ارشيف من :آراء وتحليلات
الحرب الباردة الجديدة: روسيا والصين تزحفان اقتصادياً على اوروبا
صوفيا ـ جورج حداد*
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية رفعت أميركا مظلتها فوق اوروبا، التي تحولت كلها (باستثناء أوروبا الشرقية وبعض الوسطى حينذاك) الى حوش خلفي وتابع مذعن لأميركا. وقد استخدمت اميركا لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي العالمي ثلاث روافع:
الاولى والاهم: الرافعة الاقتصادية ـ المالية. اذ خرجت اوروبا من الحرب مدمرة ومنهكة ولا تمتلك القدرات الذاتية لاعادة البناء. فاستغلت اميركا استغلالاً تاماً هذا الوضع، وطرحت ما سمّي في حينه "مشروع مارشال" للمساعدة المالية ـ الاقتصادية لاعادة تحريك عجلة الاقتصاد الاوروبي، وتم تكبيل اوروبا بما سمّي "يورو دولار" الذي لم تكن له تغطية ذهبية، و"تغطيته الذهبية" الوحيدة كانت "الثقة" بأميركا والولاء لاميركا.
والثانية اقتصادية ـ طاقوية، وهي وضع الاقتصاد الاوروبي برمته وآلة الحرب الاوروبية تحت رحمة كونسرسيوم النفط الاميركي، بعد ان ضمنت اميركا لنفسها وظيفة الوصي على توزيع النفط العالمي، بعد اجتماع روزفلت ـ عبد العزيز في البحيرات المرة في قناة السويس في شباط 1945.
والثالثة استراتيجية ـ سياسية، لحمتها وسداها امتلاك اميركا للسلاح النووي وانتشار القواعد العسكرية الاميركية في اوروبا، وتمثلت هذه الرافعة فيما يسمى "الحلف الاطلسي" (الناتو) الذي كان هدفه المعلن حماية اوروبا من الغزو السوفياتي المزعوم، وهدفه الحقيقي نزع استقلالية اوروبا ووضعها تحت الوصاية الاميركية.
الان، وبعد انهيار المعسكر السوفياتي السابق، وكل التطورات التي اعقبته، تبرز بوضوح متزايد ملامح "حرب باردة" جديدة، اشد ضراوة من الحرب الباردة السابقة، حيث لم تعد توجد "اتفاقية يالطا" لضبطها. والقوتان المحوريتان الرئيسيتان في هذه الحرب:
1ـ اميركا واذنابها (فلول الحلف الاطلسي، و"اسرائيل"، وانظمة ومشيخات النفط العربية).
2ـ روسيا وحلفاؤها (ولا سيما الصين الشعبية وايران الاسلامية).
وروسيا اليوم لا تطل بأي وجه ايديولوجي (شيوعي مزيف، او نصف حقيقي ـ نصف مزيف، كما كانت روسيا "السوفياتية"، الستالينية والنيو ـ ستالينية)، بل تطل بوجه "قومي روسي" و"مسيحي أورثوذكسي". ومن ثم فهي اكثر "استقلالية" (عن التزامات "اتفاقية يالطا" والاعتراف بإسرائيل) واكثر "واقعية" واكثر "براغماتية" واكثر "عناداً وصلابة" من روسيا الامس.
وأدوات الصراع الرئيسية الآن اثنتان:
ـ1ـ الاداة الاستراتيجية ـ السياسية الصاروخية (بمختلف مدياتها القريبة والمتوسطة والبعيدة وعابرة القارات والكونية، الحاملة لشتى انواع الرؤوس المتفجرة النووية وغير النووية). ويمكن القول ببساطة ان عصر الجيوش والاسلحة الكلاسيكية قد ولى، واننا اصبحنا نعيش في عصر الاسلحة الالكترونية ـ الصاروخية الموجهة. وقد سعت اميركا (لاجل الاحتفاظ بمركز الزعامة على اوروبا والعالم) كي تنشر في اوروبا ما سمي انظمة الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ (تحت كذبة مواجهة الخطر الايراني)، وهي انظمة مكلفة جداً وتبلغ كلفتها الوف مليارات الدولارات. فاختصرت روسيا على اميركا الطريق (ووفرت لها ملياراتها) بالتهديد بضرب الاقمار الاصطناعية التي تدير الصواريخ والشبكات الصاروخية والرادارات الارضية. ولقطع الطريق على الاتهام بالعدوانية باعت روسيا لاميركا "من البضاعة الاميركية" ذاتها، بالقول انها تتصرف بحسب مقتضيات "الامن القومي الروسي" الذي هو مفهوم استراتيجي واسع يشمل العالم بأسره كما هي الحجة الاميركية الدائمة للتدخل في شؤون جميع بلدان العالم بحجة "الامن القومي الاميركي".
وطبعا خرست اميركا ( وعليها ان تتعود كثيراً على الخرس بعد الان) ولم ترد على تصريحات وزارة الدفاع الروسية بهذا الخصوص في الشهر الماضي. ولاجل وضع حد للعنجهية والعربدة الاميركيتين تعمل روسيا حالياً بالتعاون مع حلفائها في ايران وغيرها، كي تضع نهائياً "الصبي الاميركي الازعر" (اسرائيل) تحت رحمة الصواريخ التي تتكدس بكثافة بايدي المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية وفي سوريا (على الارجح بأيدي لا الطواقم السورية فقط، بل والطواقم الايرانية والروسية ايضاً).
2ـ الاداة الاقتصادية، المالية والطاقوية. فبعد ان ايقنت اوروبا انه لا توجد قوة في الارض، لا اميركية ولا غيرها، تحميها من جحيم الاسلحة الصاروخية ـ النووية الروسية، اذا ما خطر ببال الاطلسي او الاتحاد الاوروبي ان "يلعبا بذيليهما"، تتجه روسيا الان، وبالتعاون مع حليفتها الصين، نحو تحطيم التبعية الاقتصادية الاميركية لاوروبا، وهي التبعية التي لم تجلب لاوروبا سوى الازمات الخانقة. وقد بدأ على ارض الواقع، بهدوء ولكن بثبات، الزحف الاقتصادي الروسي ـ الصيني على اوروبا.
وبالرغم من التباين الكبير في المواقف السياسية بين كل من روسيا، من جهة، ودول الاتحاد الاوروبي، من جهة ثانية، وخصوصاً فيما يتعلق بالازمة مع ايران حول انتاج الطاقة النووية، وبالازمة السورية، ـ بالرغم من ذلك فمن الملاحظ ان التقارب بين روسيا والدول الاوروبية يسير ببطء ولكن بثبات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الامور الحياتية. وفي نهاية لقاء القمة بين روسيا والاتحاد الاوروبي الذي عقد مؤخراً في بتروغراد، صرح بوتين بأن روسيا ستكون قادرة على القيام برد الفعل المطلوب في حال وقوع اي احداث مفاجئة (ويقصد على الصعيد الاقتصادي بالدرجة الاولى) في منطقة اليورو. كما عبر بوتين عن الامل في ان نظام إلغاء تأشيرات الدخول (الفيزا) بين روسيا والاتحاد الاوروبي سيبدأ تطبيقه في وقت قريب. ونقل راديو "سفوبودا" (الحرية) عن الرئيس الروسي قوله ان التخوفات من تدفق اليد العاملة والمجموعات الاجرامية من روسيا الى دول الاتحاد الاوروبي هي تخوفات مبالغ فيها.
وبحثت في اللقاء كذلك مسألة التعاون في حقل الطاقة. وفي هذا الصدد لاحظ بوتين ان بناء القسم البحري من الفرع الثاني لمشروع انبوب الغاز القاري المسمى "السيل الشمالي" هو عملياً قيد الانتهاء، وفي نهاية هذا العام من المخطط له ان يبدأ بناء خط انابيب الغاز المسمى "السيل الجنوبي".
وقد ادلى رئيس المفوضية الاوروبية جوزيه مانويل باروزو بتصريح نشرته وكالة "ريا نوفوستي" الروسية جاء فيه انه متأكد ان تبسيط نظام التأشيرات بين روسيا والاتحاد الاوروبي سيتم في اقرب وقت.
وقال الرئيس بوتين لوكالة "ريا نوفوستي" ان القسم الاقتصادي من الاتفاق الاساسي بين روسيا والاتحاد الاوروبي لا يزال يمثل حجر عثرة.
واوضح بوتين "كان من المهم البحث في مسار التحضير لعقد اتفاق اساسي بين روسيا والاتحاد الاوروبي. واعرب الطرفان عن مصلحة كل منهما في صياغة هذه الوثيقة، التي ينبغي ان تنص على الاهداف الستراتيجية للطرفين. وفي ايامنا الراهنة فإن الصعوبة الرئيسية تكمن في القسم التجاري ـ الاقتصادي من الاتفاق الاساسي".
وخلال انعقاد اجتماع القمة اعلن رئيس المفوضية الاوروبية جوزيه مانويل باروزو ان انشاء منطقة تجارة حرة تمتد من لشبونة الى فلاديفوستوك، هي من الاهداف المشتركة لروسيا والاتحاد الاوروبي.
"في السنة الماضية عبرتم عن رؤيتكم حول انشاء منطقة تجارة حرة من ليشبونة الى فلاديفوستوك. نحن نشارككم هذا الموقف"، قال باروزو موجهاً كلامه الى الرئيس بوتين خلال اللقاء.
ولاحظ رئيس المفوضية الاوروبية انه لهذه الغاية هناك خطوة ينبغي القيام بها وهي قبول انضمام روسيا الى منظمة التجارة العالمية.
وفيما يتعلق بخط انابيب الغاز قال الرئيس بوتين "في شهر كانون الاول الماضي تلقى مشروع "السيل الجنوبي" قوة دفع اضافية تمثلت في موافقة الدولة التركية على بناء الخط في منطقتها الاقتصادية، وقد حصلنا على الموافقة النهائية للحكومة التركية. ونحن نخطط لان يبدأ العمل في بناء خط الانابيب في نهاية السنة الجارية".
ويقوم مشروع "السيل الجنوبي" على مبادرة من قبل شركة "غازبروم" الروسية العملاقة، بالاضافة الى الشركة الايطالية “ENI”، والشركة الفرنسية "الكتريسيتيه دو فرانس"، والشركة الالمانية "فينتيرسهال". وسيمر خط انابيب "السيل الجنوبي" من روسيا، عبر قاع البحر الاسود الى مدينة فارنا البلغارية، ومنها عبر الاراضي البلغارية الى صربيا من جهة، والى تركيا من جهة ثانية، ومنهما الى باقي دول اوروبا الوسطى والغربية. وستبلغ تكاليف المشروع 8،6 مليارات يورو. ومن المخطط له ان يبدأ العمل في استثماره في نهاية سنة 2015.
وفيما يتعلق بمشروع خط انابيب "السيل الشمالي"، جاء في وكالة "ريا نوفوستي" ان القسم الاول منه قد انتهى وبدأ الاستثمار فيه في تشرين الثاني 2011 وهو يعمل الان بكل طاقته المقدرة بـ 27،5 مليار متر مكعب من الغاز المسيل، سنوياً. وقد اصبح الجزء البحري من القسم الثاني من المشروع جاهزاً تقريباً. وسيبدأ العمل باستثماره خلال شهر تشرين الاول القادم، حسب قول الرئيس بوتين.
وكتبت جريدة "فايننشال تايمز" ان الصين ضاعفت توظيفاتها في اوروبا ثلاث مرات في السنة الماضية. حيث بلغت قيمة التوظيفات الصينية المباشرة في القارة العجوز حوالى 10 مليارات دولار سنة 2011. وحسب دراسة اعدتها الشركة الاستشارية Rhodium Group وبنك الاستثمار الصيني CICC، فإن الشركات الصينية هي في مرحلة الاعداد لحملة واسعة النطاق لشراء الاصول الاوروبية، وهو ما يحتمل ان يصل اجماليه الى ما يتراوح بين 250 ـ 500 مليار دولار حتى سنة 2020.
وفي رأي بعض الخبراء ان ذلك يعتبر تحولاً في سياسة التوظيفات الخارجية للصين، التي كانت تتمحور حتى الان حول السوق المالية الاميركية. ويأتي هذا التحول في انسجام تام مع المخططات الروسية للتقارب الاقتصادي مع اوروبا، بهدف ستراتيجي بعيد هو إبعاد اوروبا تدريجياً عن المحور الاميركي.
وبشكل عام فإن الحجم الاجمالي للتوظيفات الصينية الخارجية لا يزال ضئيل الحجم بالقياس الى حجم الاقتصاد الصيني. وبحسب رأي الكثير من المحللين فإن بكين تتجه نحو الحصول على الكثير من المكاسب من الخارج، واوروبا في الوقت الراهن هي جذابة جداً. وتبدي الشركات الصينية على الاغلب اهتماماً كبيراً بشراء التكنولوجيا المتطورة الاوروبية، والماركات المشهورة، والانتاجات ذات المستوى الرفيع. وتقوم السلطات الصينية بتشجيع الشركات على تقوية حضورها في الخارج، من اجل ان تصبح اكثر قدرة على المزاحمة. وهذه هي طريقة من اجل تنويع الاحتياطات بالعملات الاجنبية للصين التي تبلغ 3،2 تريليون دولار، وتوظيفها في اصول اكثر عائدية.
في شركة A Capital يتوقعون ان ترتفع التوظيفات الخارجية الصينية الى 800 مليار دولار حتى سنة 2016. وحسب معطيات هذه الشركة فإن اوروبا كانت تمثل الهدف الثاني، بعد اميركا الجنوبية، للتوظيفات الصينية خلال الثلاثة الاشهر الاولى من سنة 2012.
ومن جهة ثانية تقول النشرة الالكترونية الصينية "تشاينا دايلي" ان رئيس الوزراء الصيني فون تسياباو اجتمع مؤخراً مع زعماء رومانيا، الجبل الاسود، كرواتيا، هنغاريا، سلوفاكيا، ليتوانيا، استونيا، مقدونيا، البانيا وبلغاريا في اطار اللقاء بين الصين واوروبا الوسطى والشرقية. كما قام رئيس الوزراء الصيني بزيارة لمدة يومين الى بولونيا وشارك في الندوة الاقتصادية الاقليمية، التي كانت تجري بحضور قادة حكوميين من البانيا، البوسنه والهرسك، تشيخيا، استونيا، هنغاريا، لاتفيا، ليتوانيا، مقدونيا، الجبل الاسود، رومانيا، صربيا، سلوفاكيا، سلوفينيا والمضيفين البولونيين.
وحتى سنة 2010 زادت التوظيفات الصينية في القارة الاوروبية بنسبة 53%، في حين انها زادت في دول الاتحاد الاوروبي بنسبة 94%.
* كاتب لبناني مستقل
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية رفعت أميركا مظلتها فوق اوروبا، التي تحولت كلها (باستثناء أوروبا الشرقية وبعض الوسطى حينذاك) الى حوش خلفي وتابع مذعن لأميركا. وقد استخدمت اميركا لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي العالمي ثلاث روافع:
الاولى والاهم: الرافعة الاقتصادية ـ المالية. اذ خرجت اوروبا من الحرب مدمرة ومنهكة ولا تمتلك القدرات الذاتية لاعادة البناء. فاستغلت اميركا استغلالاً تاماً هذا الوضع، وطرحت ما سمّي في حينه "مشروع مارشال" للمساعدة المالية ـ الاقتصادية لاعادة تحريك عجلة الاقتصاد الاوروبي، وتم تكبيل اوروبا بما سمّي "يورو دولار" الذي لم تكن له تغطية ذهبية، و"تغطيته الذهبية" الوحيدة كانت "الثقة" بأميركا والولاء لاميركا.
والثانية اقتصادية ـ طاقوية، وهي وضع الاقتصاد الاوروبي برمته وآلة الحرب الاوروبية تحت رحمة كونسرسيوم النفط الاميركي، بعد ان ضمنت اميركا لنفسها وظيفة الوصي على توزيع النفط العالمي، بعد اجتماع روزفلت ـ عبد العزيز في البحيرات المرة في قناة السويس في شباط 1945.
والثالثة استراتيجية ـ سياسية، لحمتها وسداها امتلاك اميركا للسلاح النووي وانتشار القواعد العسكرية الاميركية في اوروبا، وتمثلت هذه الرافعة فيما يسمى "الحلف الاطلسي" (الناتو) الذي كان هدفه المعلن حماية اوروبا من الغزو السوفياتي المزعوم، وهدفه الحقيقي نزع استقلالية اوروبا ووضعها تحت الوصاية الاميركية.
الان، وبعد انهيار المعسكر السوفياتي السابق، وكل التطورات التي اعقبته، تبرز بوضوح متزايد ملامح "حرب باردة" جديدة، اشد ضراوة من الحرب الباردة السابقة، حيث لم تعد توجد "اتفاقية يالطا" لضبطها. والقوتان المحوريتان الرئيسيتان في هذه الحرب:
1ـ اميركا واذنابها (فلول الحلف الاطلسي، و"اسرائيل"، وانظمة ومشيخات النفط العربية).
2ـ روسيا وحلفاؤها (ولا سيما الصين الشعبية وايران الاسلامية).
وروسيا اليوم لا تطل بأي وجه ايديولوجي (شيوعي مزيف، او نصف حقيقي ـ نصف مزيف، كما كانت روسيا "السوفياتية"، الستالينية والنيو ـ ستالينية)، بل تطل بوجه "قومي روسي" و"مسيحي أورثوذكسي". ومن ثم فهي اكثر "استقلالية" (عن التزامات "اتفاقية يالطا" والاعتراف بإسرائيل) واكثر "واقعية" واكثر "براغماتية" واكثر "عناداً وصلابة" من روسيا الامس.
وأدوات الصراع الرئيسية الآن اثنتان:
ـ1ـ الاداة الاستراتيجية ـ السياسية الصاروخية (بمختلف مدياتها القريبة والمتوسطة والبعيدة وعابرة القارات والكونية، الحاملة لشتى انواع الرؤوس المتفجرة النووية وغير النووية). ويمكن القول ببساطة ان عصر الجيوش والاسلحة الكلاسيكية قد ولى، واننا اصبحنا نعيش في عصر الاسلحة الالكترونية ـ الصاروخية الموجهة. وقد سعت اميركا (لاجل الاحتفاظ بمركز الزعامة على اوروبا والعالم) كي تنشر في اوروبا ما سمي انظمة الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ (تحت كذبة مواجهة الخطر الايراني)، وهي انظمة مكلفة جداً وتبلغ كلفتها الوف مليارات الدولارات. فاختصرت روسيا على اميركا الطريق (ووفرت لها ملياراتها) بالتهديد بضرب الاقمار الاصطناعية التي تدير الصواريخ والشبكات الصاروخية والرادارات الارضية. ولقطع الطريق على الاتهام بالعدوانية باعت روسيا لاميركا "من البضاعة الاميركية" ذاتها، بالقول انها تتصرف بحسب مقتضيات "الامن القومي الروسي" الذي هو مفهوم استراتيجي واسع يشمل العالم بأسره كما هي الحجة الاميركية الدائمة للتدخل في شؤون جميع بلدان العالم بحجة "الامن القومي الاميركي".
وطبعا خرست اميركا ( وعليها ان تتعود كثيراً على الخرس بعد الان) ولم ترد على تصريحات وزارة الدفاع الروسية بهذا الخصوص في الشهر الماضي. ولاجل وضع حد للعنجهية والعربدة الاميركيتين تعمل روسيا حالياً بالتعاون مع حلفائها في ايران وغيرها، كي تضع نهائياً "الصبي الاميركي الازعر" (اسرائيل) تحت رحمة الصواريخ التي تتكدس بكثافة بايدي المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية وفي سوريا (على الارجح بأيدي لا الطواقم السورية فقط، بل والطواقم الايرانية والروسية ايضاً).
2ـ الاداة الاقتصادية، المالية والطاقوية. فبعد ان ايقنت اوروبا انه لا توجد قوة في الارض، لا اميركية ولا غيرها، تحميها من جحيم الاسلحة الصاروخية ـ النووية الروسية، اذا ما خطر ببال الاطلسي او الاتحاد الاوروبي ان "يلعبا بذيليهما"، تتجه روسيا الان، وبالتعاون مع حليفتها الصين، نحو تحطيم التبعية الاقتصادية الاميركية لاوروبا، وهي التبعية التي لم تجلب لاوروبا سوى الازمات الخانقة. وقد بدأ على ارض الواقع، بهدوء ولكن بثبات، الزحف الاقتصادي الروسي ـ الصيني على اوروبا.
وبالرغم من التباين الكبير في المواقف السياسية بين كل من روسيا، من جهة، ودول الاتحاد الاوروبي، من جهة ثانية، وخصوصاً فيما يتعلق بالازمة مع ايران حول انتاج الطاقة النووية، وبالازمة السورية، ـ بالرغم من ذلك فمن الملاحظ ان التقارب بين روسيا والدول الاوروبية يسير ببطء ولكن بثبات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الامور الحياتية. وفي نهاية لقاء القمة بين روسيا والاتحاد الاوروبي الذي عقد مؤخراً في بتروغراد، صرح بوتين بأن روسيا ستكون قادرة على القيام برد الفعل المطلوب في حال وقوع اي احداث مفاجئة (ويقصد على الصعيد الاقتصادي بالدرجة الاولى) في منطقة اليورو. كما عبر بوتين عن الامل في ان نظام إلغاء تأشيرات الدخول (الفيزا) بين روسيا والاتحاد الاوروبي سيبدأ تطبيقه في وقت قريب. ونقل راديو "سفوبودا" (الحرية) عن الرئيس الروسي قوله ان التخوفات من تدفق اليد العاملة والمجموعات الاجرامية من روسيا الى دول الاتحاد الاوروبي هي تخوفات مبالغ فيها.
وبحثت في اللقاء كذلك مسألة التعاون في حقل الطاقة. وفي هذا الصدد لاحظ بوتين ان بناء القسم البحري من الفرع الثاني لمشروع انبوب الغاز القاري المسمى "السيل الشمالي" هو عملياً قيد الانتهاء، وفي نهاية هذا العام من المخطط له ان يبدأ بناء خط انابيب الغاز المسمى "السيل الجنوبي".
وقد ادلى رئيس المفوضية الاوروبية جوزيه مانويل باروزو بتصريح نشرته وكالة "ريا نوفوستي" الروسية جاء فيه انه متأكد ان تبسيط نظام التأشيرات بين روسيا والاتحاد الاوروبي سيتم في اقرب وقت.
وقال الرئيس بوتين لوكالة "ريا نوفوستي" ان القسم الاقتصادي من الاتفاق الاساسي بين روسيا والاتحاد الاوروبي لا يزال يمثل حجر عثرة.
واوضح بوتين "كان من المهم البحث في مسار التحضير لعقد اتفاق اساسي بين روسيا والاتحاد الاوروبي. واعرب الطرفان عن مصلحة كل منهما في صياغة هذه الوثيقة، التي ينبغي ان تنص على الاهداف الستراتيجية للطرفين. وفي ايامنا الراهنة فإن الصعوبة الرئيسية تكمن في القسم التجاري ـ الاقتصادي من الاتفاق الاساسي".
وخلال انعقاد اجتماع القمة اعلن رئيس المفوضية الاوروبية جوزيه مانويل باروزو ان انشاء منطقة تجارة حرة تمتد من لشبونة الى فلاديفوستوك، هي من الاهداف المشتركة لروسيا والاتحاد الاوروبي.
"في السنة الماضية عبرتم عن رؤيتكم حول انشاء منطقة تجارة حرة من ليشبونة الى فلاديفوستوك. نحن نشارككم هذا الموقف"، قال باروزو موجهاً كلامه الى الرئيس بوتين خلال اللقاء.
ولاحظ رئيس المفوضية الاوروبية انه لهذه الغاية هناك خطوة ينبغي القيام بها وهي قبول انضمام روسيا الى منظمة التجارة العالمية.
وفيما يتعلق بخط انابيب الغاز قال الرئيس بوتين "في شهر كانون الاول الماضي تلقى مشروع "السيل الجنوبي" قوة دفع اضافية تمثلت في موافقة الدولة التركية على بناء الخط في منطقتها الاقتصادية، وقد حصلنا على الموافقة النهائية للحكومة التركية. ونحن نخطط لان يبدأ العمل في بناء خط الانابيب في نهاية السنة الجارية".
ويقوم مشروع "السيل الجنوبي" على مبادرة من قبل شركة "غازبروم" الروسية العملاقة، بالاضافة الى الشركة الايطالية “ENI”، والشركة الفرنسية "الكتريسيتيه دو فرانس"، والشركة الالمانية "فينتيرسهال". وسيمر خط انابيب "السيل الجنوبي" من روسيا، عبر قاع البحر الاسود الى مدينة فارنا البلغارية، ومنها عبر الاراضي البلغارية الى صربيا من جهة، والى تركيا من جهة ثانية، ومنهما الى باقي دول اوروبا الوسطى والغربية. وستبلغ تكاليف المشروع 8،6 مليارات يورو. ومن المخطط له ان يبدأ العمل في استثماره في نهاية سنة 2015.
وفيما يتعلق بمشروع خط انابيب "السيل الشمالي"، جاء في وكالة "ريا نوفوستي" ان القسم الاول منه قد انتهى وبدأ الاستثمار فيه في تشرين الثاني 2011 وهو يعمل الان بكل طاقته المقدرة بـ 27،5 مليار متر مكعب من الغاز المسيل، سنوياً. وقد اصبح الجزء البحري من القسم الثاني من المشروع جاهزاً تقريباً. وسيبدأ العمل باستثماره خلال شهر تشرين الاول القادم، حسب قول الرئيس بوتين.
وكتبت جريدة "فايننشال تايمز" ان الصين ضاعفت توظيفاتها في اوروبا ثلاث مرات في السنة الماضية. حيث بلغت قيمة التوظيفات الصينية المباشرة في القارة العجوز حوالى 10 مليارات دولار سنة 2011. وحسب دراسة اعدتها الشركة الاستشارية Rhodium Group وبنك الاستثمار الصيني CICC، فإن الشركات الصينية هي في مرحلة الاعداد لحملة واسعة النطاق لشراء الاصول الاوروبية، وهو ما يحتمل ان يصل اجماليه الى ما يتراوح بين 250 ـ 500 مليار دولار حتى سنة 2020.
وفي رأي بعض الخبراء ان ذلك يعتبر تحولاً في سياسة التوظيفات الخارجية للصين، التي كانت تتمحور حتى الان حول السوق المالية الاميركية. ويأتي هذا التحول في انسجام تام مع المخططات الروسية للتقارب الاقتصادي مع اوروبا، بهدف ستراتيجي بعيد هو إبعاد اوروبا تدريجياً عن المحور الاميركي.
وبشكل عام فإن الحجم الاجمالي للتوظيفات الصينية الخارجية لا يزال ضئيل الحجم بالقياس الى حجم الاقتصاد الصيني. وبحسب رأي الكثير من المحللين فإن بكين تتجه نحو الحصول على الكثير من المكاسب من الخارج، واوروبا في الوقت الراهن هي جذابة جداً. وتبدي الشركات الصينية على الاغلب اهتماماً كبيراً بشراء التكنولوجيا المتطورة الاوروبية، والماركات المشهورة، والانتاجات ذات المستوى الرفيع. وتقوم السلطات الصينية بتشجيع الشركات على تقوية حضورها في الخارج، من اجل ان تصبح اكثر قدرة على المزاحمة. وهذه هي طريقة من اجل تنويع الاحتياطات بالعملات الاجنبية للصين التي تبلغ 3،2 تريليون دولار، وتوظيفها في اصول اكثر عائدية.
في شركة A Capital يتوقعون ان ترتفع التوظيفات الخارجية الصينية الى 800 مليار دولار حتى سنة 2016. وحسب معطيات هذه الشركة فإن اوروبا كانت تمثل الهدف الثاني، بعد اميركا الجنوبية، للتوظيفات الصينية خلال الثلاثة الاشهر الاولى من سنة 2012.
ومن جهة ثانية تقول النشرة الالكترونية الصينية "تشاينا دايلي" ان رئيس الوزراء الصيني فون تسياباو اجتمع مؤخراً مع زعماء رومانيا، الجبل الاسود، كرواتيا، هنغاريا، سلوفاكيا، ليتوانيا، استونيا، مقدونيا، البانيا وبلغاريا في اطار اللقاء بين الصين واوروبا الوسطى والشرقية. كما قام رئيس الوزراء الصيني بزيارة لمدة يومين الى بولونيا وشارك في الندوة الاقتصادية الاقليمية، التي كانت تجري بحضور قادة حكوميين من البانيا، البوسنه والهرسك، تشيخيا، استونيا، هنغاريا، لاتفيا، ليتوانيا، مقدونيا، الجبل الاسود، رومانيا، صربيا، سلوفاكيا، سلوفينيا والمضيفين البولونيين.
وحتى سنة 2010 زادت التوظيفات الصينية في القارة الاوروبية بنسبة 53%، في حين انها زادت في دول الاتحاد الاوروبي بنسبة 94%.
* كاتب لبناني مستقل