ارشيف من :أخبار عالمية

زيارة مرسي الصينية تقلق واشنطن: نحو سياسة خارجية مصرية مستقلة

زيارة مرسي الصينية تقلق واشنطن: نحو سياسة خارجية مصرية مستقلة
ليست زيارة الرئيس المصري "الاخواني" الى الصين خبراً عادياً تنتهي مفاعيله بعودته والوفد المرافق الى بلاده لينطبق عليه مقولة "كلام الليل يمحوه النهار". فالزيارة في أبسط تعريف لها تعد حلقة من مسارات الانعطاف في السلوك السياسي المصري الخارجي الجديد بعد الثورة. وما يؤكد هذا المعنى الإنعطافي هو ان الرئيس مرسي، كان بامكانه ان يرفض أو يؤجل تلبيه الدعوة الصينية، لكنه بمسارعته اليها وافتتاح عهده الدولي من بكين ما يشير الى اعتماد مقاربة مصرية تبتعد عن الخطاب الإنفعالي العربي الذي قدم في بعض محطاته الصين كعدو للشعوب العربية بسبب موقفها من الأزمة السورية، ووصلت بعض التهديدات الى حد التلويح بمقاطعة البضائع الصينية وليس السياسة الصينية فحسب.

زيارة مرسي الصينية تقلق واشنطن: نحو سياسة خارجية مصرية مستقلة

وباعتبار ان مصر تمثل احدى أبرز حالات نجاح التيار الاسلامي في تمثيل الشارع العربي من خلال نتائج الانتخابات، فإنه يفترض بها على خلفية التفسير الديني المذهبي لأزمة سوريا أن تكون في صدارة المستنكرين للموقف الصيني، لكن زيارة مرسي أظهرت القاهرة أنها في مكان آخر بعيد عن غوغائية البعض ممن يدمنون افتعال الأزمات أكثر مما يفلحون في معالجتها والاتكاء على هذه المعالجات في بناء أدوار إقليمية وثم دولية. وعليه فإن المغزى الكامن في الزيارة ينطوي على رغبة واضحة لدى القيادة المصرية الجديدة في استعادة الموقع والدور الإقليمي الفاعل للقاهرة، وليس أفضل من بكين نقطة انطلاق نحو اعادة تعريف المصالح والأدوار المصرية بعيداً عن المظلة الأميركية التي وقفت تحتها السياسة الخارجية المصرية منذ أنور السادات وما بعده، وفقدت بهذا الإنطواء كل فعاليتها حتى في أقرب الدول اليها، السودان. وبحسب المعطيات الاستراتيجية فإن الصين اليوم، الى جانب روسيا، هما المؤهلان لاقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب ينهي نظام الأحادية الأميركية التي دفعت مصر كل ما تملك بسبب ركونها إليه، وبالتالي فإن الرسالة الاولى من الزيارة تلقفها الأميركيون وفهموها على انها بداية تملص من التزامات النظام السابق، نحو استقلالية في ممارسة الدور الاقليمي، يتجاوز حسابات إتفاقية كامب دايفيد ويقفز على قيود المساعدات المالية الأميركية السنوية لمصر التي استخدمت أداة ابتزاز أكثر مما استخدمت أداة تنمية.
 باحثان اميركيان: مثلما كانت الصين بالنسبة لإيران بعد الثورة، يمكن أن تكون حليفا جاهزا لمصر "الإسلامية"


من هنا كان العنوان الاقتصادي الأبرز للزيارة والمتمثل بترؤس مرسي وفداً ضم سبعة وزراء مختصين بمختلف القطاعات الاقتصادية، إضافة الى القطاع الخاص ممثلا بثمانين رجل أعمال مصريا، فضلا عن استهلال الزيارة بافتتاح اجتماعات مجلس الاعمال المصري ـ الصيني، الذي سيعد جسراً لتحسين العلاقات بين البلدين حكومتين وشعبين. ولأن الصين اليوم هي العملاق الاقتصادي الأكثر تاثيراً في العالم، وربما الأكثر متانة واستقراراً وغزوا للاسواق من مختلف الجنسيات والقارات، فإن لغة الأرقام هي التي يبنى عليها ما يجب من رؤى ومقاربات سياسية، وقد كان واضحا في التصريحات المصرية الرسمية السعي لتقليص الفجوة في الميزان التجاري بين البلدين والمقدرة بنحو سبعة مليارات دولار، من خلال توقيع اتفاقيات تتضمن تسهيلات صينية للبضائع المصرية في أكبر سوق شعبي في العالم، إضافة الى الدفع نحو زيادة الاستثمارات الصينية في مصر لتجاوز مبلغ الثمانمئة مليون دولار حاليا، وتخلق فرص عمل جديدة يحتاجها النظام الجديد في مصر كجزء من معالجة الأزمة الاقتصادية، فضلا عن تصحيح الأخطاء السابقة التي ألحقت الضرر بكثير من الشركات والصناعات التقليدية المصرية على حساب البضائع الصينية، وهو ما يمكن ان تباشر به بكين رغبة منها في تفعيل بوابتها المصرية بحسب الدكتور حسين عمران رئيس قطاع البحوث والدراسات بوزارة الصناعة والتجارة الخارجية، الذي تحدث عن ابداء الصين استعدادها لتدعيم وفتح علاقات وتبادل تجاري مع مصر على عكس دول أخرى تفرض قيودا عند عرض التعاون الاقتصادي مع مصر مثل أوروبا وأمريكا. وبعيداً عن التمنيات، فإن الاختبار الفعلي يكمن في تنفيذ جملة من الاقتراحات قدمها الرئيس مرسي لنظيره الصيني هوجينتاو وتضمنت زيادة الرحلات بين البلدين من 3 إلى 10 رحلات أسبوعيا، ومساهمة الصين في إنشاء خط سكة حديد لقطار فائق السرعة بين القاهرة والإسكندرية يختصر الرحلة في 40 دقيقة، وأن تضع الصين ودائع في البنك المركزي المصري، وهو ما وعدت بكين بدراسته، وأيضا مشروع غرب قناة السويس «تيدا»، الذي يوفر 40 ألف فرصة عمل. كما اتفق الجانبان على أن تقوم الصين بإيفاد مستوردين لمصر لبحث السلع التي يمكن أن يحصلوا عليها ويقدموها للمستهلك الصيني، فضلا عن الرغبة المصرية التي عبر عنها وزير الصناعة والتجارة الخارجية حاتم صالح بان يكون لبلاده نصيب من الاستثمارات الصينية في أفريقيا والتي تبلغ 20 مليار دولار، مؤكدا إمكانية أن تصبح مصر قاعدة جيدة للصادرات والصناعات الصينية بالمنطقة العربية والأفريقية باعتبارها أكبر دولة بالمنطقة، ولتأثيرها الكبير في محيطها العربي والإفريقي، كما أنها تعد بوابة العبور لأفريقيا لارتباطها باتفاقية "الكوميسا" مع دول القارة، وتوقيعها اتفاقية التجارة الحرة مع الدول العربية.
 
بإمكان مصر ان تصبح قاعدة جيدة للصادرات والصناعات الصينية بالمنطقة العربية والأفريقية باعتبارها أكبر دولة بالمنطقة

وهنا يتم تقاطع المصالح بين بلدين يحتاجان الى بعضهما البعض لكي يزيد الصيني من حضوره الاقتصادي فضلا عن السياسي ولكي تكون مصر أقرب من غيرها الى التنين الصيني الذي لا يخيفها ولا يود استباحتها كما يفعل الوحش الأميركي. لذا فإن السلوك المصري فسر على انه يتضمن رغبة واضحة في التملص من قيود المال الأميركي وتأمين بديل يؤهل القاهرة لمخاطبة واشنطن وغيرها من موقع المستغي عن مساعداتها المشروطة والمذلة، ويفتح الباب أمامها لاعادة رسم مسار جديد لسياستها الخارجية بما يعيد التوازن لها بعدما أمعنت طوال العقود الأخيرة في الابتعاد نحو الغرب والإفراط في الاعتماد عليه، وهو ما يثير حفيظة واشنطن، حيث تحدثت مقالة افتتاحية في صحيفة "لوس انجلوس تايمز" الاميركية عن المخاوف الاميركية من زيارة مرسي الى الصين ـ وايضا ايران ـ وكتب المقالة اثنان من المحللين السياسيين الأمريكيين المعروفين هما ديفيد شينكر مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وكريستينا لين الباحثة في مركز العلاقات عبر الأطلسي وكلية بول نيتز للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، وجاء في المقال أن "زيارة مرسي للصين أكثر إشكالية بالنسبة للولايات المتحدة، معتبرين ان الصين مثلما كانت بالنسبة لإيران بعد الثورة، يمكن أن تكون حليفا جاهزا لمصر "الإسلامية". ورغم أن انعدام الأمن وانهيار الاقتصاد قد يجعل من مصر "الإسلامية" تبدو قليلة الأهمية بالنسبة للصين، إلا أن تحسين العلاقات مع دولة مضطربة يمكن أن يوفر لها موطئ قدم على البحر المتوسط، وربما يعرض مرسي على الصين أولوية مرور سفنها الحربية عبر قناة السويس أسوة بالولايات المتحدة، وهذا الامتياز سيكون جذابا للصين التي تحتاج لحماية استثماراتها في منطقتي البحر المتوسط والبحر الأسود". وأشارت الصحيفة إلى أن "هناك ميزة أخرى محتملة للصين هي الحصول على التكنولوجيا الأمريكية العسكرية من خلال مصر، فوفقا لبرقية دبلوماسية في آب/ أغسطس 2009 سربها موقع "ويكيليكس" كانت مصر "على الأرجح أكثر دول العالم انتهاكا لقانون الرقابة (الأمريكي) على الأسلحة المصدرة للخارج"، وأظهرت البرقية المسربة قلق الولايات المتحدة من زيارة مسؤول عسكري صيني إلى قاعدة مصرية للطائرات إف ـ 16 في ذلك العام".

زيارة مرسي الصينية تقلق واشنطن: نحو سياسة خارجية مصرية مستقلة

من هنا يمكن تفسير التدارك الاميركي من خلال توجيه دعوة لمرسي لزيارة واشنطن ولقاء الرئيس باراك اوباما، خلال زيارة الاول الى نيويورك للمشاركة في اعمال الجمعية العامة للامم المتحدة، في النصف الثاني من أيلول هذا العام. لكن وبمعزل عن نتائج الزيارة الاميركية لمرسي فإن دعوته القادة الصينيين لزيارة القاهرة وإبداء استعداده لزيارة ثانية الى الصين ومن ثم زيارته طهران هي بنظر الأميركيين مؤشرات على تغير ما يتعين عليهم الاعتياد على استمراره في وتيرة تصاعدية يفترض ان تقود القاهرة الى ممارسة سياسة تنأى فيها بنفسها تدريجيا عن المحور الاميركي مع توفر بدائل دولية واقليمية تعتبر من الناحية الاخلاقية والانسانية اكثر قرباً من " الحلف الاميركي" وتؤدي في نهاية المطاف الى الحفاظ على مصالح مصر أولا وليس الولايات المتحدة ولا "اسرائيل" كما كان سائداً.

عبد الحسين شبيب
2012-08-31