ارشيف من :أخبار عالمية

أنقرة والاكراد .. ومخاطر حسابات اللحظة الراهنة

أنقرة والاكراد .. ومخاطر حسابات اللحظة الراهنة
بغداد ـ عادل الجبوري

اطلق بعض الساسة على التحولات والتغيرات الدراماتيكية التي طرأت خلال الشهور القلائل الماضية على العلاقات بين تركيا والاكراد العراقيين اسم ـ"شهر العسل"، بينما رأى البعض الآخر ان تلك التحولات والمتغيرات تأتي على إيقاع الأحداث والوقائع المختلفة في المنطقة، وكجزء من المواقف والتوجهات الدولية والإقليمية التي يراد من ورائها ترجيح كفة أطراف معينة على حساب اطراف أخرى.
في الواقع أن كلا الرؤيتين المطروحتين تذهبان ـ ضمناً او صراحة ـ الى أن التحولات والمتغيرات الجديدة لم تنطلق من ظروف وحسابات موضوعية بقدر ما هي ردود أفعال لأفعال ومواقف مصدرها عواصم عديدة، بغداد ودمشق والرياض وطهران والمنامة والدوحة وواشنطن ولندن وباريس وموسكو وبكين وربما غيرها، وكذلك فإن نقاط الالتقاء فيها قد تكون عابرة وخاطفة، فيما نقاط الافتراق تبقى قائمة ومهيمنة على المشهد العام ببعده الاستراتيجي، فضلاً عن ذلك فإن العامل الطائفي في إطاره العام كان حاضراً بقوة، بينما غاب العامل القومي او غيّب بمقدار معين بحكم الضرورات والضغوطات السياسية.

وتعبير "شهر العسل" في مضمونه الاجتماعي يعني الفترة الذهبية القصيرة للعلاقة بين الزوجين التي يمكن ان تتبعها فترات ومراحل من المشاكل والأزمات التي لا يمكن التنبؤ في كثير من الاحيان بمدياتها وسقوفها وبالتالي نتائجها ومعطياتها.

وطبيعي ان فترة شهر العسل التي تتبعها فترات ومراحل من المشاكل والازمات تبرز واضحة وجلية حينما تكون نقاط التوافق والتفاهم والالتقاء بين الرجل والمرأة قليلة جداً مقارنة بنقاط التقاطع والتنافر والافتراق، ويتم غض النظر عن ذلك من قبل كلا الطرفين، لا لشيء الا من اجل تحقيق رغبات عابرة وسريعة دون النظر بعيداً فيما يمكن ان يترتب على متعة شهر العسل والرغبات العابرة والسريعة من نتائج على المدى البعيد.

أنقرة والاكراد .. ومخاطر حسابات اللحظة الراهنة

ومن المعروف طيلة عقود طويلة من الزمن ـ وحتى الان ـ ان احد ثوابت السياسة التركية، وبصرف النظر عمن يمسك بزمام السلطة في انقرة هو تهميش وتغييب الاكراد والحؤول دون تحقيق اي من طموحاتهم وتطلعاتهم القومية، سواء كانوا في داخل تركيا ام خارجها، ولعل ابقاء زعيم حزب العمال الكردستاني التركي المعارض(p.k.k) عبد الله اوجلان قابعاً في السجن منذ خمسة عشر عاماً، والقصف المستمر لمواقع الحزب في شمال العراق، ومطادرة عناصره وتنظمياته في كل مكان، والدعم والاسناد المتواصل للاقليات التركمانية في العراق ودول اخرى، ليس سوى أدلة وبراهين واضحة على حقيقة التوجهات والسياسات التركية حيال الاكراد، التي لم تغير بعض مرونة حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة رجب طيب اوردغان جوهرها ومضمونها.

يخطئ من يتصور ان انقرة غيرت مواقفها وكسرت ثوابتها الاستراتيجية حيال الاكراد. لم يحصل شيء من هذا القبيل، ولكن ما حصل هو اعادة ترتيب للأولويات ارتباطاً بطبيعة الظروف والاحداث والوقائع الاقليمية، وبالمشهد السياسي العراقي، وبروز نزعات مذهبية طائفية لدى دوائر القرار السياسي التركي راحت تزاحم النزعات القومية التي بدا أنها خفت الى حد ما بانحسار تأثير وحضور القوى السياسية العلمانية ـ اليسارية واليمينية ـ التركية في صناعة القرار بعد هيمنة حزب العدالة والتنمية الاسلامي على السلطة في انقرة منذ عدة اعوام.

انقرة ومعها عواصم اقليمية ودولية عديدة، ترى ان المكون السني العراقي مهمش ومغيب ومطارد ومحاصر من قبل المكون الشيعي، وترى ان أنظمة سياسية في المنطقة ـ مثل سوريا وايران ـ يجب ان تسقط وتنهار، وترى على ضوء ذلك وجوب غياب عناوين سياسية مؤثرة وفاعلة كحزب الله وكل القوى المرتبطة بأي شكل من الاشكال بدمشق وطهران مع التوجه لتحييد او جذب واستقطاب القوى ذات الهوية السنية من خلال الدعم السياسي والمالي لها، ناهيك عن أن انقرة تسعى ومنذ عدة عقود الى دخول النادي الأوربي، ولم تثمر جهودها ومساعيها حتى الان عن أية نتائج ايجابية.

وهذه التصورات والاهداف تلتقي عندها وتعمل عليها عدة أطراف، وتعتبر تركيا واحدة منها، والتقارب الكبير اليوم بينها وبين كل من العربية السعودية وقطر والولايات المتحدة الاميركية واطراف غربية اخرى مؤشر واضح على حجم مساحات الالتقاء الواسعة. لذلك ليس من الغريب ان نجد ان ذات الاطراف التي تضغط باتجاه معين في العراق تضغط باتجاه واحد في سوريا، وباتجاه واحد في البحرين، وتعمل على تقريب قوى وشخصيات معينة من أجل ضرب وإضعاف قوى وشخصيات اخرى.

والملفت في الامر ان التشدد التركي حيال "اسرائيل" لم ينعكس سلباً على انقرة، ولم يؤثر على علاقاتها مع اطراف ترتبط بتحالفات استراتيجية مع تل ابيب وتعد اي تصادم معها بمثابة خط احمر. واذا عرفنا ان المواقف التركية حيال الاوضاع في العراق وسوريا والبحرين، التي اتخذت بعداً طائفياً ـ مذهبياً واضحاً الى ابعد الحدود قد وازنت موقفها "الثوري" ضد "اسرائيل"، سيتضح لنا اهمية تلك المواقف في تحشيد وتعبئة اكبر عدد من القوى لرسم خرائط جديدة وصياغة ترتيبات اخرى للمنطقة على اساس طائفي ـ مذهبي، والمحور الاقليمي الرئيسي لتلك الاجندة يتمثل بالرياض والدوحة وتكملهما عواصم اخرى كأنقرة والمنامة وابو ظبي وعمان، والمحور الدولي الرئيسي له واشنطن وتكمله عواصم اخرى مثل لندن وباريس اتل ابيب وربما اخرى.

أنقرة والاكراد .. ومخاطر حسابات اللحظة الراهنة

والاكراد العراقيون بحكم طموحاتهم بالاستقرار والاستقلال، وبسبب انعدام الثقة مع شركائهم الاخرين في العراق، لا سيما من يمسكون بزمام السلطة في بغداد، وبسبب طبيعة علاقاتهم الدولية والاقليمية، يجدون ان الفرصة مؤاتية لهم اليوم لتحقيق بعض المكاسب والامتيازات السياسية والاقتصادية، من خلال استغلال المواقف المتناقضة للأطراف المختلفة عراقياً واقليمياً ودولياً، وهذا امر طبيعي في عالم السياسة، بيد أن إهمال البعد الاستراتيجيي البعيد المدى في صياغة العلاقات واتخاذ المواقف أمر ينطوي على خطورة كبيرة، ولعل أكثر طرف ينبغي للأكراد التحسب كثيراً في الانفتاح عليه هو تركيا، لأن ذلك الانفتاح قد يوفر فضاءاً سياسياً اكبر لهم، وامتيازات اقتصادية هم بحاجة إليها من اجل تحقيق المزيد من الرفاهية والاستقرار للاقليم، لكنه من جانب آخر يمكن ان يوجد مساحات للتأزم والتصادم فيما بينهم كأحزاب وقوى ورموز وزعامات سياسية في داخل الاقليم، خصوصاً حينما تختل معادلات المنافع والامتيازات، وارضيات ومناخات التأزم والتصادم مهيأة بهذا المستوى او ذلك، ناهيك عن التأزم والتصادم مع قوى كردية غير عراقية كحزب العمال الكردستاني، الذي يخطئ من يتصور انه بامكان انقرة او غيرها انهاء وجوده العسكري والسياسي، وقوى كردية ايرانية معارضة تمتلك وجوداً في اقليم كردستان، في ذات الوقت فإن الساسة الاتراك الممسكين بزمام القرار لا يمكن ان يفكروا بمنح عناصر قوة حقيقية ودائمة للاكراد العراقيين، فضلاً عن انهم لا يمكن ان يفكروا باعطاء ظهرهم لبغداد على طول الخط، لا سيما وان مشاكلهم ـ وان كان فيها بعد طائفي مذهبي ـ مع الاخيرة، الا ان مظاهر الشخصنة واضحة فيها الى حد كبير، كما هو الحال في المشاكل بين بغداد وأربيل.

واذا كانت تركيا ومعها حلفاؤها الاقليميون والدوليون مستعدين لمنح امتيازات وتقديم اغراءات للاكراد لادخالهم في ترتيبات التغيير واعادة رسم الخرائط وصياغة المعادلات في المنطقة، فان النجاح في تحقيق ذلك الهدف سيعني انتفاء الحاجة لهم في وقت معين، والفشل يعني نفس الشيء او أسوأ منه.

واذا كانت تركيا، وهي قوة اقليمية كبرى تتصرف بطريقة قد تنعكس عليها سلباً في مراحل لاحقة، فكيف بالاكراد وهم يتحركون في فضاء وعلى مساحة اقليم فيدرالي ضمن دولة معينة حتى وان كانت ضعيفة ومحاصرة بالمشاكل والازمات، ومحكومون بحقائق ومعادلات وتوازنات معقدة ودقيقة وحساسة؟.

ربما تكون سياسات الامر الواقع مفيدة في بعض الاحيان، الا انها لست كذلك دوماً.
2012-07-26