ارشيف من :آراء وتحليلات
25 ايار: بداية حرب التحرير الشعبية
سركيس ابوزيد
في 25 ايار2000، أُخرجت "إسرائيل" من معظم اراضي الجنوب. وهي للمرة الأولى تنسحب من أرض عربية احتلتها، من دون أن تملي قيداً أو شرطاً.
لقد قسمت تلك الحرب تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي إلى ما قبل ايار 2000 وما بعده ، خاصة بعد ان قدمت المقاومة نموذجا لحرب التحرير الشعبية الطويلة الامد، وهي القوة الذاتية التي تهابها اسرائيل.
التاريخ لا يعيد نفسه، لكن أحداثه تتشابه، فالحروب التقليدية التي خاضتها قوى عربية نظامية ضد "إسرائيل"، اختتمتها حرب تشرين 1973 بحالة من اللاحرب واللاسلم مع دول الطوق، سرعان ما أعقبها انقسام عربي أدى إلى معاهدات "سلام" منفردة مع مصر ثم الأردن، وجبهة حذرة وممانعة في الجولان. هذه الوضعية تشبه من حيث المضمون الحالة التي وصلت إليها المقاومة في لبنان. فإذا كان انتصار تشرين قد أسفر عن جبهات صامتة، "سلماً" أو ممانعة؛ فهل أدت حرب تحرير الجنوب في أيار 2000، وحرب صمود تموز 2006 إلى امر واقع مشابه بسبب توازن الرعب والخوف من التدمير المتبادل؟ فهل حرب أيار وأختها حرب تموز قد أغلقتا باب الحروب العربية الإسرائيلية؟ هل فقدت المقاومة زمام المبادرة في استكمال تحرير الجنوب لأن احتواء أي عمل عسكري لم يعد ممكناً وبات حصره مستحيلا في جبهة واحدة؟
حرب تشرين هي آخر حرب كلاسيكية عربية يمكن أن تحصل بين جيوش نظامية وذلك بسبب غياب التوازنات الاستراتيجية ونظراً للتفوق الجوي الإسرائيلي. والوضع الذي أعقب حربي أيار وتموز شبيه بحالة الجمود التي أفرزتها حرب تشرين، لذلك فالحربان الأخيرتان وضعتا الصراع العربي - الإسرائيلي بين احتمالين لا ثالث لهما:
إما حرب تدمير شاملة تشنها إسرائيل على المنطقة الممتدة من غزة إلى إيران مروراً بلبنان وسوريا، مع ما يمكن توقعه من تدمير في العمق الاسرائيلي، أو حرب تحرير شعبية، تحشد لها الجيوش النظامية وحركات المقاومة وقوى التحرير كل الطاقات العسكرية والإمكانيات الشعبية في حرب طويلة الأمد ضد إسرائيل وحماتها. وظروف هذه الحرب تفرض تغييرا في البنى والذهنيات والمفاهيم والانظمة القائمة.
حين تتوحد الطاقات النظامية والشعبية وتتلاقى قوى التحرير، تتحوّل المنطقة المحيطة بـ"إسرائيل" إلى جبهة شرقية بالمعنى العسكري والشعبي، فتصبح مهيأة لخوض حرب وجود مصيرية لتحرير كامل التراب اللبناني و الفلسطيني معا. غير أن هذه الرؤية الاستراتيجية غير متوفرة في المدى المنظور بسبب الانقسامات الحادة في الشارعين: العربي عموماً واللبناني خصوصاً.
حرب التدمير دونها مخاطر. فرغم التهديدات الإسرائيلية المتلاحقة إلا أنها لا تتعدى الحرب النفسية، نظراً للدمار الذي سيلحق بإسرائيل ويهدد جبهتها الداخلية بالانهيار.
وحرب التحرير دونها عقبات مربكة وصعوبات جمّة، أما حرب المقاومة، فقد استنفدت بعد أيار وتموز معطياتها الاستراتيجية التي كانت قائمة على أساس دولة تحمي ومقاومة تقاتل، وغالبية من القوى الشعبية تحتضن. هذه الاستراتيجية وصلت إلى طريق مسدود بعد تداعيات تموز، حيث تم تقويضها من خلال تطويق المقاومة في الداخل بالخوف من الفتنة، وبعد تبني فئة واسعة من القوى السياسية والشعبية رؤى مناقضة عن المقاومة، بالإضافة لخطر الصدام بين الدولة والمقاومة، خصوصاً بعد أن انتشر الجيش اللبناني جنوب الليطاني، وارتفاع أصوات من داخل الحكومة تطالب بحقها بقراري السلم والحرب بهدف الغاء سلاح المقاومة.
تاريخيا اعتبرت الدولة اللبنانية ان قوة لبنان في ضعفه، ونأت بنفسها عن المواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان الاسرائيلي منذ نشأته، وبالتالي لم تشارك في الحروب العربية الاسرائيلية. تركت ارض الجنوب مشرّعة امام الخروقات الاسرائيلية، وصارت المنطقة "سائبة" و ساحة "فراغ قوة"، فاضحى الجنوب "خاصرة رخوة" يفتش عن قوة تملؤه فاصبح "فتح لاند". فاتخذت اسرائيل من الامر ذريعة واجتاحت الجنوب وصولاً الى بيروت في العام 1982. ونجحت مجموعات المقاومة اللبنانية لاحقاً في اخراجها من بيروت وحصر وجودها في الجنوب. وكان نشوء المقاومة الاسلامية "حزب الله" حينها ردة فعل طبيعية على الاجتياح. فالمقاومة لم تنشأ من فراغ، ولم تزاحم الدولة لحماية جنوب لبنان، بل كانت امراً واقعاً ضرورياً، ورد فعل شعبي طبيعي على العدوان الاسرائيلي، في ظل غياب الحماية لاهل الجنوب من قبل الدولة.
قامت استراتيجية المواجهة في الجنوب على ثنائية المقاومة والدولة والتساند في ما بينهما. امّنت الدولة الغطاء السياسي، وانصرفت المقاومة الى تنفيذ العمليات العسكرية ميدانياً. وبعد الانجاز الكبير للمقاومة عام 2000 بتحرير الجنوب اللبناني باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وقع زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ونشأ على اثره فريق 14 آذار الذي وضع سلاح المقاومة نصب عينيه. كما جعل من استهدافه "المهمة الاولى" بهدف الوصول الى نزعه، عن طريق العمل على إلغاء التكامل الذي ساد طوال السنين الماضية بين المقاومة والدولة، حتى في أيام الرئيس رفيق الحريري الذي التزم نهج التساند بين الدولة والمقاومة ونجح بالتعاون مع المقاومة على انتزاع اتفاق نيسان.
لذلك، يخيّر اليوم فريق من اللبنانيين المقاومة بين حلين:
الاول: التخلي عن قوتها العسكرية لمصلحة حكم - هو عمليا ضعيف وفاسد ومفكك – كما ان الواقع يؤكد ان لا فعالية للسلاح في يد جيش نظامي في ظل انعدام التكافؤ مع "اسرائيل" وغياب التوازن الاستراتيجي واستحالة الحرب الكلاسيكية.
الثاني: استدراج المقاومة الى التماهي مع الحكم وتدجين المقاومة في كنف الدولة. وتعريتها امام الضغوط الدولية من باب التهويل والاحراج. وتطويقها بالفوضى والفتن كما نشهد اليوم.
لذلك، الحل امام قوى المقاومة والتغيير هو العمل على تقديم نموذج فريد وصالح للحكم كما سبق ووعد السيد حسن نصر الله، تمهيدا لبناء دولة مدنية ديمقراطية قادرة على استكمال التحرير بالاضافة الى الردع والدفاع وقادرة ايضا على تحقيق التنمية والعدالة والمساواة وتحصين الوحدة الوطنية ووحدة المجتمع من اجل ضمان مستقبل الدولة والمقاومة في لبنان.
هذا الحل في مازق داخلي كما ان المنطقة في حالة جمود وترقب، وهي أقرب إلى حرب باردة، بانتظار تغيرات استراتيجية شاملة. الستاتيكو السائد اليوم مستمر إلى أمد مفتوح.
إن تداعيات حربي أيار وتموز دللت أن أي حرب جديدة ستكون حاسمة ونهائية لما لها من امتدادات إقليمية ودولية شاملة، لذلك تتجنبها الأطراف الفاعلة. كسرت حربا ايار وتموز الخوف العربي والعجز العربي وقدمتا نموذجاً طليعياً لحرب تحرير قومية قد تحصل في ظروف مؤاتية، وجعلتا من المقاومة قدوة لحرب صمود واستنزاف انعكست على إسرائيل خوفاً وثأراً وحسابات ربح وخسارة، ما قلل من احتمالات عدوانها.
تبقى المقاومة قوة ردع لجبروت إسرائيل وعدوانيتها، وهي قوة استقرار سلبي في المنطقة. أما كيف العمل لتتحول إلى قوة تحرير ايجابية، فهذا السؤال بحاجة إلى الكثير من التعمق قبل الإجابة عنه.
"الجبهة الشرقية» والطريق إلى تحرير الجليل
سبق وأعلن السيد حسن نصر الله صراحة ان المقاومة على استعداد لتحرير شمال أراضي فلسطين المحتلة في أي حرب مقبلة. طارحا «معادلة الجليل» رداً مباشراً على وزير الحرب الاسرائيلي ايهود باراك حين تحدث عن اجتياح لبنان مجددا. فاذا اصبح تحرير شمال فلسطين المحتلة هدفا ممكنا في أي مواجهة مقبلة، فلا بد من رسم مشهد هذه العملية، من خلال استشراف سيناريو عسكري وتصورات استراتيجية، منها، احتمال قيام "جبهة شرقية" تساعد وتضمن نجاح عملية الجليل التحريرية.
الجبهة الشرقية هي الجبهة العربية على الحدود الشرقية لإسرائيل. بعد حرب الايام الستة في حزيران 1967، برزت دعوات الى جبهة شرقية تتلخص في إنشاء وحدة عسكرية بين دول المواجهة في المشرق العربي وهي سوريا والاردن والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية.
بعد حرب تشرين عام 1973، اعادت سوريا طرح تكوين «الجبهة الشرقية» وذلك بعد مشاركة قوات عراقية وأردنية وفلسطينية في الحرب ضد اسرائيل على جبهة الجولان. لكن الجبهة الشرقية لم يكتب لها الاستمرار بعد توقيع كل من مصر والاردن على مبادرة روجرز ورفض سوريا لهذه المبادرة.
هذه الصيغة عادت إلى العلن مؤخرا. رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو طرح في اكثر من مناسبة، بأن بلاده تواجه خطر انبعاث «الجبهة الشرقية» من جديد، وأن هذا الخطر سيتفاقم خصوصاً بعد استكمال سحب القوات الأميركية من العراق.... لذلك يدعو للاحتفاظ بـ«غور الأردن» لغرض مجابهة «الجبهة الشرقية» التي تمتد من ايران الى غور الاردن كما يقول.
في ظل هذه التطورات، وفي ظل انهيار الانظمة العربية، كيف ستكون الملامح الجديدة للشرق الأوسط المقبل؟ هل ستعود الجبهة الشرقية الى الواجهة؟ حتى تدخل المنطقة في مرحلة جديدة وهي الانتقال من المقاومة الى التحرير؟
في 25 ايار أشرقت الشمس من الجنوب وبدأ تقويم جديد بتوقيع المقاومة. ويبقى المستقبل مفتوحا على كل الاحتمالات، بما فيها استكمال التحرير.