرجعية دينية، والآخر إلى مرجعية مدنية. وعند هذه الأخيرة يتبارى الآن بل يتشاحن أكثر من مرشح من خارج دائرة القوات المسلحة المصرية، وربما تتعمدها فيما بينهم عبر عملاء دستهم مخابراتها عند كل طرف!!. وفي إطار لعبة المجلس: "استنزاف الجميع" وهو ما يراهن عليه في معرض الإنتخابات الرئاسية ليلزم قوى المجتمع المدني فيما بعد بالقبول بمرشحه بوصفه الضامن للأمن والأمان! وهو الهاجس عند الكثير الآن أو يكون على الأقل (أهون الشرين) عند البعض الآخر من اليبراليين والقوميين!. فلو أفلح تكون ثورة يناير/كانون الثاني قد وقعت بمحظور وقوفها في منتصف الطريق من دون القبض على مفاتيح قلعة الخصم!!. فيما الثورة المضادة تكون قد حققت غايتها ليصح معها وبعدها المثل الشعبي المصري: "كـأنك يـا بو زيد ما غزيت".

لـؤي توفيق حسن (كاتب من لبنان)
*موقع" 25 يناير"- www.facebook.com/note.php?note_id=268948506483877
** يفغيني بريماكوف (الشرق الأوسط. المعلوم والمخفي) صفحة 35



2012-04-15