ارشيف من :آراء وتحليلات
"لبنان ينأى بنفسه "... غباء يلاقيه غباء!!.
"أقوى من القوة المجتمعة للعالم بأسره، هي فكرةٌ آن أوان خروجها إلى النور".
فكتور هيجو
"لبنان ينأى بنفسه"! إنه العنوان المعلن للسياسة اللبنانية حيال الأزمة السورية؛ في حين أن اتفاق الطائف يلزمها بسقف أعلى. وحدها المؤسسة العسكرية تكفلت بالأمر وبمسعى صادق كي لا يكون لبنان ممراً لتهريب السلاح عبر حدوده إلى الداخل السوري. ومن هذا الواقع يبدو "النأي بالنفس"بلا معنى إلا من هرطقة يجافي فيها لبنان الرسمي أبسط قواعد التعاطي مع قضايا تتصل بأمنه الوطني. فكيف الحال مع سوريا البلد العربي الأوحد المجاور للبنان، وهي رئته، وبوابته إلى العالم العربي، فضلاً عما بينهما من تداخل "سيامي" في التاريخ والاجتماع يتفوق على تداخل الجغرافيا على امتداد 400 كم تقريباً من الحدود المشتركة التي اصطنعها الانتداب الفرنسي.
رب قائل بأن "سياسة النأي بالنفس" شكلت مخرجاً للبنان للتفلت من استقطابات فرضها تدخل الخارج بالأزمة السورية، وبأنها سياسة أتاحت هامشاً من الأمان حيال صراع أكبر من لبنان مفتوح على احتمالات عدة حتى جاءت هذه السياسة تحت وطأة أسئلة قلقة عن مصير النظام، وحدة المؤسسة العسكرية والأمنية، مصير الكيان السوري...الخ. غير ان هذه الأسئلة كان يُفترض أن تطرح مقاربة أخرى، ودائرة أوسع من المهام في الداخل اللبناني الهش لا سيما مع انجرار جزء منه ليصبح طرفاً في الأزمة الوطنية التي تعصف بسوريا؛ وهذا بحد ذاته يحمل من المخاطر على لبنان ما لا يمكن تفاديه بسياسة "النأي بالنفس"!.
المهم الآن أن المسافة بين العنوان: "النأي بالنفس"، وبين الموقف العملي المرتكز على الجيش اللبناني وحده! ما عاد ممكنا الحفاظ عليها بهذه المخاتلة المكشوفة!!. بل إن هذه السياسة أصبحت مثل الثوب المثقوب البالي الذي يعصف به الواقع فيزيده مِزَقاً. هكذا هو الحال عندما لا يكون القرار السياسي اللبناني بمستوى الأداء العملاني للمؤسسة العسكرية لا سيما عندما تصطدم هذه الأخيرة بواقع أصبح فيه لبنان مخزناً للسلاح، وبعد أن بات بعض اللبنانين تجاراً لآلة الموت يصدّرونها إلى سوريا؛ وكانت آخر فصولها الباخرة "لطف الله -2". فكم باخرة مرت من قبل على مرأى من بحرية الأمم المتحدة؟!!. وكم من المستوعبات جرى تفريغها في مخازن لبنانية بوصفها بضائع عادية؟!؛ وكم.. وكم من الأوكار تؤوي انتحاريين يجري استيرادهم ثم إرسالهم إلى الداخل السوري؟!!.هذه أسئلة غير افتراضية بل يجيزها الواقع كما يظهر على جانبي الحدود.
نعم ليس من الواقعية تحميل لبنان الرسمي اكثر من طاقته؛ غير أن الواقعية السياسية لا تتعارض بالمطلق إذا ما سعى لبنان الرسمي للانتقال من حالة المنفعل بالحدث إلى وضعية الفاعل فيه. من المنفعل الذي جعله كالنعامة يدفن رأسه بالرمل، إلى الفعل بسياسة دينامية إيجابية يطرح من خلالها مبادرة سياسية ـ منفرداً أو مع شريك عربي محايد ـ غايتها التجسير بين الأطراف الإقليمية ذات الصلة بالأزمة السورية من جهة ـ بالأخص الرياض وأنقرة ـ، وبين دمشق من جهة أخرى. وهذا من حيث الشكل ممكن بالنظر للعلاقات الطيبة بين لبنان والدول المذكورة. أما من حيث المضمون فإن هنالك حاجة ماسة لمثل هذه القناة الدبلوماسية بعد أن وصلت الأزمة السورية إلى طريق مسدود. فبعد 14 شهراً من الضغط العسكري، والاعلامي والاقتصادي. وبعد أن فعل العالم ما بوسعه أن يفعل فإن النظام ظل صامداً، وهذا بحد ذاته هزيمة لخصومه لا يساويها من حيث التأثير فشل النظام في تصفية الجماعات المسلحة بشكل نهائي. وهذا انطلاقاً من الاعتبارات التالية:
أولاً: إن أعداء النظام في الداخل والخارج قد فعلوا أقصى ما يمكن أن يفعلوه لاعبين بكل أوراقهم إلا ورقة الغزو الخارجي التي تعذرت عليهم لأنها ساقطة عند من يملكها بحكم تكاليفها الباهظة جداً ،ومخاطرها فضلاً عن نتائجها غير المضمونة نهائياً!.. نعم لقد لعب أعداء النظام بكل أوراقهم فيما النظام مازال يحتفظ بأوراق احتياطية لم يستعملها بعد!.
ثانياً: إن النظام ـ وفضلاً عن صموده ـ استطاع ان يسجل عدة نقاط في مرمى المعارضة ابتداءً من ضرب قاعدتها العسكرية المتمركزة في أكثر من مكان مع التضييق على خطوط إمدادها من الخارج حتى بات المتاح لها الآن عمليات التفجير التي يتولاها (انتحاريون!) مُستوردون!، ومؤخراً التسلل من البحر بقوارب مطاطية انطلاقاً من قواعد على الساحل التركي!!. وبعد هذا فإن معارضة الخارج سجلت أهدافا في مرماها من خلال تفككها. فضلاً عما تكشفت عنه من تفاهة وخسة جعلتها معزولة عن الداخل السوري.
هذه الحقائق تتلمسها جيدا الجهات الاقليمية التي دست أيديها في الأزمة السورية؛ وهي جهات تدرك بأنها غدت وحيدةً بعد انكفاء امريكا المبكر ثم أوروبا، وقد تبعتها! ـ اللهم إلا من تصريحات ممثليهم التي باتت نوعاً من رفع العتب ليس أكثر!ـ كل هؤلاء أخذوا يدركون حاجتهم إلى مخرج ما لأنهم لن يكونوا يوماً بمنأى عن ارتداداتها!. وبهذه الحالة فإن دور الوساطة لا يتطلب ثقلاً سياسياً يفرض الحل. بل يتطلب طرفاً مقبولاً من كل الجهات يستطيع أن يسوّق الحل الذي سينتجه توافق الكبار: أمريكا ـ روسيا ـ الصين.
هل يبدو ما سبق ضرباً من الخيال؟...لا بأس حتى لو بدا بهذه الصورة. فالكثير من الإنجازات بدأت أحلاماً، لكن الأمر قد لا يصل إلى هذه الدرجة إذا ما قسناه باتفاق الطائف الذي توج حلاً لأزمة أكثر تعقيداً من الأزمة السورية. من الصحيح أن جوهر التسوية آنذاك جاء حصيلةً لتفاهم سوري ـ امريكي لكنه كان بحاجة للوسيط السعودي الذي تمثل في حينها بدينامية الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهذا ما مكن المملكة من أن تحجز لنفسها مكاناً في المعادلة اللبنانية. فهلا يتقفى لبنان ذات الأثر ليحجز لأمنه مكانا مستقراً لا أكثر؟!.
اننا نعتقد بأن سياسة لبنانية متفاعلة مع الأزمة السورية تشكل مدخلاً جانبياً لكي يكون لبنان حاضراً مؤثراً كيما يقلل من تداعياتها عليه لا سيما بعد أن حوله البعض من العرب إلى منصة لقوى أصولية متطرفة يريدون منها استهداف سوريا يواكبها دعم مادي ومعنوي لإنتاج حالة "قندهارية" لبنانية ـ وفلسطينية في المخيمات. إنها كيدية مبلغ الغباء السياسي، وكأن هذا البعض من العرب لم يتعلم من الدرس الأفغاني حين ارتد عليه السحر!.
وإذا كانت هذه الكيدية قد جعلت من لبنان ساحتها فإن الأولى بأصحاب الشأن من اللبنانين أن يتذكروا ليدركوا بأنهم الخاسر الأول لا سيما عندما يصبحون غطاءً سياسياً للعبة النار هذه!. فمع هذا الفراغ السياسي الذي لم يعد "تيار المستقبل" قادراً على ملئه في الشمال على الأقل، فإن الأقدر على ذلك هو تلك الأصوليات المتطرفة؛ وها هي الآن تتوسع على حساب القوى المعتدلة، وتتنامى من حساب المال النفطي الذي يغدق عليها بسخاء!.
حيال هذا الغباء العربي فإن ملاقاة لبنان له بغباوة "النأي بالنفس" سيحولانه عاجلاً أم آجلاً إلى ساحة لتصفية الحسابات. قد يكون الشمال بؤرته الأكثر سخونةً. وعندها لن يحزن الغرب إذا تحولت هذه المناطق إلى فرن يحرق ما يعتبره "امتداداً لتنظيم القاعدة" حتى ولو حرق الجميع بأتونه!!.
لؤي توفيق حســن ـ كاتب من لبنان