ارشيف من :أخبار عالمية

عرب بلا جيوش

عرب بلا جيوش
منذ فترة يتم الحديث عن المواجهة المفتوحة بين محور المقاومةـ الممانعة والمحور الاميركي الاسرائيلي الملون بجنسيات عربية وأوروبية عدة. الحديث يتسم بالعموميات في كثير من الأحيان، ويتوغل في المبادئ والخلفيات وغيرها من النقاشات السياسية، لكن قلما يتوغل في التكتيكات التي تؤدي الى نتائج استراتيجية. الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في الذكرى السنوية السادسة للانتصار الالهي الذي حققته المقاومة الاسلامية على "اسرائيل" كشف عن جانب تكتيكي ذي بعد استراتيجي يعتمده العدو في حربه المفتوحة على اعضاء محور المقاومة، سواء كانوا دولاً، أي ايران وسوريا، ام تنظيمات عسكرية كحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية. الفلسفة او النظرية العسكرية الأميركية الإسرائيلية التي تبلور هذا المفهوم التكتيكي تقوم على وجوب تفكيك الجيوش النظامية التي تشكل خطراً على "اسرائيل"، ومنع اي جيش عربي او اسلامي من الحصول على اسلحة يمكن ان تحقق نوعاً من التوازن معها.

عرب بلا جيوش

هذه النظرية ليست جديدة ومعمول بها منذ عقود، ويمكن القول ان اول محاولة تفكيك لجيش اسلامي قوي جرت في القرن الماضي بعيد سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي في ايران شتاء عام 1979. حينها اقترح ابو الحسن بني صدر، بعدما تولى رئاسة الجمهورية، حل الجيش الايراني على مجلس الدفاع الاعلى، فتصدى حينها للاقتراح حجة الاسلام والمسلمين السيد علي الخامنئي، وكان حينها ممثلاً للامام الخميني ولمجلس قيادة الثورة الاسلامية في مجلس الدفاع، وأخذ على عاتقه عملية اعادة هيكلة وتنظيم المؤسسة العسكرية، وأيضاً تنظيم العلاقة بين الجيش وقوات حرس الثورة الإسلامية التي نشأت في تلك الفترة، وباتت مؤسسة عسكرية لها حضورها وقدراتها.

كان بني صدر يرمي من اقتراحه هذا الى رمي كرة نار في وجه التيار الاسلامي، حيث ان حل الجيش الايراني بعديده الضخم آنذاك المقدر بمئات الالوف، سيضع العسكريين وعائلاتهم في مواجهة مع الاسلاميين حيث سيتم تحميلهم المسؤولية عن تشريد هؤلاء العسكريين وعائلاتهم ورميهم في المجهول. لكن الاميركيين والاسرائيليين وكان لهم حضور كبير في ايران قبيل الثورة، والذين هم من اوعزوا لبني صدر بتقديم هذا الاقتراح (بعدما بينت الوثائق المكتشفة في السفارة الاميركية انه كان عميلاً للاستخبارات الاميركية)، كانوا يرمون الى تفكيك اكبر قوة عسكرية اسلامية في منطقة الخليج. ولا احد طبعاً ينسى ان ايران الشاه كانت تسمى في ذلك الحين "شرطي الخليج" والحارس الامين للمصالح الاميركية، وكانت جميع الممالك والامارات في تلك المنطقة تقدم طقوس الطاعة والولاء للشاه، ويمكن مراجعة كتاب الصحفي المصري الكبير محمد حسنين هيكل وعنوانه "مدافع آية الله" والذي صدر مباشرة بعد انتصار الثورة للاطلاع بالتفاصيل والوثائق الاميركية عن علاقات الشاه بالاميركيين والاسرائيليين ورهانهم عليه وتزويدهم اياه بما احتاجه من اسلحة وتدريب للقيام بدور الشرطي، وايضاً الانحناءة الخليجية العربية امام "ملك الملوك".

يمكن القول ان اول محاولة تفكيك لجيش اسلامي قوي جرت في القرن الماضي بعيد سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي في ايران
بعد انتصار الثورة الاسلامية واخفاق كل المحاولات الاميركية للانقلاب عليها، وهي ايضاً موثقة في كتاب هيكل، واخفاق اقتراح بني صدر، كان لا بد من تحطيم تلك الترسانة العسكرية الضخمة، فكان ان اوعزت واشنطن لصدام حسين بشن حرب على ايران لتطويق ثورتها الاسلامية وتجريدها من قوتها العسكرية الضخمة بعدما بات القيمون عليها علماء دين وثواراً اسلاميين ينادون بزوال "اسرائيل" من الوجود، حيث ان اول ما قاموا به هو استقبال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وسلموه مقر السفارة الاسرائيلية التي اصبحت رسميا منذ ذلك العام سفارة فلسطين في طهران، ولا تزال حتى اليوم. صحيح ان حرب صدام اخفقت في القضاء على الثورة، وانه تم تشتيت القوة العسكرية الايرانية في تلك الحرب المفورضة، الا ان هذه النظرية لا تزال تعمل وبالوتيرة نفسها، وبالعنوان نفسه: فحديث الحرب الاميركية على ايران بذريعة برنامجها النووي، ليس الهدف منه سوى ضرب قدراتها العسكرية التقليدية التي بلغت حداً لم يكن ولن يكون مسموحاً لاحد بامتلاكه ما دامت واشنطن تتربع على عرش النظام العالمي، وما دامت اسرائيل في كفالتها الامنية، خصوصاً بعدما تجاوزت ايران الامام الخميني ثم ايران الامام الخامنئي ما يسميه الغرب عادة "خطوطاً حمراً" وزودت فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين طرازات من الاسلحة احدثت توازناً مهماً مكن حزب الله من الانتصار في حرب تموز 2006 بشهادة السيد نصر الله نفسه في خطابه الاخير بحديثه عن صواريخ "فجر3" و"فجر5" الايرانية الصنع وغيرها من الذخائر والتكتيكات القتالية، وايضاً مكنت المقاومة الفلسطينية من الصمود في حرب غزة اواخر العام 2008.

واذا كانت ايران في التوصيف الاسرائيلي "خطراً وجودياً" على الدولة العبرية، فان عناصر هذا الخطر تكمن في تزويدها اعداء "اسرائيل" بما يريدون من عتاد لتحقيق الانتصارات عليهم، وليس في برنامج نووي مغرق في سلميته ومدنيته كما تؤكد طهران دائماً وتنفي الحاجة الى سلاح نووي، لان ما لديها من اسلحة مكنها من تحدي الاميركيين ومن معهم ان يبادروا الى حرب لا يكفون عن التلويح بها اعلامياً لكنهم لا يجرأون على الاقتراب منها عملياً.
عرب بلا جيوش

وعليه فان هذا السلوك العدواني ضد القدرات العسكرية الايرانية الشديدة التطور والسعي الاميركي الاسرائيلي الحميم لتبديدها وضربها، هو نفسه ما يجري اليوم في سوريا، تجاه الجيش السوري، الذي يتكشف يوماً بعد آخر انخراط قيادته العليا في علاقات وثيقة مع فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين، مفاهيم وتسليحاً وتكتيكات واساليب قتال وغيرها من اشكال التعاون الذي تحدث بشكل مقتضب عنها السيد نصر الله.

والاسرائيليون يعرفون طبعاً ان الجيش السوري بعيد انجاز حزب الله عام 2000 بتحرير الجزء الاكبر من الاراضي اللبنانية وبعد تجربة حرب تموز عام 2006 استفاد كثيراً من التكتيكات القتالية واعاد هيكلة قواته ووحدات النخبة فيه عبر المزج بين اساليب قتال الجيوش النظامية واساليب قتال المجموعات غير النظامية (حزب الله)، وايضاً في طرق واساليب التمويه والانتشار وتخزين بنك الاهداف والجهوزية القتالية، وفوق كل ذلك الاستقرار على عقيدة عسكرية تضع "اسرائيل" في رأس قائمة الاعداء الذين يجب ان توجه اليهم الاسلحة المتطورة. وهذا التطوير والتحديث في الجيش السوري اقلق "اسرائيل" الى حد انها تحاشت ان تقوم بأي عمل حربي خلال حرب لبنان الثانية عام 2006 بالقرب من الحدود السورية اللبنانية لانه كانت لديها معلومات دقيقة وموثقة عن رغبة الرئيس بشار الاسد في دخول الحرب الى جانب حزب الله، لكنها الآن ترى ان الفرصة مؤاتية للانقضاض على هذا الجيش العربي الوحيد الذي يملك من المؤهلات والعتاد والحافزية ليشكل خطراً استراتيجياً ماحقاً على "اسرائيل"، خصوصاً في ظل الصلات الموجودة بينه وبين القوات الايرانية المسلحة، من جيش وحرس ثوري، وبينه وبين فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية.

 الجيش السوري هو الجيش العربي الوحيد الذي يملك من المؤهلات والعتاد والحافزية ما يشكل خطراً استراتيجياً ماحقاً على "اسرائيل"

ومن اللافت ايضاً ان ما يصيب الجيش اللبناني من عمليات استهداف مركزة في الآونة الاخيرة ربطاً بما يجري في سوريا ومحاولة تهشيمها كمؤسسة وطنية، يندرج في السياق نفسه في ظل التعبير الاميركي المستمر ـ وحكماً الاسرائيلي ـ من عقيدة الجيش القتالية ضد "اسرائيل" ومن صلاته الوثيقة بالمقاومة الاسلامية، كما ظهرت في حرب تموز وفي استحقاقات عديدة، فضلاً عن علاقته الاستراتيجية مع الجيش السوري.

وبالتالي يمكن القول ان الحملة المبرمجة التي تنال من الجيش اللبناني ودوره الاجماعي وما نتج عنها من مس بهيبة المؤسسة العسكرية وتفعيل النزعات المذهبية ضدها، واشغالها باحداث امنية متنقلة، بحيث تأتي الحملة الاخيرة مكملة لحملة الضوابط المستمرة على الجيش اللبناني والتي تمنع عليه الحصول على اسلحة دفاعية متطورة، وليس هجومية، تمكنه من القيام بواجبه في التصدي للاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على لبنان، حتى ولو كانت اسلحة مقدمة مجاناً او باسعار تشجيعية، كما حصل مع العرض الايراني بتسليح الجيش اللبناني، وايضاً الهبة الروسية السابقة بتزويده بضع مقاتلات حربية متطورة من طراز ميغ 29 تحولت لاحقاً الى مروحيات عسكرية لاسباب بات الرأي العام اللبناني يعرفها.

ويمكن القول ان محاصرة الجيش اللبناني ومنعه اميركيا من التسلح تكمل اليوم بمحاصرته بنزعات مذهبية ومناطقية لبنانية غير مسبوقة يراد لها ان توجه ضربة مؤلمة لهذه المؤسسة الوطنية بسبب عقيدتها القتالية المرتكزة على "اسرائيل" عدواً وسوريا صديقاً، ليكون الجيشان السوري واللبناني في مرمى الاستهداف باساليب متعددة تحقق الغاية نفسها، بحيث ينضم هذان الجيشان الى لائحة الجيوش العربية التي فقدت ادوارها وتخلت عن وظائفها الاستراتيجية وانصرفت الى الشأن الداخلي، تماماً كما حصل مؤخراً مع الجيش العراقي بعيد حله من قبل الاميركيين، ولاحقا الجيش الليبي الذي لا احد يعرف عنه شيئاً، فيما الجيش المصري منخرط في عملية سياسية حولته الى فريق داخلي اصبح جزءاً من الصراع على السلطة، فيما جاره الفلسطيني الاقرب في غزة يئن من وجع الاحتلال.

عبد الحسين شبيب
2012-07-25