ارشيف من :آراء وتحليلات
فيلتمان في بيروت: الخلفيات والرسائل والنتائج
رغم انتقاله الى الإدارة المركزية وتبوئه منصبا رفيعا في الخارجية، استمر مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان بمتابعة الملف اللبناني بأدق تفاصيله، ولانه الاب الروحي والوصي على تحالف 14 اذار، فقد واكب جماعته في "ثورة الارز" بالتوجيه والرعاية من خلال الاتصالات والزيارات الخاطفة كلما سمحت له ظروفه وكأنها قضيته الخاصة.
في كانون الأول الماضي قام فيلتمان بزيارة استثنائية الى بيروت في ظروف إقليمية مستجدة: تفاقم الأزمة السورية وعشية الانسحاب الأميركي من العراق، وتمويل المحكمة الدولية.
بعد فترة كانت لفيلتمان زيارة خاطفة لساعات خصصھا للتعزية بالنائب الراحل نسيب لحود.
ثم كانت له مشاركة لافتة في احتفال قوى 14 آذار في واشنطن في ذكرى انطلاقتھا متحدثا عن انتصار 14 آذار في الانتخابات النيابية المقبلة وعودتھا الى الحكم تبعا لذلك...
مواكبة فيلتمان للملف اللبناني تندرج في إطار تداعيات الأحداث في لبنان (الحكومة ـ الانتخابات) وعلى الحدود الجنوبية ومع سوريا. ولم يقتصر الاهتمام الاميركي بزيارات فيلتمان، بل أكملها قدوم مسؤولين أميركييين بارزين الى لبنان ھذا العام: الموفد الرئاسي الأميركي لشؤون الشرق الأوسط فريدريك ھوف الذي تركزت محادثاته على ملف الحدود البحرية اللبنانية ـ "الإسرائيلية" المتنازع عليھا وموضوع النفط والغاز في البحر المرشح لأن يكون موضوعا خلافيا ومصدر توتر جديد بين لبنان و"إسرائيل"، والمسؤول الآخر ھو نائب وزير الخزانة الأميركية لشؤون الإرھاب والاستخبارات المالية دافيد كوھين الذي ركز على الجانب المالي المصرفي في العلاقة بين الملفين اللبناني والسوري...
ما هي الظروف التي رافقت زيارة فيلتمان الأخيرة الى بيروت؟
دخلت الولايات المتحدة في مرحلة انتقالية بسبب "غيبوبة" الانتخابات الرئاسية الممتدة حتى الخريف المقبل.
الحدث السوري لم يعد في المرتبة الأولى وتقدمت عليه أمور العراق والمفاوضات مع إيران والتطورات في المثلث الإيراني ـ السعودي ـ التركي ومستقبل مصر السياسي.
سوريا تقف عند مفترق خطر متأرجحة بين نجاح خطة أنان ووضع الحل السياسي على سكة الحوار، وبين فشل ھذه الخطة وانزلاق سوريا الى ھاوية الحرب الأھلية...
وفي وقت تزداد التوترات والأحداث على الحدود اللبنانية ـ السورية وغيرھا، تزداد وتيرة التوتر الداخلي في لبنان وإعادة طرح موضوع الحكومة على بساط البحث واحتدام المواجھة مع اقتراب الانتخابات...
في ھذه الأجواء، جاءت زيارة فيلتمان في توقيت خاص واهتمامات استثنائية:
1- التزامن بين زيارة فيلتمان وزيارة نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي الى بيروت ليس مجرد صدفة، انه يذكّر بشيء مماثل حصل سابقا عندما زار الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لبنان وجنوبه، وزار في شكل موازٍ له رئيس الحكومة التركية أردوغان لبنان وشماله...
من أھداف زيارة فيلتمان التشويش على زيارة رحيمي وضبط إيقاعھا، وقد رتبت على عجل من أجل بعث رسالة داخلية وخارجية مفادها ان لبنان ليس «ساحة» متروكة لإيران.
2- تزامن زيارة فيلتمان السياسية الى بيروت مع الزيارة العملانية للسيناتور جو ليبرمان الذي قام بما لم يستطع فيلتمان القيام به لأسباب أمنية أو لضيق الوقت من جولة تفقدية على حدود لبنان الشمالية مع سوريا جاءت بعد أيام على جولة تفقدية و"غامضة الدلالات" قام بھا جنرال أميركي كبير (قائد القوات البرية) الى حدود لبنان الجنوبية مع "إسرائيل".
واتسمت الزيارة الى الشمال بأهمية خاصة من منطلق الابعاد التي يحملها موقع الحدث في وادي خالد واهداف التوجه الاميركي اليه تحديدا، الامر الذي اعتبر بداية تحرك غربي ـ اميركي ضد سوريا، لا سيما ان ضباطا في الوفد ضليعين بالوضعين اللبناني والسوري وبعضهم زار لبنان مرات عدة كان آخرها مطلع العام الفائت. كما ان احدهم وضع دراسة عن ضرورة التدخل العسكري الاميركي في سوريا.
3- أثار فيلتمان مع محادثيه في بيروت موضوع الأقليات الدينية والاثنية في المنطقة، من منطلق استيضاحي، وقد سأل رئيس الجمهورية ميشال سليمان عن وضع الأقليات في سوريا، وخصوصا المسيحيين، فأجابه بأن "سوريا تتميز بمزيج من المكونات المتعددة، والنظام حفظ للمسيحيين دورا ما".
4- زيارة فيلتمان الى لبنان لا يمكن أن تكون الّا في اطار التحريض ضدّ المقاومة، وهو أصلاً من دعاة الفتنة في لبنان، ويتميّز فيلتمان بتطرفه، فهو يجاهر دائماً أن مصلحة بلده هي من مصلحة "اسرائيل" منذ أن كان سفيراً في لبنان ولديه تاريخ أسود مع اللبنانيين.
وقد عكست زيارة فيلتمان الخطوط العريضة للسياسة الأميركية حيال لبنان وتحمل الرسائل التالية:
1- الأولوية الأميركية المعطاة للملف السوري تفرض تجميدا للوضع اللبناني الھش.. في موازاة سعي واشنطن الى حصر النار السورية حتى إمرار الانتخابات الأميركية الرئاسية...
2- التشديد على ضرورة التزام لبنان والدول المحيطة بسوريا (العراق والأردن) بالعقوبات المالية الأميركية المفروضة على النظام السوري بعد اعتماد خيار الضغط الاقتصادي المالي بديلا عن الخيار العسكري المستبعد، كما يندرج الطلب الأميركي بالاھتمام بأحوال النازحين وعدم ملاحقة المعارضين السوريين وعدم تسليمھم الى السلطات السورية... ويتفھم الأميركيون خصوصية الوضع اللبناني لذلك يشجعون على ايجاد "بيئة فتنة" لاضعاف المقاومة واستنزافها من جهة وايجاد امر واقع في الشمال وعبر الحدود لضمان ممرات للسلاح والمقاتلين والمساعدات..
3- الإدارة الأميركية تشجع الفريق الوسطي في الحكومة (سليمان ـ ميقاتي ـ جنبلاط ) لعدم توافر البديل الحكومي في الوقت الحاضر، وعدم جھوزية فريق 14 آذار لتسلم الحكم، ما يوفر الحفاظ على الاستقرار الهش بانتظار المتغيرات السورية وحتى لا يكون لبنان الرئة التي يتنفس منھا النظام السوري...
4- واشنطن مع تشكيل حكومة حيادية بعد استنزاف الاكثرية الحالية ووفق توقيت مناسب. وغرض زيارة فيلتمان هو ضبط ايقاعها ربطا بالانتخابات النيابية... لان واشنطن متحمسة جدا للانتخابات المقبلة كمحطة مفصلية وفرصة مؤاتية لانقلاب الوضع في لبنان واستعادة 14 آذار ما فقدته من سلطة ونفوذ وأكثرية... ولذلك فإن من الأھداف الأساسية لزيارة فيلتمان حث فريق 14 آذار على الاستعداد لھذه الانتخابات والسعي الى الفوز بھا وعدم تفويت ھذه الفرصة لتغيير الوضع رأسا على عقب... وتشجيع جنبلاط على اعلان التحالف جهارا مع 14 آذار في الانتخابات والعودة الى مكانه الطبيعي عندما يرى الوقت مناسبا...
وفي هذا الاطار، اثار فيلتمان في لقاءاته موضوع الانتخابات النيابية عام 2013، مشدداً على أهمية اجراء الانتخابات وفقاً لقانون واضح تستطيع من خلاله هذه القوى الحصول على الاغلبية النيابية، وهكذا فتح فيلتمان معركة رئاسة الجمهورية ايضاً للعام 2014.
رسم فيلتمان لقوى 14 آذار ما يمكن تسميته بـ "خريطة طريق" الى الانتخابات المقبلة، وھي:
- تشجيع فكرة حكومة حيادية.
- مساندة موقف جنبلاط والحريري في رفضھما لقانون النسبية.
- الاستعداد للانتخابات النيابية وحشد كل الطاقات للفوز بأكثرية مريحة وبالتعاون مع النائب وليد جنبلاط.
- تشكيل حكومة 14 آذار بعد الانتخابات ومن دون مشاركة أي من أطراف 8 آذار، أي لا عودة الى حكومة الوحدة والشراكة.
- المجيء برئيس للجمھورية من داخل فريق 14 آذار، أي لا عودة الى "الرئيس التوافقي".
وبينما كان فيلتمان يجول في لبنان ويستطلع اوضاع المنطقة، التقى مستشار الامن القومي الاميركي توم دونيلون الرئيس الروسي المنتخب فلاديمير بوتين خلال زيارة لموسكو، قبل اجتماع مجموعة الثماني في الولايات المتحدة، بحث خلالها "المراحل المقبلة في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا بما في ذلك التعاون في الملفات الاقتصادية والامن". ووصف البيت الابيض هذه المحادثات بـ"البناءة". ولم يؤكد بوتين بعد مشاركته في قمة مجموعة الثماني المقرر عقدها في كامب ديفيد بميريلاند شرق الولايات المتحدة يومي 18 و19 ايار، وهو لن يشارك في قمة الحلف الاطلسي التي ستعقد على هامش هذه القمة في شيكاغو. وتترقب واشنطن استراتيجية بوتين وملامح الحرب الباردة الجديدة.
لذلك أثارت زيارة فيلتمان ضجة في حين أن نتائجھا متواضعة ولا تتجاوز "شد أواصر حلفاء واشنطن في لبنان" بانتظار التحولات الدولية والعربية القادمة. والأميركيون يعرفون قدرات الحلفاء والخصوم، كما إن التغيّر في سوريا لم يشكل بعد حافزا لإحداث تغيير دراماتيكي في لبنان...