ارشيف من :آراء وتحليلات

"المؤامرة" على سوريا في وجهيها

"المؤامرة" على سوريا في وجهيها

"الإيطاليون لديهم شهية مفتوحة وأسنان نخرة"
بسمارك

لقد كنا من الرافضين لجبريّة الاعتقاد بأن المؤامرة على سوريا واقعة لا محال مهما صانع النظام في اصلاح نفسه، وهذا ما أخذ يردده الكثيرون ممن أخذتهم الحماسة من جمهوره. يقابلهم منطق آخر في جمهور المعارضة يتهيأ له أو يتعمد أن يُصوِّر لسامعيه بأن الجزء الفارغ من الكأس هو كل الكأس؛ وبعصبيةٍ جاهلية على طريقة: "عنزة ولو طارت" وهذا ما حدا ببعض المعارضين للجنوح نحو مواقف تتناقض في الجذر مع خياراتهم الوطنية التي لازمتهم. ربما هي الأذية وقد دفعتهم الى هذه الكيدية!!

الوجه الأول

نعم لقد كنا من الرافضين لجبرية الاعتقاد تلك انطلاقاً من سببين:

الأول أن التآمر هو أحد أبرز اشكال الصراعات، والصراعات هي سنة العلاقات الدولية. وبالتالي فإن إدارتها هي من صلب مهام السياسة؛ وهي صراعات متواصلة في الغالب بين الخصوم، وأحياناً بين حلفاء الصف الواحد، وإن أخذت طابع الاستتار. ومثالها القريب، "اسرائيل" التي حاولت أكثر من مرة توريط أمريكا، اشهرها ما أُسمي "فضيحة لافون" عندما سعت المخابرات الإسرائيلية عام 1953 لتفجير منشآت ومؤسسات أمريكية وبريطانية في مصر بقصد توتير العلاقة بين القاهرة من جهة، وواشنطن ولندن من جهة أخرى؛ وقد نفذت هذه العملية "الوحدة 131" التابعة للمخابرات العسكرية الإسرائيلية "أمان".

ومن الأمثلة عن توريط "اسرائيل" لأمريكا، مثال يسوقه السياسي الروسي المخضرم بريماكوف في معرض حديثه عن غزو لبنان 1982 حيث ذكر(1) بأن واشنطن لم تكن مطلعة على المدى الذي ستبلغه القوات الإسرائيلية، ويذكر بأن" اسرائيل" أخدت تتوسع في هجومها على أساس انه "ليس أمام واشنطن سوى تأييدها" وهكذا حتى "وجدت الولايات المتحدة نفسها في وضع لا تحسد عليه...."؛ بحسب وصف بريماكوف. كما وإن "اسرائيل" لم توفر امريكا من التجسس عليها ولعل أكثر الفضائح المدوية في هذا المجال شبكة "رافي ايتان" التي وظفت عدداً من الأمريكيين للتجسس على المنشآت النووية الأمريكية.

هذا الواقع الذي يبدو غير أخلاقي في السياسة عبر عنه بدقة أحد (أحبارها الكبار!) هنري كسنجر بقوله: "لا يوجد في السياسية أصدقاء وانما أعداء بدرجات متفاوتة"، فكيف والحال مع سوريا وهي في حالة عداء مستحكم مع " اسرائيل"، ومناكفة مع الغرب الداعم لها، وبرز أكثر بعد احتلال العراق مع الدور السوري المؤثر في دعم مقاومته الأمر الذي ارتد عليها باستهدافها في لبنان عام 2005 ثمَّ في محاولة تصفية حليفها الإستراتيجي: "المقاومة اللبنانية" عام 2006.

وبعد ذلك فإن ما لا يجوز نسيانه أن العلاقة بين سوريا ودول الخليج العربية محكومة بالاضطرار من قبل هذه الأخيرة!. فلا هي قادرة على ازالة نظام البعث، ولا هي قابلة به وبطابعه العلماني، فكيف وقد بات حليف ايران!. وبهذا الصدد نتذكر الأيدي الخفية للدول المذكورة في دعم تحرك الاخوان المسلمين أواخر السبعينيات، وقد عبر عن مقاصدها أحد الدبلوماسيين الخليجيين في معرض تعليقه على التفجيرات التي شهدتها دمشق مطلع الثمانينيات بقوله: "ان ما يجري هو تجويف للنظام من الداخل حتى يصبح مثل عش العنكبوت.. وبعدها.."... ثم نفخ بفمه !!!. ومن يتمثل العديد من الذكريات البائسة لا تفاجئه "غدرةٌ بدويةٌ" تأتيه من نفس الجحر!. ألم يتردد بقوة ان غزو لبنان صيف 1982 الذي كلف سوريا آلاف الشهداء كان بتمويل خليجي رغم (ظاهر) العلاقة الحسنة مع سوريا!. ألم تكن أصابع السعودية تلعب في الداخل السوري دافعة برفعت الأسد للانقلاب على الرئيس الراحل حافظ الأسد، وهذا ايضاً بالرغم مما كان يبدو على السطح من "علاقات حسنة" بين البلدين!!. والخلاصة ان التآمر بكل درجاته مسألة غير مستهجنة من حيث المبدأ، او من حيث القياس.

أما السبب الثاني لرفضنا مقولة ان المؤامرة بالغة حدها بإرادة جبرية، كون هذا لا يتفق بالجذر مع مهام السياسة بوصفها "فن صناعة المستقبل"، فكيف بدرء الأخطار! فيما كل المؤشرات كانت تدل على ان استهداف سوريا أخذ بالتسلل إلى داخلها منذ عدة سنوات بما شهدته من اغتيالات، ما يشير الى وجود خلل ما لعله هو الذي سمح بتدفق السلاح بهذا الكم الكبير الى الداخل السوري.

ومن زاوية اخرى فإن القبول بهذه الثقافة الذرائعية المتجذرة في حياتنا السياسية منذ عام 1948 ألغى ويلغي الحس النقدي والمراجعة الذاتية حتى غدت العلاقة بين النتيجة والسبب واهية في أحسن احوالها، ما يسمح بأن يغدو الإقرار بوجود أخطاء مجرد كفارة لذنوبها!.. وكما سبق ذكره فإن تآمر الخارج علينا مسألةٌ غير ظرفية، وهو عندما يفعل يكون منسجماً مع مواقفه ومع مصالحه. أما عندما يجد هذا الخارج أدوات له في الداخل فعندئذ يجب أن نستحضر مفاتيح المعرفة الاربعة: لماذا؟. كيف؟. اين؟. ومتى؟.

الوجه الآخر

غير أن ما سبق لا ينفي حقيقةً واقعةً وهي ان الهواء الأصفر الآتي من الخارج ـ عبر نوافذ وأبواب! ـ قد ركب الحراك الداخلي واستطاع ان يحرفه عن غاياته النبيلة التي انطلق من أجلها في البداية ليصبح فيما بعد اداة لمعاقبة سوريا على مواقفها؛ ولا سيما حيال الصراع مع العدو الصهيوني، هذا خلافاً للتزوير الذي تمارسه بعض المعارضات في معرض تشكيكها بمصداقية الموقف السوري تحت مسمى: "فتح جبهة الجولان".
والحقيقة لمن يبحث عنها أن من بين الأسباب التي دعت القيادة العسكرية الإسرائيلية للمطالبة جهاراً بإسقاط " نظام الأسد" يعود لطموح هذا النظام في بناء ترسانة صاروخية حديثة جزءٌ كبير منها هو من صناعة سورية. وبهذا المجال لم ولن تنسى "اسرائيل" ثلاثة آلاف صاروخ من صناعة سورية ذات المدى 100 كلم أطلقتها المقاومة على اهداف في عمق الأرض المحتلة صيف 2006. وهذا ما حملها ويحملها على المزيد من الحقد جراء ما ألحقته من خسائر بشرية ومادية.

وإذا كانت قدرة سوريا على انتاج الصواريخ قد مكنتها من تزويد المقاومة بهذه الآلاف من الصواريخ، فعلينا أن نتصور كم تملك منها سوريا في مخزونها قبل 6 سنوات.. فترى ما هو الحال الآن؟!. والحقيقة أن اشد ما يقلق "اسرائيل" هو هذه الترسانة من الجيل الحديث التي تعد بحسب اقل التقديرات بعشرات الآلاف من الأنواع القادرة على اصابة اهداف تصل الى النقب جنوباً، وان هذه الصواريخ هي من العدد والنوعية بحيث يصعب تعقبها كلها وتدميرها بمنظومة القبة الحديدية. ومن نافل القول ان هذه القدرة التدميريةلهذه الترسانة قد شكلت عاملا حاسما في تصحيح ميزان القوى الراجحة كفته لمصلحة العدو ـ من قبل ـ بفعل سلاحه الجوي. ولعل مصدر تأثير هذه الترسانة ليس وحسب في قدرتها على ضرب أهداف عسكرية وحيوية، بل في انها كسرت أهم قاعدة تعتمدها "اسرائيل" في حروبها وهي "نقل ساحة المعركة الى أرض الخصم"، وبذا فقد أصبحت الأرض المحتلة هي ساحة حربٍ منذ الدقائق الأولى لأي عدوان اسرائيلي محتمل، وهو ما لا طاقة لـ "اسرائيل" على تحمله بحكم تكوينها الهش.

هذه المنظومة الصاروخية التي ثقلت من موازين سوريا الدور والصخرة هي الهدف الثمين لتل أبيب الآن، لذلك فهي تجهد نفسها عبر وسائط التجسس لكشف مواقعها ومخازنها وما الى ذلك استعداداً لتدميرها عند أية حرب مفترضة؛ ولعل الجديد في هذه الوسائط الطائرات المطلوبة لمراقبي الأمم المتحدة! والتي ستغدو جزءًا من منظومة التجسس عند تزويدها بعدسات مراقبة لتصور الأرض عن قرب وفي مسعىً لحل لغز مخابئها السرية.
وهكذا يجد الذين دفعهم استعداؤهم للنظام حتى غاب عنهم المشهد من كامل جوانبه ان المطلوب من كل هذا السيناريو هو سوريا الدور قبل سوريا النظام وخلافاً لكل ما يعلن. ولعل سر الكبار يكشفه الصغار عندما ذكر أحد اقطاب 14 آذار في جلسة مغلقة ان "المشكلة مع بشار الأسد انه لا يتقن فن التسويات". غير أن هذا القول يبدو عند آخرين شهادة للرجل، يذكرنا بالمثل الشعبي المصري: "ما لاقوا في الورد عيب، قالوا يا أحمر الخدين".

لؤي توفيق حسن ـ كاتب من لبنان

- الشرق الأوسط . المعلوم والمخفي. ص. 217- 218
2012-04-23