ارشيف من :آراء وتحليلات
الفيلم المسيء للنبي (ص) ... وألغاز الحرب على المقدس
حسين حمية
مع أن أميركا في الحرب العالمية الثانية سحقت القوّة العسكرية اليابانية وقذفتها بقنبلتين نوويتين وقضت على أكثر من ثلاثة ملايين ياباني، اعتبرت انتصارها مؤقتا وناقصا، وكل ما فعلته لا يؤهلها الاستحواذ على اليابان، ولم يكن أمامها لإنزال هزيمة كاملة في ذلك سوى حدث رمزي بسيط و"تافه" قياسا على الأهوال التي ذكرتها، وهذا الحدث هو الذي تكفل في تعطيل مكامن القوة في الأمة اليابانية، كونه اخترق فضاءها المقدّس المتمثل بالأمبراطور الياباني هيروهيتو. لقد طلب حينها قائد العسكري الأميركي دوغلاس ماك آرثر من الامبراطور المقدّسة سلالته لدى شعبه، أن يزوره ماشيا على قدميه في مقره لقاء إعفائه من المحاكمة، ونفّذ هيروهيتو الطلب، عندها، دبّ الانكسار الداخلي في نفوس اليابانيين، وانتحر بعد هذه الزيارة 27 ألف ياباني من فرط المذلة والإهانة والإحباط.
قوبل كلام السيد حسن نصرالله عن فيلم الإساءة للنبي (ص) بأنه اكثر خطورة من إحراق المسجد الأقصى على يد الصهاينة في 1969، خصوصا في لبنان، بردود لا تستقر على تفسير مشترك لنشر هذا الفيلم، إنما تجتمع على تسخيفه وتتفيهه عبر تناوله كعمل فني واستخدام أدوات النقد السينمائي لتقصي أبعاده السياسية والثقافية.
لا ضرورة لاستعادة ما اشتملت عليه هذه الردود، لكن كان واضحا اشتغالها على جملة من الأمور السياسية الآنية، منها، أن لا تؤثر مناخات ردود الفعل على الفيلم المذكور على زخم الدعم الأميركي والغربي للجماعات المسلحة في سوريا، واحتواء التحركات الشعبية ضد الغرب بقصد منع تفاقمها ومن ثم إخمادها، وثالثا نزع أي مسؤولية للإدارة الأميركية والحكومات الغربية عما ينشر في بلدانهم من إساءات بغيضة بحق الدين الإسلامي ونبيه (عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم).
كل محاولات تسخيف الفيلم وتتفيهه، اتسمت بالخفّة والسطحية، ولم تكن مبنية على تقصي أو عمليات تحرّ فكرية وعلمية، بل انساقت مع سيناريو نشر الفيلم وكانت وفقا لمقتضياته، وهنا نسأل، لماذا غاب عن بال اصحاب هذه المحاولات، أن هناك تعمدا أو ضرورات أملت على أن يكون الفيلم بهذا المستوى من الرداءة، كما أن هناك تقصدا في أن تتجه الاتهامات نحو مجموعة معينة من الأشخاص لا مردود عملانيا من تحميلهم المسؤولية، كما يمكن أن يضاف سؤال، ألم يساعد إنتاج الفيلم وإخراجه بهذا الشكل في إيصال رسالته بكلفة اقل فيما لو تم إنتاجه من جهات أكثر وضوحا وبخبرات فنية عالية؟
وما هو أكثر خفّة في محاولات التسخيف والتتفيه، هو هذه السذاجة (بعضها شديد الخبث) في تعاطيها مع ردود الفعل الغاضبة أو المنظمة سلميا على الفيلم، ولو أن بعض الاحتجاجات يستحق الاستنكار لترافقه بأعمال عنفية، لكن ليس صحيحا أو من باب الخداع القول إن هذه الاحتجاجات كانت عاملا مساعدا في ترويج الفيلم وإشهاره على الملأ وبالتالي توفير عشرات ملايين المشاهدين له، أو القول لو أنه تم كتمان رد الفعل، لما كان أحد على الأرض أعار الفيلم المذكور أي الاهتمام.
ولكبح الاحتجاجات، استرجع أصحاب نظرية تسخيف وتتفيه الفيلم، فتوى الإمام الخميني ضد سلمان رشدي بطريقة تنم عن غباء عميق. فكما يقولون، فعلا ضربت شهرة رشدي وكتابه "آيات شيطانية" الآفاق من وراء هذه الفتوى، وإن يكن! فالإمام الخميني ليس مشغولا بموقع هذا الكاتب إن كان في أسفل قائمة الكتّاب أو في رأسها، وهذه القضية لم تكن مدار ما تحاربه الفتوى، لقد كان موضوعها البعيد، أن لا يتحول عمل رشدي إلى سابقة، أضف أنها كشفت دور الغرب في تشجيع ارتكاب مثل هذه الموبقات بحق المسلمين، وقد اتت هذه الفتوى أكلها، عندما تحول نشر الكتاب إلى مواجهة حقيقية بين العالم الإسلامي والغرب الذي ارتدع لفترة طويلة عن تكرار مثل هذه الإساءة.
أضف هل تناسى هؤلاء أهمية الموقف الذي اتخذه العالم الإسلامي إثر نشر الرسوم الكاريكاتورية للرسول الأكرم (ص) في الدانمارك، وكيف اضطر هذه الدولة إلى استعطاف الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية لمساعدتها على مواجهة غضب الدول الإسلامية وشعوبها، لقد أجبرت الاحتجاجات الشعبية حينها الدانمارك على أن تشعر بالآلام الاقتصادية، واضطر الغرب بأسره إلى عقد اتفاق شفهي (غير مكتوب) مع العالم الإسلامي يقوم على منع التعرض للأديان.
بأي حال يمكن القول، إذا كان البعض يعتبر أن الاحتجاجات الشعبية هي سبب في تعريف العالم بالفيلم، فهذه حجج واهية تقوم على جهل مطبق بقدرات شركتي غوغل واليوتيوب وكيفية إمرارهما مواد إعلامية لكميات هائلة من الناس، هناك تجربة في الصين توضح مدى اقتدار هاتين الشركتين في نشر ما تشاءان من الأخبار والإشاعات والأفلام المثيرة للفتن والقلاقل في أي بلد كان، ما اضطر بكين إلى منع غوغل في فضائها الافتراضي، ومن ثم تمت تسوية الأمر مع الإدارة الأميركية التي رضخت لشروط السلطات الصينية.
ومن ضمن المحاولات المذكورة، تفسير نشر الفيلم بالظروف السياسية التي تمر بها المنطقة والعالم، ومنها، إحداث فتنة مسيحية ـ إسلامية، أو مخطط أميركي لترابط قوات المارينز في بعض الدول العربية، وقيل إن الفيلم يهدف للإضرار بأوباما الذي يسجل تفوقا طفيفا بالاستفتاءات على منافسه الرئاسي ميت رومني، وتوقيت نشر الفيلم مرتبط باقتراب موعد الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني المقبل، كما قيل بأنه يهدف إلى امتحان ما يسمى حكومات الربيع العربي وطريقة تعاملها مع السلفيين والمتطرفين، ومن بين التفسيرات أن نتنياهو أراد حشر الأميركيين ليحصل على مساعدتهم في توجيه ضربة لإيران.
قد ينفعل نشر الفيلم ونتائجه مع هذه التخمينات كلها أو بعضها، لكنه مرتبط بسياق معين بدأ بكتاب "آيات شيطانية"، ثم بالرسوم الكاريكاتورية، ومن بعدهما إحراق القرآن الكريم وتلويثه وتمزيقه من قبل الجنود الأميركيين في أفغانستان، وانتهاءً بالفيلم المذكور.
من الفائدة استذكار ما حدث منذ فترة (شباط الماضي) في روسيا عندما قامت ثلاث عارضات بأعمال غير محتشمة في كاتدرائية ارثوذكسية وبشكل يسيء للمصلين في الكنيسة، وجرت تغطية هذا الاعتداء تحت ذريعة أن العارضات كن يصلين من إجل إزاحة بوتين، ولما أدانت محكمة روسية العارضات هب العالم الغربي كله للدفاع عنهن من دون إقامة أي اعتبار لمشاعر المتدينين الروس.
ليس المكان للحديث عن ترابط الشخصية القومية الروسية والديانة الأرثوذكسية، لكن واضح من خلال استعادة ما جرى في روسيا وأيضا الفيلم المسيء للنبي (ص)، أن من ضمن آلية هندسة الهيمنة الغربية على الأمم والشعوب الأخرى، هو ضرب الفضاءات المقدسة لها وإجبارها على الركون لفضاءات زمنية تتشكل من قوانين وأنظمة وضعية تلائم المصالح الغربية، مع الإشارة الى أن الفضاءات المقدسة هذه ظلت عصية على التفوق الغربي العسكري، وكانت متراسا لمجتمعاتها في الحفاظ على هويتها الدينية والقومية، وايضا على استقلالية أنماط عيشها.
ليس عبثا تكرار الإساءات الصادرة من الغرب ضد المقدسات الإسلامية، لأن التكرار هو هنا عبارة عن تراكم في حال السكوت عنه سيؤدي إلى إنشاء حق في الإساءة لمقدسات الآخر، والفيلم المسيء للرسول محمد صلى الله عليه وآله ليس إساءة للإساءة فقط، إنما يكمن فيه السياسي والاقتصادي والثقافي، فالقضاء على الامم على ما يقول مكيافيللي هو بإهانة أقدس رموزها، وعليه ليست القنابل الذرية التي حرقت هيروشيما وناكازاكي هي التي جعلت اليابان دولة مطيعة لأميركا، إنما زيارة الامبراطور سيرا على الأقدام للحاكم العسكري الأميركي... إذاً هناك ما هو أخطر من حريق الأقصى.