ارشيف من :آراء وتحليلات

في الذكرى التاسعة لاستشهاده: البعد الفكري في شخصية السيد محمد باقر الحكيم

في الذكرى التاسعة لاستشهاده: البعد الفكري في شخصية السيد محمد باقر الحكيم
عادل الجبوري

علق احد المهتمين بقضايا الفكر والثقافة في احدى المناسبات بعدما قرأ كتاب "نظام الحكم الاسلامي بين النظرية والتطبيق" للشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) (1939-2003)، وبعدما مر مروراً سريعاً على عدد من مؤلفاته الأخرى بالقول "لقد اصبت بالدهشة لأنني وغيري الكثيرين ممن لم يغادروا العراق، اذ كنا حينما نسمع بالسيد محمد باقر الحكيم لا يتجاوز تصورنا عنه أنه زعيم سياسي ليس له هم ولا يشغله شاغل سوى مواجهة نظام الحكم الديكتاتوري الاستبدادي في بغداد، ولم يكن يخطر في اذهاننا ان الرجل الى جانب كونه سياسياً بارزاً هو مفكر وباحث من الطراز الاول، وفقيه متعمق في العلوم الدينية منذ نعومة اظافره"..

ويبدو لي ان آخرين كثيرين ممن لم يكونوا بعيدين جداً عن السيد الشهيد لأعوام عديدة، كانوا هم ايضاً يرون فيه زعيماً سياسياً ورجلاً ثورياً ليس له أن يبتعد عن الجماهير التي كانت تشكل المحور الاساسي لمشروعه السياسي وعنصر التغيير الحقيقي.

وقد تكون طبيعة الدينامية السياسية المتحركة بوتائر متسارعة خلال مرحلة المعارضة، واستحقاقات العمل السياسي والنضالي هي التي جعلت الكثيرين لا يلتفتون ـ او يجهلون ـ البعد الفكري في شخصية الشهيد السيد محمد باقر الحكيم الذي أضفى مع الأبعاد الاجتماعية والسياسية صورة متكاملة لشخصيته، يمكن تلمس خطوطها وملامحها لمن يقرأ بدقة المسيرة الحافلة لهذا الرجل على امتداد خمسة عقود من الزمن، شهدت تحولات ومتغيرات كبرى في العراق والمنطقة والعالم، وكان من الطبيعي جداً ان تترك اثرها في اساليب ومناهج تفكيره وقناعاته وتصوراته ورؤاه المستقبلية.

ومن المفيد ـ بل من المهم جداً ـ ان نشير هنا الى ان السيد الشهيد كتب وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره قراءة نقدية ـ فكرية لمفهوم القومية العربية. ولعل الذي يطالع هذه القراءه النقدية يشعر أنه امام مفكر مطلع ومتعمق وصاحب رؤية ثاقبة. والملفت ان السيد الشهيد الحكيم كتب بحثه هذا في وقت كانت القومية العربية تمثل الفكرة الأكثر رواجاً ومقبولية في عموم الساحة العربية، خصوصاً وأن الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر نجح الى حد كبير في تسويق ذلك المفهوم وعرضه على تيارات شعبية جماهيرية واسعة بطريقة جذابة مستفيداً من شخصيته الكاريزماتيكية، وطبيعة التوجهات الجماهيرية والنخبوية الرافضة للاستعمار والساعية للتحرر والانعتاق منه.

ربما كان ذلك البحث بمثابة الخطوة الاساسية لتشكل هيكلية البعد الفكري في شخصية السيد الشهيد، ولكن للأسف يبدو ان قليلين جداً اطلعوا عليه.
وحتى دوره في اصدار وتحرير مجلة الاضواء التي كان يشرف عليها استاذه آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس سره الشريف) وتصديه لمهمة تدريس علوم القرآن في كلية اصول الدين في الستينيات لم يسلط عليهما الضوء بما فيه الكفاية.
في الذكرى التاسعة لاستشهاده: البعد الفكري في شخصية السيد محمد باقر الحكيم

الشيء المهم والبارز، والذي حمل دلالات ومؤشرات في غاية الاهمية، هو اشادة الشهيد الصدر في مقدمة كتابه القيم "فلسفتنا" بالجهد الكبير الذي قام به السيد الحكيم في هذا المشروع واصفاً اياه بـ"العضد المفدى"، وتلك كانت شهادة تقدير عظيمة.

ولعل قرب الشهيد الحكيم من الشهيد الصدر اضافة الى قربه من والده المرجع السيد محسن الحكيم (قدس سره الشريف) ساهم الى ابعد الحدود في مرحلة لاحقة بتبلور الاتجاهات والمعالم الفكرية له، والتي اقترنت بحركة سياسية وجهادية ميدانية جعلته يتعرض للاعتقال والتعذيب الجسدي عدة مرات ويحكم عليه بالسجن المؤبد.

ولا شك ان المرحلة التي عاشها الامام الحكيم وتزعم خلالها المرجعية والحوزة العلمية، منذ منتصف الخمسينات وحتى مطلع السبعينات، وكذلك المرحلة التي عاشها الشهيد الصدر اتسمتا بتفاعلات ومتغيرات وتحولات لم تقتصر على الوضع العراقي فحسب، وانما امتدت لتشمل الساحات الاقليمية والعالمية، وواجهت الحركة الاسلامية الناهضة على وجه العموم ازاء ذلك تحديات كبرى في الصميم عبرت عن نفسها بكل وضوح من خلال عمليات التنكيل والارهاب والترويع والتصفيات التي نفذتها مختلف النظم السياسية الحاكمة في العالم الاسلامي ، وفي مقدمتها النظام الحاكم في العراق .

ومع مطلع عقد الثمانينيات تغير شكل ومضمون المواجهة بفعل عوامل وظروف ذاتية (داخلية)، وخارجية (موضوعية) لعل من ابرزها انتصار الثورة الايرانية والاطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي بزعامة الامام الخميني، وتزايد الارهاب والتنكيل والقمع من قبل نظام صدام حينذاك وبلوغه مستويات خطيرة ومقلقة.

وابرز معلم من معالم ذلك التغير في الشكل والمضمون هو اتساع حجم المعارضة السياسية لنظام صدام في الخارج فضلاً عن الداخل، وفي هذا السياق برز اسم السيد محمد باقر الحكيم، حيث لعب دوراً كبيراً وكان له حضور مؤثر في عملية بناء اطر منظمة للعمل السياسي والجهادي ضد السلطة مستفيداً من الظروف التي كانت قائمة في ذلك الوقت.

ومع ان شخصيات اخرى ساهمت في التصدي لتلك المهمة الى جانب الشهيد الحكيم ، إلا ان ما ميزه عن تلك الشخصيات هو انه الى جانب تعاطيه العمل السياسي من موقع الزعامة السياسية غير المحكومة بالأطر التقليدية عمل جاهداً على تأصيل الوعي الفكري والثقافي والديني في الاوساط العراقية تحديداً، والاوساط الاسلامية على وجه العموم من خلال رؤية مفادها ان العمل السياسي لا يمكن له ان يكتمل ويؤتي ثماره دون ان يتساوق ويتكامل مع النشاط والتحرك الاجتماعي والفكري والثقافي والديني .

والمتابع لمسيرة الشهيد الحكيم يلحظ بوضوح انه في الوقت الذي كان منهمكاً بالعمل السياسي المتواصل لم يهمل الابعاد الاخرى، وتحديداً البعد الفكري بعناوينه المتعددة، فقد ساهم مساهمات فعالة في ايجاد وتفعيل مؤسسات اسلامية ودينية مهمة مثل المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، والمجمع العالمي لاهل البيت (عليهم السلام)، واسس او اشرف على تأسيس مدارس للعلوم الدينية استوعبت اعداداً لا يستهان بها من طلبة العلوم الدينية، والقى محاضرات في علوم القرآن والبحث الخارج على طلاب الجامعات والحوزات العلمية .

والاهم من كل ذلك هو ان السيد الشهيد الحكيم الف مجموعة من الكتب القيمة ، والتي شغلت حيزاً مهماً في المكتبة الاسلامية ، مثل "الوحدة الاسلامية من منظور الثقلين" و"دور اهل البيت في بناء الجماعة الصالحة" ، و"القصص القرآني" ، و"تفسيرة سورة الحمد" و"علوم القرآن"، و"نظام الحكم الاسلامي بين النظرية والتطبيق" وغيرها العشرات من الكراسات والكتيبات. وقد اضطلعت مؤسسة تراث الشهيد الحكيم بدور كبير في توثيق الارث الفكري الكبير لشهيد المحراب من خلال طباعته وتوزيعه وترويجه.

وبالنسبة لـ"نظام الحكم الاسلامي بين النظرية والتطبيق" فإنه يتميز بكونه يتضمن صياغة لنظرية سياسية في نظام الحكم انطلاقاً من رؤية دينية ـ اسلامية معاصرة. ونعتقد ان هذا الكتاب القيم يجب ان يكون ضمن المناهج الاساسية لطلبة العلوم السياسية في الجامعات العراقية الذين يدرسون بصورة مفصلة نماذج لانظمة الحكم الليبرالية والاشتراكية وغيرها .

ولا شك فإن ما كتب وما سوف يكتب مستقبلاً يستحق أكبر قدر من الاهتمام لانه يعكس المكانة الكبرى للرجل ، وأثره ودوره في ما تحقق من تحولات على قدر كبير من الاهمية في العراق، وهو يمثل من زاوية اخرى نوعاً من التكريم للشهيد الذي لم يدخر وسعاً من اجل دينه ووطنه وابناء شعبه .

2012-05-28