ارشيف من :أخبار عالمية
مصر بين ثـورتيها...
كارل بوبر ـ فيلسوف فرنسي
إنها الذكرى الستون لثورة يوليو/ تموز. ثورةٌ صنعت تاريخا جديدا لمصر وللمنطقة. عادةً كل حدث مصري مميز يصبح تأثيره في محيطه كسقوط صخرة في بركة ماء تنشر موجات (تسونامي) إلى القريب والبعيد أحياناً. وربما إدراكاً منه لهذه الحقيقة قال سيلفيو برلسكوني كلمته الشهيرة تعليقاً على أحداث ثورة يناير العام الماضي: "لا جديد في مصر فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة"!!. وكنا نحسبها كذلك! غير أن تفاؤلنا بات معلقاً الآن! عندما أخذت هذه الثورة مسارات متعرجة تستنفد كثيرا من طاقتها؛ وقد تستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تأخذ مساراً مستقراً يُمَكِّنها من الإثمار. كل هذا جاء بسب غياب قيادة جامعة لهذه "الكتلة التاريخية" التي صنعت ثورة العام الماضي (2011 ) خلافا بالتمام لما حدث في عام 1952 حيث لم تكن"الكتلة التاريخية" بعد قد تبلورت عندما أقدم عبد الناصر ورفاقه على ثورتهم. غير أن القيادة المتبصرة لهذه الثورة كانت قد حددت أهدافها بدقة، والطريق إليها. قيادة تعرف كيف تقود، وإلى أين.. لذك وجدناها تبدأ أولى خطواتها النوعية بعد أسابيع قليلة من استيلائها على السلطة ـ إلغاء الملكية، ثم (الإصلاح الزراعي) ـ ناقلةً بهذا حركتها العسكرية من مستوى الإنقلابات إلى مصاف الثورات. وهذا يؤكد فيما يؤكد، ومرة على مرة أن شرط القيادة شرط لازم لنجاح أي تغيير نوعي أو فعلٍ ثوري.
انتقلت ثورة يوليو/ تموز بعد أن حسمت مسألة السلطة بتغيير عميق في بنية المجتمع المصري. وفي هذا السبيل ارست البنية التحتية الضرورية له والتي تتمثل بشكل أساس في تطوير المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية، إلى جانب قاعدة صناعية متقدمة قياساً بدول العالم الثالث. ونعتقد أنه لو قُـيّض لهذا المسار الإستمرارية، لكانت مصر الآن على مستوى من التطور لا يقل عن حال الهند، والبرازيل. استطراداً ومن باب التذكرة فإن النهضة الصناعية التي بدأت بمصر عبد الناصر ترافقت مع نظير لها في هند نهرو؛ بل كان هناك مشاريع مشتركة بين البلدين، نذكر منها صناعة الطائرات الحربية، أبرزها المقاتلة"حلوان 300" والتي كانت مميزاتها متطورة جداً في مقايس زمانها. وهذه توقفت مصر عن إنتاجها بعد نكسة 67 فيما تابعت الهند مسيرتها. يذكرنا ما سبق بتجربة التحديث المماثلة التي أطلقها محمد علي باشا في القرن 19 وانتهت بهزيمته بعد أن تكالبت عليه دول العام القوي آنذاك! وللمفارقة فإن النهضة المصرية هذه ترافقت هي الأخرى مع نهضة أخرى في اليابان هذه المرة تولاها أمبراطورها "الميجي".
غير أن ثورة 52 لم تستطع استكمال مهمتها التاريخية حتى النهاية التي أرادها عبد الناصر؛ فجيل الثورة الذي عاش في كنفها، لم يكن بعد قد صلب عوده. عندما أُسقِطت الثورة بيد أحد (أهلها!) من رعيل الصف الأول، فيما الرعيل الثاني الذي كان عبد الناصر معولاً عليه واضعا بأيدي رجالاته مفاصل الدولة، والسلطة؛ وذلك في إعدادٍ منه للإرتقاء من الشخص إلى المؤسـسة؛ كان رجالاته أولئك للأسف بيروقراطيي الافق، مترددين بحيث لما تيقنوا من نوايا السادات الخبيثة تصرفوا حيالها ببطء، وبطريقة ساذجة فبدل أن يبادروا للحسم لجأوا يومها إلى تقديم استقالاتهم الجماعية تصوراً بأن ذلك يشكل أداة ضغط على السادات (الأعزل) بنظرهم !!.فيما لجأ الأخير وبحركة إنقلابية ـ متمرس فيها !!ـ إلى تصفيتهم وبسرعة قياسية ـ ساعة أو اثنتين !!ـ بينما هذه القيادات من الناصريين كانت ممسكة بكل مفاصل الدولة حتى أطلق عليهم السادات: "مراكز القوى".. وهذا وصف دقيق لدى من بيده الجيش، والشرطة، والأمن، والإعلام، ومجلس الشعب، والتنظيم الحزبي ـ الاتحاد الاشتراكي ـ؛ ترى هل يحتاج السادات إلى أكثر من هذا لعزله وهو بينهم وفيهم أضعف الحلقات حتى عشية 15 مايو/ أيار تاريخ إيداعهم السجن!!!..
ترى لماذا ؟، وكيف؟ أمكن للثورة المضادة أن تفعل فعلها بساعات ماحيةً ما فعله عبد الناصر بأعـوام!!!. سؤال كبير يطرح معه ضرورة إجراء مراجعة نقدية للتجربة الناصرية، وبجهد غير فردي. هذا كله على اعتبار أن الحاضر من ثمار الماضي، كما وأنه موصول بالمستقبل، بل وإن المسألة تبدو ملحةً في هذه اللحظة الفارقة التي تشهد فيها مصر حراكاً شعبياً غير مسبوق يترافق مع صحوة ضمير تستعيد وعي التجربة الناصرية بوصفها أكثر تجارب أمتنا جدية، وأهمها تأثيراً، وأرسخها في وجدان الجماهير، كما تستعيدها إلى ساحة السجال السياسي التي تحتدم فيه مصر هذه الأيام.
ما كان ممكناً لثورة يوليو/تموز ان تبلغ ما بلغته، من غير قيادتها الواعية المتبصرة، وهنا أتذكر شهادة مبكرة جدا بعبد الناصر تشير إلى تمايزه وموهبته، جاءت مطلع عام 54 على لسان صلاح البيطار احد آباء البعث الاوائل؛ يومها كان عبد الناصر مجرد متقدم بين متساوين؛ رئيساً للوزراء، فيما محمد نجيب رئيسا للجمهورية يستحوذ على المساحة الأكبر من عدسة الكاميرات. كان البيطار قد تقصد زيارة القاهرة مدفوعا بالرغبة في استقصاء احوال حكامها الجدد. وعندما عاد إلى دمشق تحلق حوله بعض أصدقائه ممن كانوا في الغالب تلامذته في ثانوية جودت الهاشمي بدمشق (التجهيز الاولي) من بينهم المرحوم والدي الذي روى لي هذه الواقعة. كان هؤلاء الشباب شغوفين بسماع اخبار القاهرة. سألوه ـ وجلهم بين بعثي أو مؤيد ـ عن الوعي القومي العربي لهؤلاء الضباط ونظرتهم للوحدة العربية، صدمهم جوابه حيث قال: "باستثناء جمال عبد الناصر ليس لديهم أية فكرة عن الموضوع"!! وهذا ما حداهم لسؤال آخـر: "وكيف وجدت عبد الناصر"؟.. فأجاب بأسلوبه الخاص كأستاذ لمادة الفيزياء ـ التي اختص بها في جامعة باريس ـ : "لو أقمنا عشرين مستوى متوازيا، ووضعنا عبد الناصر فوق المتوازي الأول، فإن أفضل واحد من رفاقه الضباط يبدأ رأسه بالظهور عند المتوازي العشرين"!!. وهذا حق وقد تجلى في رؤية محمد نجيب والبعض من ضباط الثورة في الإصرار على عودة الحياة البرلمانية، وعمل الأحزاب تحت مسمى: "عودة الحياة الديمقراطية"، فيما كانت رؤية عبد الناصر أن "الديمقراطية عملة واحدة ذات وجهين، سياسي واجتماعي، وبغير هذين الوجهين لا سعر لها ولا قوة".
لقد حاولت الحملة الحاقدة التي استهدفت عبد الناصر استغلال هذه النقطة للتصوير بأنه كان يتطلع منذ البداية للتفرد بالسلطة؛ ونحن هنا لسنا في معرض الدفاع أو الرد لطالما كنا من دعاة نقد هذه المرحلة الناصرية كما أسلفنا. لكن ما قيل في هذه النقطة هو تجنٍّ على الحقيقة. إذ لو طاوع عبد الناصر نجيب وبعض من معه لآل الأمر مجدداً إلى باشاوات الإقطاع وهم أصحاب الثروة، والنفوذ، والمتجذرون في الدولة والمجتمع منذ قرون. فيما "الكتلة التاريخية" من الشعب القادرة على المقارعة لم تكن بعد قد تشكلت كما سبق وذكرنا. وبمعنى آخر فإن هذه الحركة للضباط الأحرار ستؤول إلى مجرد انقلاب عسكري تستفيد منه الطبقة الحاكمة، او عناصر "الدولة العميقة في مصر" آنذاك لتعيد انتاج نفسها، ولكن بواجهة جمهورية هذه المرة!!!!..
أليس هذا ما يحدث مع ثورة 25 يناير/ كانون الثاني؟!!!.. حيث النظام السابق سعى لإعادة إنتاج نفسه بواجهة جديدة ـ أحمد شفيق ـ وعندما عجز تحاول أدواته الآن ـ "الدولة العميقة" في مصر ـ (استيعاب) مرسي!. بتقييده، وحتما لن تتردد بزرع الألغام في طريقه متى قررت حرقه بأتون تراكمات المشاكل أي تركة (الجمهورية الثانية) التي أسسها السادات على أنقاض (الأولى) أي جمهورية عبد الناصر!.
ما كان ممكناً لعبد الناصر أن يفعل ما فعله بالمطلق من غير انتاج قواعد جديدة للسلطة وإرسائها على أسس جديدة لذلك خيّر رفاقه الضباط بين العودة للثكنات أو ممارسة العمل السياسي. ثم أوعز للأخيرين بأن يقوموا بتطوير معارفهم بالالتحاق بالجامعات. ليكونوا أهلاً لقيادة الدولة. وبالفعل خرج من هؤلاء بعض المتميزين الذين يُشهد لهم بالكفاءة.
وبالقياس من غير الممكن أن يرتقي هذا الحراك المصري الشعبي إلى مستوى العمل الثوري إلا متى تقفّى ذات الطريق. لا يمكن على المدى البعيد أن تنطلق مصر إلى فضاءات طموح أبنائها، بجمهورية كمب ديفيد. هذه الحقيقة ينبغي أن يدركها إخوان مصر، وناصريوها معاً، وحيث يراد لهما أن يكونا في حالة اشتباك كي تستنفد هذه الكتلة التاريخية نفسها... ديكان للقتال والمنتصر إلى الذبح!!!!.