ارشيف من :آراء وتحليلات

احتلال هجليج: مَنْ وَسْوَسَ لدولة جنوب السودان اللعب في الوقت الدولي الضائع؟

احتلال هجليج: مَنْ وَسْوَسَ لدولة جنوب السودان اللعب في الوقت الدولي الضائع؟

لا يبشّر ما يجري من معارك دامية بين جيش دولة جنوب السودان، والجيش السوداني بالخير. فالأزمة التي فجرتها الحركة الشعبية التي تدير جمهورية الجنوب الانفصالية، باغتت على حين غرة الأحداث التي تتركز الآن حول ما اصطلح على تسميته بثورات الربيع العربي وما تضمره وما تظهره من حروب خفية وحروب معلنة بين الاطراف الداخلية والخارجية على الصورة التي ستستقر عليها منطقة الشرق الاوسط كخلاصة اولية لهذه التحولات، والتي للصدفة تزامن بدءُها في مطلع العام 2011 واشتعال ثورة تونس مع تاريخ ميلاد دولة جنوب السودان التي أبصرت النور رسميا في غفلة من العرب الذين كانوا ولا يزالون مشغولين في ثوراتهم، فمر قطوع تقسيم السودان بسلاسة ومن دون اعتراضات عربية لا شعبية ولا رسمية.

الاخبار الواردة والمنشورة عن مسار الاشتباكات تستعيد اخبار ومشاهد نحو عقدين ونيف من المواجهات الدامية بين مسلحي جنوب السودان والسلطات الحكومية في الخرطوم، والتي تحولت حرباً اهلية عبثت فيها مصالح الدول الكبرى ومصالح اطراف محلية، فراح ضحيتها نحو مليوني سوداني، وأعداد ضخمة من اللاجئين، الى ان انجزت المصالحة باتفاق دولي ـ اقليمي في كانون الثاني من العام 2005 ترجم نهائيا مطلع العام 2011 باستفتاء على الانفصال، ففاز كخيار وتحول الجنوب الى دولة رسميا في تموز العام الماضي ايضا.

لكن ما الذي جرى حتى تبدو الصورة وكأنها تعود ثلاثة عقود الى الوراء وتستعاد اللغة والخطابات ذاتها وتسعر المعارك وكأن اتفاقية السلام لم تعد تسع احلام تنظيم الحركة الشعبية في الجنوب، وان الاخيرة تريد ان تحقق مكاسب اضافية مستعينة بلحظة اقليمية ودولية معتقدة ان احدا من العالم العربي لن يهب لنصرة الخرطوم، وان حاجة اطراف دولية لجوبا، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي شكلت القابلة السياسية التي ولَّدت وتربي دولة الجنوب، تسمح للاخيرة (حكومة الجنوب) بأن تتحرك ميدانيا على الارض وتفرض امراً واقعا تبدأ منه ما تبقى من مفاوضات حول قضايا حدودية وغير حدودية عالقة بين الخرطوم عاصمة ما تبقى من السودان القديم وجوبا عاصمة الدولة الوليدة.

احتلال هجليج: مَنْ وَسْوَسَ لدولة جنوب السودان اللعب في الوقت الدولي الضائع؟

وقد اختار جيش الجنوب المكان الأكثر ايلاما لدولة الشمال، منطقة هجليج النفطية، التي تعد المصدر الاساسي لاقتصاد الخرطوم من الذهب الاسود. فلم يكفِ الشمال انه نزعت منه حوالي 75 في المئة من انتاج السودان النفطي بعد التقسيم، ولم يبق له سوى ربع ما كان ينتج ويدخل في خزانته المالية، حتى جاء اعتداء جنوب السودان على هذه المنطقة واحتلالها ليحرم حكومة الخرطوم من اكثر من نصف انتاجها النفطي الذي استقرت حصتها منه بعد التقسيم على نحو 115 الف برميل يوميا ينتج حقل هجليج منه نحو 60 الف برميل منها، وأدى هذا الاعتداء على الحقل إلى تعطيل كل انتاجه، ما القى بالمزيد من الأعباء الاقتصادية على دولة الشمال.

واللافت ان منطقة هجليج ليست محل نزاع حدودي او سيادي بين الجانبين كمنطقة ابيي الغنية بالنفط مثلا، حيث ان محكمة التحكيم الدولي في لاهاي قضت بأن حقل هجليج يعتبر جزءا من الشمال وبالتالي اخرج من دائرة التجاذب، لكن خطوة جيش الجنوب فتحت الامور على احتمالات خطيرة، ليس اقلها اندلاع معارك عنيفة وبدء موجة تهجير جديد وما يمكن أن يليها من نتائج على المستوى الانساني كما هو جار الآن. فالبرلمان السوداني اعلن باجماع اعضائه حكومة جنوب السودان "عدوا" للخرطوم ووجه جميع مؤسسات الدولة للتعامل مع جوبا على هذا الأساس، كما توعد الرئيس السوداني عمر حسن البشير بالعمل على الاطاحة بالسلطة القائمة في تلك الدولة، داعيا الى "تحرير" جنوب السودان من تنظيم الحركة الشعبية"، معتبرا ان هذه "مسؤوليتنا امام اخواننا في جنوب السودان". لكن اللافت في تصريح البشير اللهجة العالية جدا والتي تمثلت بأمرين: الاول قوله ان هناك خيارين فقط، اما ان ننتهي في جوبا او ينتهون في الخرطوم، وان هجليج ليست المعركة النهائية، فالمعركة النهائية ستكون في جوبا؛ والثاني قوله ان حدود السودان القديمة لا تسعنا نحن الاثنان.

ومع احتمال ان تكون هذه الخطابات جزءا من ادوات المعركة النفسية وتحسين اوراق التفاوض، فإن الاحتمال الاخطر في ما يجري حاليا يتمثل في امكان تحول خطوط الاشتباك الراهنة الى خطوط تماس دائمة كجزء من حرب جديدة لكن هذه المرة لن توصف بأنها حرب اهلية بين حكومة الشمال ومتمردي الجنوب، بل ستكون حرباً بين دولتين، في منطقة مؤهلة كالعادة ـ للأسف ـ لدخول اطراف دولية كبرى الى مسرح هذه الازمة.

وقد ظهرت مؤشرات ذلك في حديث المندوبة الاميركية في الامم المتحدة سوزان رايس التي لوحت بالعقوبات على الدولتين ما لم يوقفا المواجهات، ويضعا نهاية كاملة وفورية وغير مشرطة للقتال بينهما. والمرشح بحسب تعبيرها ـ وتعبير غيرها ـ الى أن يتصاعد الى حرب شاملة. لكن المسؤولة الاميركية التي ساوت في خيار العقوبات بين الطرفين لم تتحدث عن احتلال جنوب السودان لحقل هجليج ولم تطالب بالانسحاب منه ولم تعتبره اعتداءً على دولة اخرى، خلافا لما سارعت روسيا الى فعله حيث طالبت في بيان رسمي صادر عن وزارة خارجيتها جنوب السودان بسحب قواتها من منطقة هجليج التي احتلتها من دون ان تكترث لدعوات المجتمع الدولي وما زالت هناك، ما يشكل بؤرة لحدوث نزاع عسكري، معتبرة ان الانسحاب سيسمح بخلق ظروف ملائمة لاستئناف المفاوضات بين الخرطوم وجوبا بهدف ايجاد تسوية للمسائل العالقة بينهما، وعدم تدخل أي جانب في الشؤون الداخلية للجانب الاخر، ومن ضمنها مساندة المعارضة المسلحة الذي ادى الى تفاقم الازمة.

وطبعا فان هذا التوصيف الروسي للأحداث ينطوي على ادانة واضحة للسلوك العدواني لحكومة جوبا ويسمي الاسماء بأسمائها، ويقف ضمنا الى جانب حكومة الخرطوم، مع اعلان صريح برغبة في الانخراط بهذه الأزمة من خلال بيان الوزارة بأن روسيا تتابع باهتمام التطورات في تلك المنطقة، بحيث يمكن أن يستقر المشهد على انحياز روسي واضح لحق الخرطوم في اراضيها ونفطها، وانحياز اميركي واضح لجوبا في عدوانها. وفي ظروف من تغير المعادلات الدولية ورغبة موسكو وواشنطن في ايجاد مواطئ اقدام لهما في اكثر منطقة، فان هذه القضية مهيئة اكثر من غيرها لكي تتحول من قضية محض محلية الى قضية محلية بأبعاد دولية، تضاف الى لائحة البؤر المشتعلة في المنطقة، ولا سيما ان إقدام الجنوبيين على مغامرة الاعتداء هذه لا يمكن الا ان يكون وَسْوَسَ لهم بها اطراف خارجيون ووعدوهم بمدهم بما يحتاجون من دعم سياسي وعسكري وغيره، ومثل هذه الوسوسات كثيرة في تاريخنا السياسي المعاصر، او على اقل تقدير فان دولة جنوب السودان لا يمكن ان تقدم على اعتداء كهذا بما يتضمنه من مخاطر جسيمة بالنسبة الى دولة لم يمضِ على ولادتها عام، من دون ان تُخطِر رعاتها الخارجيين، وهما الولايات المتحدة و"اسرائيل"، بالامر.

عبد الحسين شبيب

2012-04-19