ارشيف من :آراء وتحليلات

الاخوان المسلمون أمام التحدي.. مصر تصنع السياسة أو تستوردها

الاخوان المسلمون أمام التحدي.. مصر تصنع السياسة أو تستوردها
ما دام في فلسطين يهودي واحد فإن مهمة الإخوان لن تنتهي
الشـيخ حسـن البنا


بعيداً عن الصخب السياسي في مصر، فإن الأمريكيين لم يكونوا، ولن يكونوا بالقطع، مطمئنين لوصول رئيس إخواني إلى سدة السلطة خلافاً لما يعتقده البعض، أو يصوره البعض من أنه تم بتدبير أمريكي. إنها (عقلية المؤامرة) التي تصطنع الأوهام واضعةً على العيون غشاوةً !!..

أما الحقيقة، فهي أن أمريكا الراصد الدقيق لتوزع القوى السياسية في الداخل المصري، ونزعاته ومواقع ضعفه، أدركت أنها أمام موجة إسلامية سياسية نمت وتنمو من البؤس، والفقر، وطلب الرجاء المفقود!! يقابلها إفلاس القوى المحسوبة عليها، ومع ذلك فهي لم تفقد السعي عندما أوعزت لأحمد شفيق بالترشح لمنصب رئاسة الجمهورية وكاد أن يدركها!.

أن البراغماتية الأمريكية لا يمكنها أن تتجاوز الوقائع على الأرض عند التعامل مع أي بلد فكيف مصر البلد المفتاح في المنطقة؟ ولعل من أهم القواعد في هذه البرغماتية: "لا تبتعد عن عدوك ليبيقى تحت ناظريك "!! وعلى هذه الخلفية أوجدت أمريكا قنوات اتصال مع جماعة الإخوان ـ حتى في أوج دعمها لنظام مبارك ـ ألم تفعل ذلك مع عبد الناصر من قبل في الخمسينات وحتى في أوج الاشتباك معه إثر نكسة 67 فيما عُرِف "بمبادرة روجرز" كل ذلك وهي تتربص به وتحوك له المؤامرات من كل حدب وصوب!.

نعم إن أمريكا لا ترتاح لوجود اخواني مؤثر وفاعل في بلد مفصلي كمصر، هذا انطلاقاً من أن أمن الكيان "الإسرائيلي" هو جذر السياسة الأمريكية الشرق اوسطية. فمراكز الأبحاث في واشنطن ـ العقل المفكر للمؤسسات الحاكمة ـ تعرف مدى الارتباط المعنوي والنفسي بين إخوان مصر، والقضية الفلسطينية بالذات.

استطراداً وللتوضيح، فإن هذا الارتباط تاريخي بدأ من وقت مبكر مع تشكيل صندوق القدس عام 1931، وتطور مع دعم ثورة 1936 وصولاً للمشاركة في حرب فلسطين 1947/1948 حيث كان للإخوان حضور مميز ـ ثلاث كتائب ـ وبتعداد من المتطوعين بلغ بحسب أوثق المصادر قرابة ألف مقاتل بين محازب ونصير أبلوا بلاء حسناً في كل المعارك التي خاضوها، كان من أبرزها "معركة التبة 86 التي يذكر العسكريون أنها هي التي حفظت قطاع غزة عربياً"، ومعركة كفار ديروم، ورامات راحيل، واحتلال مستعمرة ياد مردخاي وغيرها، وبرزت منهم أسماء قادة مجلين مثل أحمد عبد العزيز، عبد المنعم عبد الرؤوف وعبد الجواد طبالة. نسوق هذا للتاريخ وللأمانة، فكيف وقد اعترف لهم في حينها أحد قادة العدو بعيد انتهاء الحرب؛ موشي دايان: "إن الفدائيين يحاربون بعقيدة أقوى من عقيدتنا... إنهم يريدون أن يستشهدوا ونحن نريد أن نبني أمة، وقد جربنا قتالهم فكبدونا خسائر فادحة... ولذا فقد حاولنا قدر الإمكان أن نتجنب الاشتباك معهم" .

إن هذا التاريخ القتالي مع البعد العقدي لا يمكن فصلهما في تكوين الشخصية الإخوانية في مقاربة القضية الفلسطينية. والأمريكي يعرف جيداً أنه لو أمكنه استيعابها على مستوى القيادات في بازار المساومات، فإنه من الصعب جدا أن يفعل الأمر ذاته على مستوى القواعد التي لن تترد في محاسبة قياداتها بما هي عليه من فائض أيديولوجي. وللتدليل على تلك الصلة التاريخية كما ذكرنا، نضرب مثالاً من موقع نقيض، هو حزب "البعث العربي" الذي ارتبط بنشأته ـ 1947 ـ بقضية فلسطين أيضاً . وقد عبر الرئيس الراحل حافظ الأسد عن ذلك لأحد زواره قائلاً ما معناه إن السوريين هم الأكثر تشدداً منه، وبفرض أنه قرر التنازل فإنه لن يستطيع البقاء ليوم واحد لأنه سيواجه بثورة عليه؛ والكلام غير المُباح به في هذا الحديث أن أول الرافضين للتنازل هو "الجيش العقائدي" القوات المسلحة السورية التي تأسست على مركزية القضية الفلسطينية.

الاخوان المسلمون أمام التحدي.. مصر تصنع السياسة أو تستوردها

عود على بدء ، فقد اشارت الأوراق الإسرائيلة منذ اليوم الأول لفوز مرسي إلى مشاعر الإحباط، وهذه عينات منها: "انتصار خطير" كما أوردت يديعوت أحرونوت. معاريف : "المخاوف اصبحت حقيقة فالاخوان المسلمون باتوا على رأس السلطة في مصر". هاآرتس: "معاهدة السلام باتت في خطر".!
دنيس روس، المستشار الأسبق لشؤون الشرق الأوسط ، دعا في "وشنطن بوست"، إلى ضرورة إبلاغ مصر بأن الولايات المتحدة لن تجند المجتمع الدولي لمساعدتها اقتصادياً، إلا إذا تقيدت بالتزاماتها الدولية، بما في ذلك معاهدة السلام مع "إسرائيل".

هذه المخاوف كما أسلفنا لا تنطلق من فراغ، لذلك فإننا نوافق عصام عبد الخالق في "الأهرام" قوله إن :" مساحة التفاهم بين هذه المؤسسة ـ العسكريةـ والولايات المتحدة اكبر بكثير من اي تفاهم قائم او محتمل بين واشنطن والقوى الاسلامية". والكثير من الكتابات الغربية الجادة يشير بوضوح الى هذه الحقيقية .

تحاول الولايات المتحدة إحاطة مرسي بشباكها مستغلة النقص في أرصدة مصر من العملات الصعبة والتي تراجعت بنسبة 60% وذلك بتقديم بعض العروض أبرزها من البنك الدولي بقيمة 4.8 مليار دولار. السؤال إلى أية وجهة سيصرف هذا المبلغ ؟ هل في مشاريع انتاجية ذات مردود، أم هو قيد جديد على مصر في اجترار لذات السياسة التي اتبعت أيام مبارك والسادات وأدت إلى هذا التردي في الاقتصاد المصري؟

ننطلق في هذا من اليقين بأن الهدف الأسمى للغرب ليس عدم تفوق مصر على "إسرائيل" وحسب بل تطويقها بسلاسل المديونيات، ومطبات الأزمات لإبقاء أي حاكم فيها أسير استحقاقاتها. فمصر المعافاة اقتصادياً خطرٌ كبير. فيما المطلوب مصر نصف جائعة؛ نصف ظمأى .وهنا فإن الرئيس مرسي مدعو ليتمثل تجربة عبد الناصر، وهذه قصة من سنواتها الحارة، هي من الدلالة بما يغني عن أي شرح وقد وقعت عام 1954 عندما زار مصر انطوني ناتينغ وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية مجتمعاً بعبد الناصر ثم عرج بعدها إلى تل أبيب، وقال هناك لبن غوريون "جئتك بنبأ جيد إذ تعمق عبد الناصر في قضية رفع مستوى شعبه ويعتبرها متقدمة على الإعداد لمحاربة إسرائيل ". نظر بن غوريون إلى ناتينغ قائلاً:" وهل تسمي هذا نبأً جيداً "!!.

إن الأخوان المسلمين الذين جعلوا من أدبياتهم السياسية استهداف عبد الناصر سيكتشفون المفارقة بأنهم سيواجَهَون بمثل ما واجهه إذا ما فكروا أن يبنوا اقتصاداً متحرراً ودولة قوية تمكن مصر من لعب دورها المركزي كسابق عهدها. ومما لاشك فيه أن الرئيس مرسي مطوق من أكثر من مكان. كامب ديفيد واستحقاقاتها، وتركة اقتصادية ثقيلة. ومطوق أيضاً بعقلية إخوانية تقليدية من بعض محازبيه ممن لا زالوا خارج الزمان أسرى الماضي وندوبه!! هذه العقلية التي تقدم دعوة مجانية لقوى سياسية متوجسة للذهاب إلى خيارات قد ترفضها في المبدأ ولها أسبابها لا سيما عندما تسمع كلاماً اخوانياَ ـ مهدي عاكف ـ يقول: "إن زمن الإخوان لم يأت بعد"، مشيراً إلى أنه سيأتي "عندما يهيمن الإخوان على الرئاسة والوزارات والسفارات وجميع أجهزة الدولة"!! ومما يزيد الطين بلةً هو اجترار ذات الكلمات المسيئة بحق جمال عبد الناصر. وهذا لا يؤذي الناصريين وحسب على اختلاف تياراتهم وإنما يؤذي جمهوراً مصرياً واسعاً من الشباب يرى في مؤسس مصر الحديثة بما له من مكانة عربية رفيعة الشأن، قيمة مضافة ترضي ذاته المصريه وشعوره بأهمية الانتماء في وقت جرى فيه سحق كل هذه المشاعر على مدى 30 سنة على الأقل حيث تحولت مصر إلى مجرد تابع أمريكي، وبدور مساوٍ للصفر!!.

لن نسأل ما الحكمة من استهداف عبد الناصر. وإنما إذا كان هدف الاخوان بناء دولة قوية.. دولة العدالة والحق كما توخاها منهم جمهورهم الذي محضهم ثقته وجله من الفقراء والمسحوقين، إذا كان هذا هدفهم فعليهم أن يتوقعوا أن يخوضوا ذات المخاض الذي خاضه عبد الناصر، وبالتالي يصبح استهداف النموذج ـ (عبد الناصر)ـ مؤذياً لهم من الوجهة الأخلاقية، والعملية أيضاً.

وإذا كانوا صادقين بما ينشدون ـ وكما نتمنى ـ فإنهم أمام لحظة الحقيقة سيكونون مطالبين من ضمائرهم بالقيام بمراجعة نقدية لتجربتهم السياسية العبثية خلال الخمسينيات والستينيات والتي عزلتهم جماهيرياً، وأحالت مواقفهم في الجذر إلى ماء انصب في طواحين الغرب الذي كان يخوض عبد الناصر معركته معه في سبيل تقدم مصر واستقلالية قرارها، وحرية شعوب عربية وأفريقية. هذا التحدي من المتوقع أن يواجهه الرئيس مرسي ـ وإن باشكال اخرى ـ متى أراد أن يكون منسجماً مع مبادئه، وأول ما يحتاج إليه في هذه الحالة التقليل من خصومة الآخرين في الداخل وذلك بالانفتاح عليهم؛ وهنا تكمن أهمية النقد الذاتي الذي أشرنا إليه..

وإذا كان الرئيس مرسي يتطلع لاسترداد دور مصر الإقليمي، ومرجعية أزهرها الاسلامية، هذه المرجعية التي تلاشت لصالح مرجعية وهابية صحراوية هيمنت على العالم الإسلامي، فإن لهذا التطلع متطلباته ومن أساسياته عدم مقايضة المواقف السياسية ذات الطابع الاستراتيجي بهبات أو مساعدات من هنا أو من هناك. هذا انطلاقاً من تحليلنا لموقف مرسي الأخير في مؤتمر وزراء الخارجية العرب المتعلق بالأزمة السورية والذي جاء خليجي الطابع مقارنةً بموقفه منها كما جاء خلال خطابه في ميدان التحرير، ثم جامعة القاهرة. كان يومها كلاماً مصرياً سيادياً بامتياز. الأمر الذي لا يمكن فصله الآن عن المغريات المالية: إعفاء من مليار دولار ديون لصالح الخزينة الأمريكية، مليارين الوديعة القطرية، ومؤخراً وعد قطري باستثمارات في مصر تقدر بنحو 20 مليار دولار!!.

إن دوراً فعالاً لمصر في الأزمة السورية ينبغي أن يرتقي إلى مصاف الهدف الاستراتيجي المتصل بأمنها القومي. فسقوط سوريا يعني تفتيتها، أو بالحد الأدنى غياب احتياطي للأمن القومي المصري في إطار تشكيل القوى وتوازناتها، والدور الإقليمي آخذين بعين الاعتبار أن مصر الضعيفة هي نقطة توافق أمريكية ـ سعوديةـ إسرائيلية. أما عدم مقايضة الدور باسعافات مالية مؤقتة لأزمة الاقتصاد المصري فقد يكون الطريق الأصعب لكنه الآمن يقيناً منا بأن الدور وبالتالي المكانة والعزة هي التي تأتي بالاقتصاد. أما فصل الاقتصاد عن السياسة أو توهم إمكانية ذلك فسيؤدي إلى أن تتحول مصر إلى ملحق بدول خليجية أقل منها حجماً وحضارةً وموارد بشرية، تشتري لقمتها بسياسة تستوردها.. أمر يأباه الشرف المصري وأخلاقيات النشأة الإخوانية كما أرساها حسن البنا.

لؤي توفيق حسـن( كاتب من لبنان )
2012-09-11