ارشيف من :آراء وتحليلات

معركة حلب أمُّ المعارك لأن ما بعدها غير ما قبلها

معركة حلب أمُّ المعارك لأن ما بعدها غير ما قبلها

لم تكن الأزمة السورية بهذا الوضوح الذي هي عليه اليوم لجهة أسبابها الحقيقية والأهداف المطلوبة منها. ومنذ البداية، وفي سياق اختصار هذه الأزمة بالأسباب الداخلية الخالصة جرت محاولات حثيثة سياسية واعلامية لإلحاقها بركب الانتفاضات التي حدثت في أكثر من قطر عربي مدشنة ما أطلق عليه بالربيع العربي، حيث إن السمة المشتركة التي جرى حصر هذه الانتفاضات بها هو الأسباب المحض داخلية، ما شكل ابتساراً وتشويهاً استراتيجياً ومنهجياً لها ساهم في التأسيس لإمكانيات احتوائها من قبل التحالف الاستعماري ـ الصهيوني ـ الغربي بسهولة، هذا الخطأ القاتل الذي ذهب اليه القيمون على هذه الانتفاضات بأعين مفتوحة استناداً الى تقدير خاطئ بإمكان الفصل موضوعياً ـ في معركة التحرر ـ بين وجهي هذه المعركة، أي المعركة مع الاستبداد والمعركة مع الاستعمار. ولا شيء يسرّ الولايات المتحدة مثل هذا الفصل لأنه يترك لها الباب واسعاً لاحتواء هذه الانتفاضات وحرفها عن مسارها استناداً الى ما تملكه من عناصر قوة هائلة حتى في صلب المعادلات الداخلية للكثير من هذه الانتفاضات، ومن عناصر تأثير خارجية. ومن نافل القول هنا، إن الولايات المتحدة، ولعقد من الزمن أو أكثر، وهي تبحث عن حل لما تسميه التناقض الاستراتيجي الذي باتت عليه المنطقة، أي التناقض بين مصالحها الاستراتيجية المتمثلة بالحفاظ على أمن الكيان الصهيوني وعلى مصالحها النفطية في زمن الشح  النفطي المقبل عليه العالم وبالتزامن مع الزيادة على طلب هذه المادة الحيوية من جهة، والتحكم بحالة الغليان التي تسود المنطقة وتبشّر بانفجارات شعبية كبيرة، والحل جاء في معادلة بسيطة: فتح الطريق فقط أمام تغييرات متوقعة لا تمس في العمق الترتيب الوظائفي للأنظمة الحليفة، لكن الاستفادة منها لإحداث نقلة في مواقع وأدوار الأنظمة التي تصارع في المنطقة المشروع الاميركي ـ الصهيوني، وتسعى الى الحاق الهزيمة به.
لا أحد ناقش ـ منذ البداية ـ في الحاجة الى الاصلاح الوطني في سوريا، حتى النظام أقر واعترف بهذه الحاجة وعمل لها، إلا أن النقاش الفعلي كان حول وجود مؤامرة خارجية تستهدف نقل سوريا من موقعها ودورها الحالي الى موقع ودور نقيض يكمل حلقة الأنظمة العربية الملحقة بالولايات المتحدة. البعض أصر على اختصار الأزمة بالأسباب الداخلية، والبعض الآخر عمل على تغييبها لمصلحة نظرية المؤامرة بالكامل، والبعض الثالث وجد في ما يجري تضخيماً هائلاً للأسباب الداخلية في محاولة واضحة لفتح الطريق أمام استثمارها لمصلحة المشروع الاميركي، الصهيوني ـ العربي ـ الرجعي بالكامل، الحقيقة الواضحة اليوم هي هذه، أي أن هناك مؤامرة كاملة الأوصاف توسلت الأسباب الداخلية لإحداث نقلة استراتيجية في الموقع الوطني لسوريا المناهض للعدو الاسرائيلي وللمشروع الاميركي، ومنه إحداث نقلة استراتيجية في خريطة التوازنات التي تحكم معادلة الصراع بين هذين المحورين.
منذ البداية أريدَ تطبيق النموذج الليبي على سوريا، وبدرجة ثانية النموذج اليمني، والقاسم المشترك بين الاثنين هو التدخل الخارجي بمعزل عن  أشكاله وصوره وأدواته، واذا كان هناك التدخل لأسباب جيو ـ سياسية تتصل بمناطقها وبالتوازنات الاجمالية في المنطقة، فإن التدخل في سوريا له أبعاده الأكبر، الأمر الذي يفسر خوض هذه الحرب الكونية في سوريا وعليها، وهي حرب لا يمكن أن تكون بأي شكل من الأشكال لغرض الاصلاح.
خلاصة ما نريد تأكيده هنا، ان المعركة في سوريا باتت اليوم في غاية الوضوح، أي بوصفها معركة مع الخارج، وليست معركة داخل ـ داخل، معركة مع التحالف الغربي ـ السعودي ـ القطري ـ التركي يجري الزج فيها بكل أدوات الصراع المفترضة بما فيها السلفيات القاتلة والتكفيريات الدموية في اشارة واضحة ذات دلالة: أن من يسمح بإيصال هذه الكم الهائل من المرتزقة الى سوريا هو هذا التحالف الذي يفرض سؤالاً جدياً حول علاقات هذه المجموعات بهذا المحور. وأن هذا الزج الهائل بكل الامكانيات والأدوات علامة أكيدة على حجم الأهداف المراد تحقيقها من هزيمة النظام في سوريا، ما يرفع المواجهة الى هذه الدرجة من الشراسة، وأخيراً، وليس آخراً دلالة حازمة على أن أصل ما يحدث في سوريا مرتبط بالأسباب الخارجية، ما يجعل الوطنيين السورييين الفعليين يعطون الأولوية لاسقاط هذه الأسباب ومن داخل المشاركة الوطنية في ادارة الأزمة على أن يتم الانصراف لاحقاً لطرح كل الأسئلة الموجبة.
ومن الواضح، أنه ـ ومنذ البداية ـ حاول التحالف العربي ـ السعودي ـ القطري ـ التركي وضع العراقيل أمام كل محاولات النظام للقيام بالاصلاحات التي سبق وتم طرحها في المعارضة نفسها، وكان يجري الضغط على هذه المعارضة لرفضها والتمسك بمطلب وحيد هو اسقاط النظام، ثم جرت محاولات أخرى للمزاوجة بين حركة شارع وحركة مسلحة للتسريع في اسقاط النظام، الا أن هذه اللعبة انتهت لغير مصلحة هؤلاء، اذ سرعان من انكفأت حركة الشارع، وهي في الأصل لم تكن بالحجم المطلوب، لمصلحة المعارضة المسلحة، ما ساهم في انكشافها سريعاً لا سيما أمام الشعب السوري.
هذه المعارضة التي حاولت أن تموّه نفسها بالعناوين الداخلية من خلال التأكيد على الهوية السورية لعناصرها، سرعان أيضاً من انفضحت محاولاتها هذه، بعدما تبين أنها في خليط هجين من مجموعات مسلحة لكل منها انتماءاتها الخارجية، وحساباتها الخاصة، ولا يكاد يجمعها شيء سوى الافساد في الأرض، وفي ما بعد، خصوصاً في ظل استعجال السعودية وقطر على اسقاط النظام اسقط هذان النظامان اقنعتهما وأعلنا علناً ـ مع تركيا ـ توفير كل الدعم المسلح وغير المسلح لهذه المعارضة.
الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً لم تكن بعيدة، بل كانت تلعب دورها بدهاء وخبث تاركة لأدواتها حرية الظهور العلني واحتكار الصورة لاعتبارات معروفة.
في خضم هذا المسار لم يترك هذا التحالف الجهنمي وسيلة إلا واعتمدها لاسقاط النظام، وصولاً الى الحلقة الأخيرة لهذا المخطط، والمتمثلة بالتالي:
أولاً: اغتيال قادة عسكريين وأمنيين كبار أريد له أن يكون اغتيالاً لقلب النظام، ولأحد حلفائه المركزيين، مع رهان على ما يمكن ان يطلقه هذا التفجير من ترددات وتداعيات معنوية وسياسية تصيب أركان النظام ومؤسساته الأمنية والعسكرية في الصميم.
ثانياً: التحضير المتأني للهجوم على المعاقل المركزية لقوة النظام أي العاصمة السياسية دمشق، والعاصمة الاقتصادية حلب.
هذا المخطط جاء في الحقيقة في السياق التالي:
أولاً: انعدام أي افق سياسي للحل في سوريا، يتم التوافق عليه خارجياً.
ثانياً: صعوبة حدوث حسم أمني وعسكري للأزمة، مع ادراك التحالف الجهنمي للعجز البنيوي الذي تعاني منه المعارضة، ولقوة النظام وأرجحيتها البارزة لمصلحته.
ثالثاً: استعجال اسقاط النظام الآن وقبل الغد من خلال زعزعة مراكز قوته، أي نقل الصراع الى المركز بدلاً من ابقائه في الهامش.
في هذا السياق، جاءت عملية تفجير مجلس الأمن القومي، ومن ثم التحضير لساعة الصفر للهجوم في دمشق ومن ثم حلب، على أن يكون هذا الهجوم هو النقطة الفاصلة في مسار الأزمة السورية، وكل ذلك بالتحضير لمواكبة هذه التطورات من خلال تشكيل حكومة انتقالية، وحشد عسكري تركي على الحدود مع سوريا، وعقد مؤتمرات متنوعة لتوفير الغطاء السياسي المطلوب لهذا المخطط.
إلا أن المفاجأة جاءت عندما:
أولاً: نجح النظام في استيعاب مفاعيل اغتيال القادة الأمنيين والعسكريين وعمل على ملء الفراغ بسرعة.
ثانياً: أخذ زمام المبادرة، والشروع في هجوم مضاد واسع وقوي تمكن من اجهاز المؤامرة في دمشق، لينتقل الى التعامل معها في حلب.
من هنا، تبدو المعركة في حلب معركة اقليمية ـ دولية تخاض في وجه النظام، وتعمل على الزج بكل الامكانيات فيها إما لحسمها لمصلحة هذا المحور الجهنمي، أو على الأقل الاحتفاظ بجزء مهم منها، يمكن أن يؤسس لعمل لاحق او توازنات جديدة.
في المقابل، يدرك النظام أنه يخوض أم المعارك مع هذا التحالف، وأن ليس أمامه الا الانتصار فيها مهما كلف الأمر، لأن ما بعد الانتصار غير ما قبله.
معركة حلب هي معركة مسار مختلف في الأزمة السورية بالنسبة للجميع، ولذا ستكون معركة لا هوادة فيها.

2012-08-06