ارشيف من :آراء وتحليلات

أنقرة المضطربة في علاقاتها مع بغداد!

أنقرة المضطربة في علاقاتها مع بغداد!
بغداد ـ عادل الجبوري

وجّه رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان مؤخراً دعوة رسمية لنظيره العراقي نوري المالكي لزيارة تركيا والمشاركة في المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان. ولا شك ان مثل تلك الدعوة شكلت بالنسبة للكثيرين ـ وربما المالكي منهم ـ مفاجأة من العيار الثقيل، في ظل أسوأ مرحلة تمر بها العلاقات العراقية ـ التركية على خلفية جملة من القضايا والملفات الشائكة والمعقدة.

ماذا أراد اردوغان من دعوته هذه؟ ولماذا رفضها المالكي؟ وهل كانت ـ او ستكون مبررات الرفض مقنعة لانقرة ـ وهل قررت الأخيرة تصحيح مسار علاقاتها مع بغداد بعد أن ادركت خطأ بعض، او الكثير من سياساتها؟.

هذه الاسئلة وغيرها، راحت تطرح نفسها بقوة من أجل رسم صورة لمستقبل العلاقات العراقية ـ التركية في خضم تفاعلات داخلية وإقليمية كبيرة وخطيرة.

ولعله من المعروف أن تركيا شهدت في ظل حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي بزعامة اردوغان منذ عام 2001 تحولات سياسية واقتصادية مهمة للغاية، عكست في جانب كبير منها نجاح الحزب بالتوفيق بين رؤيته الفكرية الاسلامية ومتطلبات وضرورات ومقتضيات الواقع الذي تعيشه تركيا ومشكلاتها وأزماتها الكبيرة، وقد ترجم ذلك النجاح بازدهار اقتصادي ملموس وانفتاح سياسي متوازن، وحضور فاعل في الميادين الاقليمية والدولية المختلفة.

ومن الطبيعي والمنطقي ان يحرص قادة وزعماء الحزب الذين اصبحوا في ذات الوقت زعماء الدولة، على صيانة المنجزات المتحققة وعدم التفريط بها، وفي ذات الوقت تحقيق المزيد منها. والمفارقة التي حصلت خلال العامين الماضيين هي ان رصيد أنقرة ارتفع الى حد كبير في الساحة العربية ـ الاسلامية ارتباطاً بموقفها الواضح والصريح في دعم الشعب الفسطيني والوقوف بوجه الكيان الصهيوني رغم انها ترتبط مع الأخير بعلاقات دبلوماسية ومصالح وتحالفات استراتيجة من الصعب القفز عليها وتجاوزها بين ليلة وضحاها، بيد أنه لم تمر فترة طويلة حتى انخفض ذلك الرصيد بصورة حادة ارتباطاً بأحداث ما يسمى بـ"ثورات الربيع العربي"، التي اتسم موقف انقرة منها بالكثير من الازدواجية انطلاقا من اعتبارات وحسابات مذهبية ـ طائفية، في ذات الوقت الذي اقحمت فيه نفسها بالشأن العراقي بصورة واضحة ومكشوفة وفجة انطلاقاً من ذات الاعتبارات والحسابات ومدفوعة بتشجيع وتحفيز من أطراف عربية متمثلة في الدرجة الأساس بالمملكة العربية السعودية وقطر.

ومن دون أدنى شك فإن القراءات الدقيقة والموضوعية البعيدة عن الانفعالات والارتجال في الدوائر المعنية في أنقرة، ذهبت الى أن عملية مراجعة وإعادة النظر في المواقف التركية المتشددة حيال العراق ومحاولة جذب واستقطاب قوى وشخصيات معينة لضرب قوى وشخصيات أخرى لن تعود بالنفع كثيراً على انقرة. واذا كانت الأخيرة ملزمة باتخاذ مواقف معينة إزاء قضايا وملفات اقليمية مثل الملف السوري، فمن غير الصحيح ان تنعكس تلك المواقف على تعاطيها مع بلد مجاور تتداخل وتتشابك معه المصالح السياسية والامنية والاقتصادية، وقد غادر مرحلة الاستبداد والديكتاتورية مبكراً وهو الآن في طور بناء تجربته الديمقراطية الحديثة العهد.

ربما انطلق اردوغان في دعوته المالكي من هذه الزاوية، اذ اكتشف ان اغلاق كل الابواب ليس بالامر الصحيح، لذلك قرر ان يفتح احدها، والدعوة يمكن ان تكون بمثابة الباب الذي فتحه اردوغان، وطبيعة المناسبة يمكن ان توفر فرصة فسيحة للاثنين والآخرين للقاء والحوار حتى وإن كان سريعاً وعرضياً وعابراً، فأجواء المؤتمرات الحزبية غالباً ما تساهم في تذويب بعض الخلافات والاختلافات وإزالة بعض الحواجز النفسية.

وحتى لو رفض المالكي تلبية الدعوة، وهذا ما حصل بالفعل، فقد اعلن في حديث تلفزيوني لقناة العراقية الفضائية، أنه لن يستطيع تلبية دعوة أردوغان لأن لديه برنامجاً مسبقاً لزيارة روسيا والتشيك، وأنه بعث بخطاب شكر واعتذار الى الأخير. حتى في حال رفض تلبية الدعوة، فإن كسر جبل الجليد بين الطرفين مهم جداً كمقدمة لخطوات أخرى في اتجاه تصحيح المسارات ومعالجة الاخطاء.

بيد ان اللافت في الأمر ان الدعوة التركية للمالكي تزامنت مع انعقاد مؤتمر ـ او اجتماع ـ لشخصيات عراقية في مدينة اسطنبول بدعم ورعاية تركية ـ سعودية ـ قطرية حسب ما قيل وذكر في بعض وسائل الإعلام وما سربته أوساط سياسية مطلعة.

فقد تحدثت مصادر في العاصمة الاردنية عمان وفي اسطنبول عن قيام شخصيات عراقية بعقد عدة لقاءات في اسطنبول لتشكيل مرجعية سنية تمهيداً لتشكيل إقليم سني عربي في العراق. ومن بين الاطراف المشاركة في تلك اللقاءات هيئة علماء المسلمين بزعامة حارث الضاري المطلوب للقضاء العراقي، وعدنان الدليمي عضو البرلمان العراقي السابق والمتهم هو الاخر مع اولاده بالتورط في عمليات ارهابية، وممثل عن طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية السابق الذي حكم عليه مؤخراً بالاعدام، وتنظيمات وشخصيات اغلبها غير مشارك في العملية السياسية داخل العراق.

وتشير مصادر مطلعة على بعض مجريات الامور خلف الكواليس الى ان كلاً من انقرة والرياض والدوحة تبنت كل الترتيبات لعقد تلك الاجتماعات من اجل تشكيل جبهة مذهبية قادرة على طرح نفسها والترويج لمشروعها الذي هو في الواقع مشروع الدول الثلاث الراعية للقاءات المشار اليها.

واذا كانت انقرة تتحرك من جانب لاعادة المياه الى مجاريها مع بغداد وفي ذات الوقت تفتح قنوات وتمهد ارضيات وترعى مشاريع مضادة للعملية السياسية الديمقراطية، ومثيرة ومحفزة للاستقطابات والاحتقانات والفتن الطائفية في الساحة السياسية العراقية، فهل يمكن الاقتناع بوجود توجهات جادة وصادقة لديها حيال بغداد؟.

قد يعكس كل ذلك قدراً كبيراً من اضطراب وتخبط انقرة في تعاملها مع بغداد، فحرصها وسعيها للحفاظ على سياساتها المتوازنة وادوارها المحورية، وحضورها الدائم والفاعل في مختلف القضايا، وابقاء كل الخيوط موصولة والخطوط مفتوحة مع كافة الاطراف السياسية، والاستفادة من كل الفرص واستثمار المواقف المتناقضة مع هذا الطرف وذاك، تتقاطع تماماً مع سياسة بناء المحاور والتكتلات والعمل تحت الارض مع قوى تسعى بكل ما اوتيت من قدرة وقوة وامكانية الى تغيير الواقع السياسي في العراق بما ينسجم مع مصالحها وحساباتها واجنداتها.

اغلب الظن ان هناك في مراكز صناعة القرار السياسي التركي تشخيصاً دقيقاً لمكامن الضعف والخلل في التعاطي مع بغداد، ولكن لم تتبلور حتى الآن رؤية واضحة ولا نية صادقة ولا ارادة حازمة لتصحيح المسارات الخاطئة.. ربما تحتاج انقرة الى صدمة او صدمات لإجراء التصحيح، وربما تحتاج ايضاً الى اشارات ايجابية من بغداد.

2012-10-06