ارشيف من :آراء وتحليلات
حينما تتجه القارة العجوز الى اليسار!
بات الكثيرون اليوم يتحدثون عما يسمى بـ "الزلزال الاوروبي" بصوت أعلى وبصراحة اوضح، وبنبرة اقوى، كيف لا والازمة الاقتصادية العالمية هزت اركان القارة العجوز، لتطيح برؤساء جمهوريات وحكومات وأحزاب، وبالتالي تخلط الأوراق، وتقلب الأمور رأسا على عقب.
ما حصل في فرنسا واليونان قبل بضعة أيام لم يكن الاول من نوعه في أوروبا، وأغلب الظن أنه لن يكون الأخير، فهناك أنظمة وحكومات أخذت تترنح وأخرى دبّ القلق والخوف في نفوسها، وراحت تبحث عن موانع وحواجز حتى لا يجتاج الزلزال حدودها ويحطم ابوابها ويقوض البناء برمته على رؤوسها.
عهد الرئيس نيكولاي ساركوزي انتهى بطريقة بدت مذلة ومهينة الى حد كبير، لا سيما وأن من انتصر عليه ـ وهو فرانسو هولاند ـ لم يكن رجل دولة من الطراز الاول، ولا زعيماً حزبياً يمتلك من الكاريزما الشيء الكثير، وما ساعده على الانتصار هو ساركوزي نفسه!
والحال في اليونان ربما ـ بل بالتأكيد ـ كان اكثر سوءاً، فالتداعي لم يتوقف عند انهيار الحكومة بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، وانما تواصل بفشل متكرر في تشكيل حكومة جديدة بسبب التباين الحاد في المواقف والاتجاهات، وغياب الرؤى والتصورات.
ولأن الدول الأوروبية المحورية - مثل المانيا وبريطانيا وفرنسا- تدرك حجم وآثار الأزمة الاقتصادية العالمية على أوروبا، وبما أن اليونان اصبحت منذ اكثر من عام بؤرة الأزمة الاقتصادية، لذا من الطبيعي جداً ان تتحرك تلك الدول بكل الاتجاهات من اجل تجنيب اثينا الانهيار والتصدع الكامل، لأن انهيارها وتصدعها يعني مقدمة لانهيار اوروبا برمتها.
ولا شك ان الهزات السياسية المتلاحقة التي أدت الى سقوط حكومات عديدة في ايطاليا وفنلندا واليونان واسبانيا والبرتغال والدانمارك وفرنسا واليونان وهولندا، اشرت الى اوضاع خطيرة للغاية لأنها كانت عبارة عن نتائج ومعطيات اولية -وليس نهائية- تدل على خطورة الاوضاع خصوصاً أن النتائج والمعطيات أولية ـ وليست نهائية ـ للازمة الاقتصادية، اي بعبارة اخرى ما نشهده حاليا هو بدايات ومقدمات، وما يظهر ويتبلور لاحقاً سيكون اشد وطأة على كامل المنظومة الرأسمالية الغربية.
ومن الخطأ اليوم النظر الى الشعارات والمطالب المطروحة من قبل جماهير واسعة في اروبا والعالم الغربي عموماً بصورة سطحية من دون التعمق في حيثياتها ودلالاتها وابعادها، فالوقوف بوجه سياسات التقشف يتجاوز كثيراً سقوف الرواتب ومستوى الخدمات ونظم الضرائب والفوائد المالية، ليصل الى نقاط ومواضيع حساسة وخطيرة تمس جوهر النظام السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي في منظومة المجتمعات الغربية، لتكشف عن كم هائل من الاخطاء والسلبيات ـ وربما الكوارث ـ المقصودة او غير المقصودة.
ولعل الواقع الذي تعيشه اوروبا في هذه المرحلة يختلف تماماً عن واقع الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، او في نطاق زمني اوسع منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وقد لا نبالغ اذا قلنا ان في ذلك الواقع أوجه شبه غير قليلة مع ما كانت تعيشه دول المنظومة الاشتراكية آواخر عقد الثمانينات ومطلع عقد التسعينات.
كانت خطوات مهمة وذات مغزى مثل معاهدة ماستريخت عام 1992 وبعدها إتفاقية لشبونة، وانشاء البنك المركزي الأوروبي، واقرار عملة موحدة (اليورو) وقبلها وبعدها خطوات مشابهة، بمثابة اسس ومرتكزات لبناء اوروبا قوية وموحدة يمكنها ان تنافس الولايات المتحدة الاميركية واليابان، بل وحتى تتفوق عليهما، ولكن كما يقولون، سارت الرياح بما لا تشتهي السفن.
واصبحت قرارات الامس قيوداً تكبل الدول والحكومات وتحد من قدرتها على التحرك والمناورة للتخلص من الأزمات التي تواجهها. فمعاهدة ماستريخت تمنع البنك المركزي الاوروبي من تمويل عجز الحكومات الأعضاء، وتسمح بدلاً من ذلك للبنوك التجارية الخاصة بهذا بحجة منع التضخم، وتفرض على الحكومات ألا يزيد عجز الموازنة العامة فيها عن 3% من إجمالي الناتج القومي، وهذا ما تسبب في تعطل مشاريع التنمية واستشراء البطالة وغيرها من الظواهر الاقتصادية والحياتية المقلقة.
ويقول خبراء متخصصون في المال والاقتصاد ان الدول التي انضمت الى منطقة اليورو، تنازلت بملء ارادتها عن أهم ثلاث وسائل تمكنها من مواجهة الكساد، وهي القدرة على خفض قيمة عملتها لتنشيط عمليات التصدير، والقدرة على انتهاج سياسات توسعية لزيادة التسهيلات النقدية، وامتلاك سياسات نقدية مستقلة، لا سيما بالنسبة للدول الهامشية التي لا تستطيع التأثير على السياسات النقدية للبنك المركزي الأوروبي.
وبما ان الاقتصاد يمثل عصب الحياة في المجتمعات الغنية والفقيرة على حد سواء، فإن اي اختلال في مقوماته وعناصره يعني البحث والتفتيش عن خيارات أخرى بديلة، كما حصل مع المنظومة الاشتراكية قبل اكثر من عقدين من الزمن، وكما يحصل الآن في المنظومة الرأسمالية.
لم يعد الامر خافياً على الكثيرين في ان اوروبا راحت تتجه الى اليسار، وان بمستويات ودرجات متفاوتة، ومثل ذلك التحول يعكس قدراً كبيراً من الأخطاء في المناهج والنظريات والتطبيقات، التي افرزت ظواهر متعددة مثل البطالة والتضخم وانهيار الاسواق، وافلاس المصارف والشركات والمؤسسات المالية الكبرى في دول عديدة من بينها الولايات المتحدة الاميركية، وأكثر من ذلك وأخطر منه اتساع موجات ملايين البشر المطالبين بالاصلاح والتغيير الجذري، وتشكل حركات منظمة لتوجيه وتحشيد تلك الملايين مثل (احتلوا وول ستريت) وغيرها، وهذه الأخيرة باتت تتحرك وتنشط في ميادين ومواقع مختلفة، وتفرض الأمر الواقع على مراكز المال والسلطة والقرار، اي بعبارة اخرى راحت ترسم وتصوغ حقائق جديدة للواقع.
حينما تتجه اوروبا الى اليسار وسط هزات عنيفة وصدمات قوية، وحينما تنطلق موجات الرفض المليونية للرأسمالية من الولايات المتحدة الاميركية، وحينما تتطور مظاهر وظواهر الرفض من الاقوال الى الافعال، فهذا كله ـ وربما غيره ـ يعني ان العالم الغربي مقبل على تحولات كبيرة وخطيرة، تحتم على أرباب الفكر الغربي مثل صموئيل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما وهنري كيسنجر وألفين توفلر مراجعة ما كتبوه وقالوه ونظروا له كثيراً.
عادل الجبوري
ما حصل في فرنسا واليونان قبل بضعة أيام لم يكن الاول من نوعه في أوروبا، وأغلب الظن أنه لن يكون الأخير، فهناك أنظمة وحكومات أخذت تترنح وأخرى دبّ القلق والخوف في نفوسها، وراحت تبحث عن موانع وحواجز حتى لا يجتاج الزلزال حدودها ويحطم ابوابها ويقوض البناء برمته على رؤوسها.
عهد الرئيس نيكولاي ساركوزي انتهى بطريقة بدت مذلة ومهينة الى حد كبير، لا سيما وأن من انتصر عليه ـ وهو فرانسو هولاند ـ لم يكن رجل دولة من الطراز الاول، ولا زعيماً حزبياً يمتلك من الكاريزما الشيء الكثير، وما ساعده على الانتصار هو ساركوزي نفسه!
والحال في اليونان ربما ـ بل بالتأكيد ـ كان اكثر سوءاً، فالتداعي لم يتوقف عند انهيار الحكومة بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، وانما تواصل بفشل متكرر في تشكيل حكومة جديدة بسبب التباين الحاد في المواقف والاتجاهات، وغياب الرؤى والتصورات.
ولأن الدول الأوروبية المحورية - مثل المانيا وبريطانيا وفرنسا- تدرك حجم وآثار الأزمة الاقتصادية العالمية على أوروبا، وبما أن اليونان اصبحت منذ اكثر من عام بؤرة الأزمة الاقتصادية، لذا من الطبيعي جداً ان تتحرك تلك الدول بكل الاتجاهات من اجل تجنيب اثينا الانهيار والتصدع الكامل، لأن انهيارها وتصدعها يعني مقدمة لانهيار اوروبا برمتها.
ولا شك ان الهزات السياسية المتلاحقة التي أدت الى سقوط حكومات عديدة في ايطاليا وفنلندا واليونان واسبانيا والبرتغال والدانمارك وفرنسا واليونان وهولندا، اشرت الى اوضاع خطيرة للغاية لأنها كانت عبارة عن نتائج ومعطيات اولية -وليس نهائية- تدل على خطورة الاوضاع خصوصاً أن النتائج والمعطيات أولية ـ وليست نهائية ـ للازمة الاقتصادية، اي بعبارة اخرى ما نشهده حاليا هو بدايات ومقدمات، وما يظهر ويتبلور لاحقاً سيكون اشد وطأة على كامل المنظومة الرأسمالية الغربية.
ومن الخطأ اليوم النظر الى الشعارات والمطالب المطروحة من قبل جماهير واسعة في اروبا والعالم الغربي عموماً بصورة سطحية من دون التعمق في حيثياتها ودلالاتها وابعادها، فالوقوف بوجه سياسات التقشف يتجاوز كثيراً سقوف الرواتب ومستوى الخدمات ونظم الضرائب والفوائد المالية، ليصل الى نقاط ومواضيع حساسة وخطيرة تمس جوهر النظام السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي في منظومة المجتمعات الغربية، لتكشف عن كم هائل من الاخطاء والسلبيات ـ وربما الكوارث ـ المقصودة او غير المقصودة.
ولعل الواقع الذي تعيشه اوروبا في هذه المرحلة يختلف تماماً عن واقع الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، او في نطاق زمني اوسع منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وقد لا نبالغ اذا قلنا ان في ذلك الواقع أوجه شبه غير قليلة مع ما كانت تعيشه دول المنظومة الاشتراكية آواخر عقد الثمانينات ومطلع عقد التسعينات.
كانت خطوات مهمة وذات مغزى مثل معاهدة ماستريخت عام 1992 وبعدها إتفاقية لشبونة، وانشاء البنك المركزي الأوروبي، واقرار عملة موحدة (اليورو) وقبلها وبعدها خطوات مشابهة، بمثابة اسس ومرتكزات لبناء اوروبا قوية وموحدة يمكنها ان تنافس الولايات المتحدة الاميركية واليابان، بل وحتى تتفوق عليهما، ولكن كما يقولون، سارت الرياح بما لا تشتهي السفن.
واصبحت قرارات الامس قيوداً تكبل الدول والحكومات وتحد من قدرتها على التحرك والمناورة للتخلص من الأزمات التي تواجهها. فمعاهدة ماستريخت تمنع البنك المركزي الاوروبي من تمويل عجز الحكومات الأعضاء، وتسمح بدلاً من ذلك للبنوك التجارية الخاصة بهذا بحجة منع التضخم، وتفرض على الحكومات ألا يزيد عجز الموازنة العامة فيها عن 3% من إجمالي الناتج القومي، وهذا ما تسبب في تعطل مشاريع التنمية واستشراء البطالة وغيرها من الظواهر الاقتصادية والحياتية المقلقة.
ويقول خبراء متخصصون في المال والاقتصاد ان الدول التي انضمت الى منطقة اليورو، تنازلت بملء ارادتها عن أهم ثلاث وسائل تمكنها من مواجهة الكساد، وهي القدرة على خفض قيمة عملتها لتنشيط عمليات التصدير، والقدرة على انتهاج سياسات توسعية لزيادة التسهيلات النقدية، وامتلاك سياسات نقدية مستقلة، لا سيما بالنسبة للدول الهامشية التي لا تستطيع التأثير على السياسات النقدية للبنك المركزي الأوروبي.
وبما ان الاقتصاد يمثل عصب الحياة في المجتمعات الغنية والفقيرة على حد سواء، فإن اي اختلال في مقوماته وعناصره يعني البحث والتفتيش عن خيارات أخرى بديلة، كما حصل مع المنظومة الاشتراكية قبل اكثر من عقدين من الزمن، وكما يحصل الآن في المنظومة الرأسمالية.
لم يعد الامر خافياً على الكثيرين في ان اوروبا راحت تتجه الى اليسار، وان بمستويات ودرجات متفاوتة، ومثل ذلك التحول يعكس قدراً كبيراً من الأخطاء في المناهج والنظريات والتطبيقات، التي افرزت ظواهر متعددة مثل البطالة والتضخم وانهيار الاسواق، وافلاس المصارف والشركات والمؤسسات المالية الكبرى في دول عديدة من بينها الولايات المتحدة الاميركية، وأكثر من ذلك وأخطر منه اتساع موجات ملايين البشر المطالبين بالاصلاح والتغيير الجذري، وتشكل حركات منظمة لتوجيه وتحشيد تلك الملايين مثل (احتلوا وول ستريت) وغيرها، وهذه الأخيرة باتت تتحرك وتنشط في ميادين ومواقع مختلفة، وتفرض الأمر الواقع على مراكز المال والسلطة والقرار، اي بعبارة اخرى راحت ترسم وتصوغ حقائق جديدة للواقع.
حينما تتجه اوروبا الى اليسار وسط هزات عنيفة وصدمات قوية، وحينما تنطلق موجات الرفض المليونية للرأسمالية من الولايات المتحدة الاميركية، وحينما تتطور مظاهر وظواهر الرفض من الاقوال الى الافعال، فهذا كله ـ وربما غيره ـ يعني ان العالم الغربي مقبل على تحولات كبيرة وخطيرة، تحتم على أرباب الفكر الغربي مثل صموئيل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما وهنري كيسنجر وألفين توفلر مراجعة ما كتبوه وقالوه ونظروا له كثيراً.
عادل الجبوري