ارشيف من :آراء وتحليلات
المعايير العربية المزدوجة
لأن القضايا متداخلة، والمشاكل والأزمات متشابكة، ومقدماتها وخلفياتها متشابهة، إن لم تكن متماثلة ومتطابقة، والمنظومات الثقافية والفكرية والسياسية تتحرك وتتفاعل في فضاء واحد تقريباً، فإنه لا يمكن قراءة طبيعة الاحداث والوقائع في أي بلد عربي بمعزل عن محيطه العام.
ربما مثل هذه الرؤية لم تكن متبلورة وناضجة بالقدر الكافي قبل أن تنفتح الساحة العربية على كل الخيارات حينما أحرق الشاب التونسي العاطل عن العمل محمد البوعزيزي نفسه آواخر عام 2010، ليكون جسده مثل عود ثقاب ألقي وسط كومة كبيرة من القش لتضطرم فيها النيران وتتصاعد سحب الدخان.
قبل ما اطلق عليه بـ"ثورات الربيع العربي"، كان بلد مثل العراق بعد الاطاحة بنظام صدام، وظهور ملامح الديمقراطية والحرية على انقاض الديكتاتورية والاستبداد، يبدو حالة شاذة وغير مألوفة في بيئة غابت عنها اجواء الحرية والتداول السلمي للسلطة، وهيمنت عليها عقليات الاقصاء والتهميش والتغييب.
ولانها لم تكن مألوفة، لذلك، راحت عواصم عربية عديدة تتحول الى ما يشبه غرف العمليات لتخريب كل ما هو صحيح وصائب ويصب في خدمة العراقيين، تحت عناوين ومبررات وحجج وذرائع قد تكون مقبولة في ظاهرها، الا انها في الباطن والخفاء ليست كذلك.
عاملان كانا وما زالا يحددان مسارات الأجندات العربية ـ او بعضها ـ حيال عراق ما بعد صدام، ويوجهان بوصلة الوقائع والاحداث.
العامل الأول يتمثل بالديمقراطية وما يمكن أن تجلبه من استحقاقات خطيرة ومقلقة على أنظمة ديكتاتورية استبدادية لا يوجد في قاموسها شيء اسمه انتخابات، وذهاب حاكم ومجيء آخر، وبالفعل فإنه في وقت مبكر بعد الاطاحة بنظام صدام أخذت المخاوف والهواجس العربية تعبر عن نفسها بسلوكيات وممارسات وصلت الى سفك الدماء وإزهاق الأرواح وتدمير الممتلكات وتخريب البنى التحتية والفوقية على حد سواء، وكل ذلك تحت مسمى "مقاومة الاحتلال" علماً ان الاحتلال الاميركي للعراق دخل من نفس بوابات العواصم العربية التي دخل عبرها الإرهاب الى العراق تحت مسمى المقاومة.
العامل الثاني، يتمثل في النزعة الطائفية المقيتة التي افرغت الدين الاسلامي الحنيف من محتواه وجوهره العظيم، لتشوه صورته بالتالي وتجعله مقترناً بكل ما هو سلبي وخاطئ واجرامي ودموي، وهذه النزعة بعنوانها التكفيري للمذهب الشيعي امتدت الى مساحات واسعة تجلت بوضوح في العراق بعد التاسع من نيسان ـ ابريل 2003، لتخلف مآسي وكوارث وصراعات وفتناً كبيرة وخطيرة.
واذا كانت الأطراف المحركة لتلك المنهجيات قد تمكنت من خلط الأوراق، وتزييف الحقائق، وتضليل فئات وشرائح ومكونات مختلفة، مستفيدة من منابرها السياسية والاعلامية والفكرية والدينية، فإن احداث الربيع خلطت عليها الأرواق أكثر مما هي خلطتها، وكشفت الكثير من زيف الادعاءات والاكاذيب.
ومن مؤشرات وملامح الادعاءات والاكاذيب، حصول الرئيس التونسي المخلوع على ملاذ آمن في المملكة العربية السعودية، وهو المطلوب قضائياً في بلاده بجرائم قتل ونهب وسلب وفساد وإفساد لا تعد ولا تحصى، ومن تلك المؤشرات والملامح ارسال قوات ما يسمى بدرع الجزيرة العربية الى مملكة البحرين للقضاء على الثورة هناك، وانقاذ نظام الحكم من مصير قد لا يختلف عن مصير أنظمة الحكم في تونس ومصر وليبيا إن لم يكن أسوأ منه، لا حباً به ولكن خوفاً من امتداد الثورة الى اماكن ومساحات اخرى، والمؤشر الآخر العمل على تعبئة وحشد العرب والمسلمين والعالم ضد سوريا، بحيث لا يكون هناك أي خيار أو حل سوى اسقاط نظام الحكم فيها، ولم يعد صعباً على اي انسان عادي بسيط ان يكتشف سر التناقض الكامل في المواقف حيال كل من البحرين وسوريا، اي بين نظام يراد الحفاظ عليه بأي ثمن واقصاء وتدمير معارضيه أياً كانت مطالبهم وطموحاتهم، وبين نظام يراد اسقاطه بأي ثمن، وتلبية مطالب وشروط معارضيه من الألف الى الياء.
من يبحث عن الجواب، فالجواب ظهر وبان في العراق قبل بضعة اعوام، وربما ظهر وبان في اماكن اخرى قبل عدة عقود الى وقت قريب، وربما الى الان هناك في بعض العواصم العربية من رجال السياسة والدين والفكر من يعتبرون تفجير السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة وغيرها اعمال مقاومة مشروعة، بل وواجبة، بينما يعتبرون انفجار عبوة ناسفة او استهداف شخص ما في الرياض او الدوحة او المنامة او ابو ظبي او.. حتى وان كان هذا الشخص جاسوساً ومخرباً، عملاً ارهابياً ينبغي للعالم قاطبة ادانته واستنكاره.
وهكذا هي الزوايا التي ينظر من خلالها الى وقائع المشهدين البحريني والسوري. ويخطئ من يعتقد ان ازمة الواقع العربي يمكن حلها ومعالجتها بتغيير انظمة الحكم فقط، لأن انظمة الحكم الاستبدادية جزء من الازمة وليس الازمة كلها، واذا كان من المهم تغيير الانظمة، فإن الاهم هو ما بعد التغيير، اي بدائل تلك الانظمة، التي اذا لم تضع حداً لازدواجية التفكير والمواقف والرؤى والافكار، وتبحث عن مساحات الانفتاح الحقيقي، فإنها تكون بذلك قد اعادت انتاج الازمة -الازمات- وتسويقها بوسائل وادوات ومفاهيم وبيئات جديدة.