ارشيف من :آراء وتحليلات
مصر بين كلينتون والمجلس الأعلى!
كان الشعب يريد إسقاط النظام. لنقل أن رحيل حسني مبارك، والفضل في ذلك يعود إلى إرادة الشعب أو إلى إرادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة والمباركة الأميركية التي لا مفر منها، كان من الممكن اعتباره خطوة نحو إسقاط النظام أو، على ما تقوله العبارة الرائجة، نحو الانتقال إلى جنة الديموقراطية.
ثمانية عشر شهراَ بعد انطلاق الحدث المصري، يبدو تحقيق المهمة أكثر صعوبة مما كان متوقعاً. فالمجلس مصمم على الإمساك بكامل السلطة. قد لا يكون ذلك مشكلة حقيقية بقدر ما كان يحدث للعسكريين أن يكونوا السباقين إلى بناء تاريخ الكفاح من أجل الحرية.
لكن ما يطرح مشكلة حقيقية هو احتكار السلطة في مصر من قبل "هذا" المجلس العسكري الذي لا يفعل غير إظهار العداء المكشوف والمتزايد تجاه "هذه" الثورة التي تبدو أكثر تشوشاً وعجزاً عن تلمس الطريق الصحيح نحو الانتصار. فبما هي مقتصرة على تظاهرات احتجاج، وبما هي مفتقرة إلى رؤية واضحة لطبيعة النظام الذي تنبغي إقامته، وبما أن رائدها هو مجرد الأمل بحياة أفضل، وبما هي متحركة في ظل قوى معظمها مشدوه بأفكار مبهمة عن الحرية والديموقراطية... فإن "الثورة" المصرية الناشئة تتمتع بكامل خصائص الحقل المفتوح أمام رياح مطامع كل أنواع الطامعين.
ضعف استعدادها للإمساك بأزمة الوضع، وظنها بأن الجيش يمكنه أن يقطف الثمار وأن يقدمها لها على طبق من فضة، تعانقت الثورة الناشئة مع العسكريين في "ميدان التحرير"، وهيمن على الميدان شعور جارف بالنصر في ظل الفكرة الجميلة القائلة بأن الجيش الذي طالما حمى مصر لن يقصر في حماية الثورة.
وهم بوهم. فالجيش الذي استطاع مع "الضباط الأحرار" إزاحة الملكية، وتمكن مع عبد الناصر من الدفاع عن مصر في وجه العدوان الثلاثي الذي شنه الصهاينة والفرنسيون والبريطانيون على مصر عام 1956، تعرض للخيانة الكبرى من قبل قادته واذله الإسرائيليون في 5 حزيران / يونيو 1967.
والعجب أن النصر الذي أحرزه الجيش المصري في حرب العام 1973 قد تحول إلى هزيمة عندما نفذ الجيش الإسرائيلي عملية اختراق سمحت له بإحكام الخناق على القاهرة، وفتح الطريق أمام اتفاقيات كامب دافيد وسائر البلايا المصنعة في واشنطن وتل أبيب والتي ضربت مصر بدأً بجيشها.
ومن يومها، تعرض الجيش المصري في ظل السادات ومبارك لكل أنواع الإفساد، وعانى من عمليات تطهير واسعة النطاق. يكفي أن نتذكر، بين ضربات أخرى تلقاها الجيش المصري، الرحلة 990 لطائرة بوينغ 767 التابعة للخطوط الجوية المصرية، والتي وقعت ضحية عام 1999 لمؤامرة دبرها جهاز الموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. ثلاثة وثلاثون من كبار الضباط المصريين + ثلاثة علماء مصريين في المجال النووي تم قتلهم، بعد أن كانوا في "زيارة" للولايات المتحدة، في حادث تحطم تلك الطائرة بالقرب من واشنطن.
على هذا الجيش المنتهك والمجروح والذي أعيدت صياغته وعدل إعداده وتجهيزه من قبل الولايات المتحدة... على هذا الجيش الذي لا يحق له أن يتواجد ولو بشكل رمزي في سيناء... والذي قام في الثمانينات وما بعدها بعمليات قمع واسعة النطاق في المدن المصرية في ظل السادات ومبارك... اعتمدت الثورة المصرية الناشئة من أجل تحقيق أهدافها.
جيش يقوده مجلس عسكري أمسك، بالتفاهم مع الولايات المتحدة، بمقاليد الأمور في مصر منذ اللحظة التي بدا من المستحيل فيها تأخير رحيل حسني مبارك. ولم يقصر منذ تلك اللحظة في تأكيد عزمه على فرض سيادته على مصر.
ومع وعيها بنوايا المجلس العسكري، وفي ظل عدم استعدادها لاتخاذ مواقف واضحة بما فيه الكفاية -إذا لم نقل جذرية بما فيه الكفاية- دفعت بعض مكونات الثورة وفي مقدمتها حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لحركة الإخوان المسلمين، دفعت إلى المدى الأقصى مواقفها التصالحية تجاه المجلس العسكري. ووصلت أحياناً إلى حد إحباط جماهير قواعدها وغيرهم من المنخرطين في الثورة.
وكل هذا دون أن يظهر المجلس العسكري أية بادرة من بوادر الاعتراف بالجميل. على العكس من ذلك، نجح في تدمير جميع مكتسبات الثورة :
قرار بإلغاء قانون العزل السياسي الذي أقره البرلمان والقاضي بمنع ترشيح أحمد شفيق، آخر رؤساء الحكومات في ظل مبارك ومنافس مرشح الإخوان، محمد مرسي.
قرار بحل البرلمان المصري الذي فاز الإسلاميون بغالبية مقاعده، وهو البرلمان الذي شكل أكبر مكاسب الثورة، والذي لم يمارس مهامه إلا خلال ثلاثة أشهر، والذي تطلب مجرد انتخاب أعضائه أكثر من ثلاثة أشهر. وقرار دستوري مكمل يحرم رئيس الجمهورية من كامل صلاحياته كرئيس للجمهورية. وكل ذلك في ظل وجود عسكري مكثف في المدن المصرية وعزم واضح على قمع كل محاولة احتجاجية.
ومع الولادة العسيرة لنتائج الانتخابات الرئاسية التي أجلت أكثر من مرة، برزت هيلاري كلينتون حاملة كل الالتزام الأميركي بمثل الحرية والديموقراطية والحقوق، ومعربة عن كل الحب الذي تكنه الولايات المتحدة للشعوب العربية في العراق وسوريا وليبيا ومصر، وخصوصاً في فلسطين... برزت بكل النفاق وقلة الحياء لتلقى حجراً إضافياً وكبيراً في المياه المصرية الكدرة أصلاً : تكلمت باسم الثورة المصرية وطلبت من المجلس العسكري أن يحترم عملية الانتقال إلى الديموقراطية.
بكل مكوناتها بمن فيهم الإخوان المسلمون، لم ترد الثورة المصرية على مدام كلينتون بغير الصمت، مانحة بذلك المجلس العسكري فرصة أن يكون الصوت المصري الوحيد الذي طلب من هيلاري أن تلزم حدودها !وأن تحترم سيادة مصر!
عقيل الشيخ حسين
ثمانية عشر شهراَ بعد انطلاق الحدث المصري، يبدو تحقيق المهمة أكثر صعوبة مما كان متوقعاً. فالمجلس مصمم على الإمساك بكامل السلطة. قد لا يكون ذلك مشكلة حقيقية بقدر ما كان يحدث للعسكريين أن يكونوا السباقين إلى بناء تاريخ الكفاح من أجل الحرية.
لكن ما يطرح مشكلة حقيقية هو احتكار السلطة في مصر من قبل "هذا" المجلس العسكري الذي لا يفعل غير إظهار العداء المكشوف والمتزايد تجاه "هذه" الثورة التي تبدو أكثر تشوشاً وعجزاً عن تلمس الطريق الصحيح نحو الانتصار. فبما هي مقتصرة على تظاهرات احتجاج، وبما هي مفتقرة إلى رؤية واضحة لطبيعة النظام الذي تنبغي إقامته، وبما أن رائدها هو مجرد الأمل بحياة أفضل، وبما هي متحركة في ظل قوى معظمها مشدوه بأفكار مبهمة عن الحرية والديموقراطية... فإن "الثورة" المصرية الناشئة تتمتع بكامل خصائص الحقل المفتوح أمام رياح مطامع كل أنواع الطامعين.
ضعف استعدادها للإمساك بأزمة الوضع، وظنها بأن الجيش يمكنه أن يقطف الثمار وأن يقدمها لها على طبق من فضة، تعانقت الثورة الناشئة مع العسكريين في "ميدان التحرير"، وهيمن على الميدان شعور جارف بالنصر في ظل الفكرة الجميلة القائلة بأن الجيش الذي طالما حمى مصر لن يقصر في حماية الثورة.
وهم بوهم. فالجيش الذي استطاع مع "الضباط الأحرار" إزاحة الملكية، وتمكن مع عبد الناصر من الدفاع عن مصر في وجه العدوان الثلاثي الذي شنه الصهاينة والفرنسيون والبريطانيون على مصر عام 1956، تعرض للخيانة الكبرى من قبل قادته واذله الإسرائيليون في 5 حزيران / يونيو 1967.
والعجب أن النصر الذي أحرزه الجيش المصري في حرب العام 1973 قد تحول إلى هزيمة عندما نفذ الجيش الإسرائيلي عملية اختراق سمحت له بإحكام الخناق على القاهرة، وفتح الطريق أمام اتفاقيات كامب دافيد وسائر البلايا المصنعة في واشنطن وتل أبيب والتي ضربت مصر بدأً بجيشها.
ومن يومها، تعرض الجيش المصري في ظل السادات ومبارك لكل أنواع الإفساد، وعانى من عمليات تطهير واسعة النطاق. يكفي أن نتذكر، بين ضربات أخرى تلقاها الجيش المصري، الرحلة 990 لطائرة بوينغ 767 التابعة للخطوط الجوية المصرية، والتي وقعت ضحية عام 1999 لمؤامرة دبرها جهاز الموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. ثلاثة وثلاثون من كبار الضباط المصريين + ثلاثة علماء مصريين في المجال النووي تم قتلهم، بعد أن كانوا في "زيارة" للولايات المتحدة، في حادث تحطم تلك الطائرة بالقرب من واشنطن.
على هذا الجيش المنتهك والمجروح والذي أعيدت صياغته وعدل إعداده وتجهيزه من قبل الولايات المتحدة... على هذا الجيش الذي لا يحق له أن يتواجد ولو بشكل رمزي في سيناء... والذي قام في الثمانينات وما بعدها بعمليات قمع واسعة النطاق في المدن المصرية في ظل السادات ومبارك... اعتمدت الثورة المصرية الناشئة من أجل تحقيق أهدافها.
جيش يقوده مجلس عسكري أمسك، بالتفاهم مع الولايات المتحدة، بمقاليد الأمور في مصر منذ اللحظة التي بدا من المستحيل فيها تأخير رحيل حسني مبارك. ولم يقصر منذ تلك اللحظة في تأكيد عزمه على فرض سيادته على مصر.
ومع وعيها بنوايا المجلس العسكري، وفي ظل عدم استعدادها لاتخاذ مواقف واضحة بما فيه الكفاية -إذا لم نقل جذرية بما فيه الكفاية- دفعت بعض مكونات الثورة وفي مقدمتها حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لحركة الإخوان المسلمين، دفعت إلى المدى الأقصى مواقفها التصالحية تجاه المجلس العسكري. ووصلت أحياناً إلى حد إحباط جماهير قواعدها وغيرهم من المنخرطين في الثورة.
وكل هذا دون أن يظهر المجلس العسكري أية بادرة من بوادر الاعتراف بالجميل. على العكس من ذلك، نجح في تدمير جميع مكتسبات الثورة :
قرار بإلغاء قانون العزل السياسي الذي أقره البرلمان والقاضي بمنع ترشيح أحمد شفيق، آخر رؤساء الحكومات في ظل مبارك ومنافس مرشح الإخوان، محمد مرسي.
قرار بحل البرلمان المصري الذي فاز الإسلاميون بغالبية مقاعده، وهو البرلمان الذي شكل أكبر مكاسب الثورة، والذي لم يمارس مهامه إلا خلال ثلاثة أشهر، والذي تطلب مجرد انتخاب أعضائه أكثر من ثلاثة أشهر. وقرار دستوري مكمل يحرم رئيس الجمهورية من كامل صلاحياته كرئيس للجمهورية. وكل ذلك في ظل وجود عسكري مكثف في المدن المصرية وعزم واضح على قمع كل محاولة احتجاجية.
ومع الولادة العسيرة لنتائج الانتخابات الرئاسية التي أجلت أكثر من مرة، برزت هيلاري كلينتون حاملة كل الالتزام الأميركي بمثل الحرية والديموقراطية والحقوق، ومعربة عن كل الحب الذي تكنه الولايات المتحدة للشعوب العربية في العراق وسوريا وليبيا ومصر، وخصوصاً في فلسطين... برزت بكل النفاق وقلة الحياء لتلقى حجراً إضافياً وكبيراً في المياه المصرية الكدرة أصلاً : تكلمت باسم الثورة المصرية وطلبت من المجلس العسكري أن يحترم عملية الانتقال إلى الديموقراطية.
بكل مكوناتها بمن فيهم الإخوان المسلمون، لم ترد الثورة المصرية على مدام كلينتون بغير الصمت، مانحة بذلك المجلس العسكري فرصة أن يكون الصوت المصري الوحيد الذي طلب من هيلاري أن تلزم حدودها !وأن تحترم سيادة مصر!
عقيل الشيخ حسين