ارشيف من :آراء وتحليلات

زيارة البابا: ترحيب روحي.. وسياسي أيضاً

زيارة البابا: ترحيب روحي.. وسياسي أيضاً
تشكل زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان فرصة لإعادة قراءة واقع المسيحيين في المنطقة ككل، في ظل ما تعيشه هذه المنطقة من أحداث تؤثر على جميع ساكنيها دون تفريق بين دين ومذهب وعرق ولون.

الزيارة التي تدوم ثلاثة أيام تختزل الكثير من المعاني، وتختزن الكثير من المواقف، وهي تشكّل دفعة معنوية يحتاجها فعلاً كل المؤمنين في المنطقة، ولا سيما المسيحيين منهم، الذين يرَون الحصار المعنوي والمادي يُطبق عليهم من كل جانب، ودون أن يكون في ذلك استهدافاً لوجودهم بشكل مباشر وواضح، إلا إذا كان الحديث الدائر عن مؤامرة ما، يحمل في طياته مصداقية لم تستطع الدلائل المباشرة إظهارها للعلن حتى الآن.

ومقابل هذا الواقع المر الذي يعيشه مسيحيو المنطقة ينطلق حاملو همّ هؤلاء المسيحيين من الوقائع الموجودة من أجل نسج شبكة أمان، تحمي ما تبقى، وتحاول استعادة ما اندثر.

وبين ما حصل للمسيحيين في فلسطين، الذين شرّدهم الاحتلال الصهيوني بحصاره وقمعه وسدّه لنوافذ الفرص وطرق المستقبل أمام أبنائهم، وما عاناه أبناء العراق من تهجير حقيقي قلّص أعدادهم من مئات الآلاف إلى بضع عشرات من الآلاف، وما يتعرض له المسيحيون اللبنانيون من إغراءات لترك البلاد، مترافقة مع ضغوطات سياسية لا معالجات حقيقية تقف في وجهها، يبقى وضع مسيحيي سوريا هو الأكثر دلالة على ما سيكون عليه وضع المسيحيين في المنطقة خلال السنوات المقبلة.

فالمسيحيون الذين وجدوا أنفسهم في خضم حرب طاحنة، باتوا في موقف صعب، وهم المطالبون باتخاذ موقف مما يحصل، والباحثون عن مستقبل لهم في بلد كان عيشهم فيه رغيداً، في إطار السقف الذي كان يعيش فيه المواطنون السوريون بشكل عام.

ومن خلال مراجعة مواقف القادة الروحيين المسيحيين بشكل عام، يمكن التوصل إلى قناعة تفيد أن مسيحيي سوريا هم في موقع واضح من الحرب التي تعيشها بلادهم، وهو موقف عبّر عنه بطاركة الكاثوليك وبطاركة الأرثوذكس، بمحتلف تفرّعاتهم وطوائفهم.

ملخّص هذا الموقف هو دعم التغيير، ولكن رفض العنف. أي أن المسيحيين مع التغيير السلس، الذي يجري بهدوء، ويحقق للشعب السوري المزيد من الحريّات والفرص الاقتصادية والاجتماعية ، دون أن يؤدي ذلك إلى الإخلال بالصيغة الوطنية التي تحكم علاقة المسيحيين بالدولة، وبمواطنيهم المسلمين.
إن مسيحيي سوريا يعبّرون يوماً بعد يوم عن التزامهم بهذا الموقف الذي قد لا يُعجب البعض، ولكنه ينسجم مع قناعات هذه الأقلية التي ترى في التطورات تهديداً لمستقبلها، وربما لوجودها من أساسه.
ويبدو هذا الالتزام البديهي انحيازاً لأحد طرفي الصراع في سوريا، بينم هو الواقع وقوفاً في الجانب الصحيح من التاريخ. وما يحتاجه المسيحيون السوريون اليوم دعماً معنوياً ومادياً، وبمختلف السبل، للثبات على موقفهم هذا وتحصيل المزيد من الاطمئنان على صحّته ومشروعيته.
وهنا تأتي زيارة البابا للبنان، في جانب من جوانبها، دعماً لهذه الخيارات، بالرغم من بقاء هذا الدعم في إطاره المعنوي، والضمني في معظم الأحيان.
إن مواقف البطريرك بشارة الراعي في لبنان، والبطاركة الكاثوليك في لبنان وسوريا، مضافةً إلى مواقف البطاركة الأرثوذكس، وهم الأكثر تأثيراً في الداخل السوري ـ انطلاقاً من التاريخ ومن العدد ـ هي مواقف لا يمكن فهمها بشكل معزول عن وجود قاعدة صلبة تستند عليها وتنطلق معها.

ومع هذه المواقف الروحية، يأتي مواقف القيادات الزمنية المسيحية الواعية، في لبنان وسوريا،  والتي تصرح بالموقف الثابت إزاء ما يجري في سوريا والمنطقة.

إن الترحيب بزيارة البابا إلى لبنان ينطلق من أبعاد روحية لا شك فيها عند الكثير الكثير من مسيحيي المنطقة، ولكنه ترحيب يحمل مجموعة كبيرة من الدلالات السياسية، عند الكثير من المسيحيين، ومن المسلمين على حد سواء.

محمود ريا
2012-09-14