ارشيف من :آراء وتحليلات

سياسة الأبواب المفتوحة من بغداد الى موسكو

سياسة الأبواب المفتوحة من بغداد الى موسكو
تختلف ظروف الزيارة الحالية لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى روسيا عن زيارته الأولى التي قام بها في التاسع من شهر نيسان/ابريل من عام 2009، أي قبل ثلاثة أعوام ونصف. واختلاف الظروف يعني اختلاف الأجندات والاولويات والحسابات بالنسبة لكل من بغداد وموسكو على السواء.

في عام 2009 كانت القوات الأميركية ما زالت تنتشر في مدن العراق وقصباته وشوارعه، وكان العراق يوصف بـ " البلد المحتل"، ولم تكن قد ظهرت بعد "ثورات الربيع العربي" لتطيح بأنظمة سياسية مخضرمة وبالتالي تقلب الأمور رأسا على عقب في المنطقة العربية، ولم تكن قد فرضت بعض الحقائق والمعطيات السياسية الإقليمية والدولية اصطفافات وتحالفات تشبه الى حد كبير إصطفافات وتحالفات الحروب العالمية خلال النصف الأول من القرن العشرين. بينما صورة عام 2012 جاءت بمعالم وملامح وخطوط وألوان مختلفة، ومن الطبيعي جدا ان تكون بغداد مهتمة بالتقرب والاقتراب من موسكو مثلما أن الاخيرة لديها نفس الاهتمام، وكل له مبرراته ودوافعه واهدافه.

ربما يبدو الجدل والانقسام حول جدوى زيارة المالكي إلى روسيا في هذا الوقت بالذات أمراً طبيعياً، في خضم تجاذبات سياسية حادة في المشهد العراقي، وتقديرات مختلفة ومواقف متناقضة حيال قضايا وملفات خارجية حساسة وخطيرة أبرزها الملف السوري.

ذهب رئيس الوزراء العراقي الى موسكو ومعه ملف كبير وحافل ومزدحم، عنوانه الواسع والعريض هو تعزيز وإعادة احياء العلاقات العراقية ـ الروسية التي أصابها الفتور خلال العقد الأخير، لعدة اسباب قد يكون ابرزها هيمنة الولايات المتحدة الاميركية على مقاليد الأمور في العراق بصورة كاملة او شبه كاملة لفترة من الزمن.

وهذا الملف الكبير والحافل والمزدحم، يشتمل على إبرام صفقات اسلحة روسية مع الحكومة العراقية تقدر بعدة مليارات من الدولارات، وإعطاء دور أكبر للشركات النفطية الروسية الكبرى في سوق النفط العراقي، مثل شركة " لوك اويل" وغيرها، ودراسة سبل حل الأزمة السورية والعمل على صياغة مواقف وتوجهات من شأنها التوصل الى حلول واقعية وعملية تجنب المنطقة المزيد من نزيف الدماء وازهاق الارواح، ويشتمل الملف أيضا على بحث سبل زيادة حضور الشركات الروسية في الجانب الاستثماري بالعراق، وتطوير التعاون في المجالات العلمية والأكاديمية والثقافية المختلفة بين الجانبين.

قد يبدو الانتقال الى مرحلة متقدمة في مسيرة العلاقات بين البلدين أمراً ينطوي على صعوبات وتعقيدات غير قليلة، بعضها يرتبط بطبيعة الوضع العراقي الداخلي، وبعضها الآخر له مساس مباشر بحقائق المعادلات الدولية، ومحركات الصراع القائم في المنطقة.

ولعل ما هو واضح ان المالكي أراد من زيارته لروسيا في هذا الوقت بالذات إطلاق رسالة الى الادارة الاميركية مفادها ان لدى العراق بدائل وخيارات عديدة، وان سياساته الخارجية لا تبنى باتجاه واحد، ومعلوم ان واشنطن أظهرت تلكؤا وتهربا ربما كان مقصودا في مجال تزويد العراق بالقدرات التسليحية التي يحتاجها من أجل تعزيز منظومته الأمنية والعسكرية، وبالتالي تقوية امنه الوطني.

وتحدث المالكي بصراحة حينما قال بعد وصوله موسكو يوم امس الاثنين "ان العراق ماض في اتفاقيات التسليح مع الولايات المتحدة الاميركية وستكون لدينا عقود تسليح اخرى، وان عقود التسليح التي سنوقعها مع روسيا لا تعني ايقاف توريد الاسلحة او الغاء العقود المبرمة مع واشنطن".

ويضيف المالكي قائلا "ان العراق بحاجة لبعض العقود السريعة العاجلة لمكافحة الارهاب واسلحة مقاومة جوية كون المنطقة تتعرض لتحد كبير".

 

 

سياسة الأبواب المفتوحة من بغداد الى موسكو

 

لكن في مقابل رؤية المالكي، هناك رؤية أخرى مختلفة معها تماما تتبناها قوى وتيارات سياسية عراقية عديدة من اتجاهات وتوجهات مختلفة. هذه الرؤية يلخصها النائب في البرلمان العراقي عن التحالف الكردستاني وعضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية شوان محمد طه بقوله "ان هناك تخبطا واضحا في السياسة التسليحية في العراق، وهو أمر لا بد أن يأخذ مداه في الجدل والنقاش السياسي قبل ان نجد أنفسنا امام تكرار التجربة السابقة من حيث التسليح ايام الدولة الشمولية، ففي الوقت الذي ابرم فيه العراق عقودا مع الولايات المتحدة الاميركية على صعيد القوة الجويّة ومنظومة الدفاع الجوي، وهي أمور قد اكتملت وننتظر مواعيد التسليم، غير ان الامر اللافت لأي مراقب يرى هذا السعي وراء ابرام عقود تسليح سريعة ومن هذا المنشأ أو ذاك، انه يتصور ان البلاد على وشك الدخول في حرب سريعة مع احدى الدول الاقليمية".

ولا شك ان الجدل والسجال في داخل الاوساط السياسية بشأن عقود التسليح ومصادرها ومناشئها وشروطها وضوابطها لا يخرج عن سياق الصراعات والمناكفات السياسية الحادة بين الفرقاء، وأزمة "عدم الثقة" فيما بينهم، والتي يعتبر المالكي طرفا اساسيا فيها.

واذا عرفنا ان زيارة رئيس الوزراء العراقي لروسيا جاءت بناءً على دعوة رسمية تلقاها من الرئيس الروسي الجديد فلاديمير بوتين، يتضح ان موسكو تسعى الى فتح عدة قنوات مع بغداد وعلى أعلى الصعد والمستويات، لتضمن موطئ قدم لها لا بد منه في المنظومة الأمنية والعسكرية العراقية من خلال صفقات بيع الأسلحة الروسية للعراق، وكذلك في سوق النفط العراقي الذي ينطوي على افاق واسعة لتحقيق مكاسب مالية كبيرة إلى جانب الحضور والتأثير السياسي في المنطقة.

بعبارة اخرى إن صناع القرار في موسكو يدركون أن واشنطن هي صاحبة الحضور والتأثير الأكبر في العراق والمنطقة وأن روسيا تكاد تكون غائبة تماما، وهي إذا ارادت ان تبقى طرفاً دولياً فاعلاً ومؤثراً لا يقتصر تأثيره على ورقة النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، فعليها ان تبادر وتتحرك بسرعة وقوة وتنافس واشنطن وتستثمر نقاط الضعف لدى الأخيرة والثغرات في سياساتها حيال المنطقة، والمشاعر السلبية تجاهها من قبل عموم الرأي العام العربي والاسلامي.

ورغم أن الفتور كان السمة الأبرز في علاقات بغداد ـ موسكو خلال العقد الماضي، إلا أن الأخيرة تعتبر ان التواصل مع بغداد لم ينقطع، إلا انه تأثر سلبا بالوجود الأميركي المباشر في العراق، وفقدان الساسة العراقيين زمام المبادرة في الكثير من الأحيان، ولعل أبرز محطات التواصل بين الطرفين تمثل بزيارة الرئيس الدوري لمجلس الحكم المنحل الراحل السيد عبد العزيز الحكيم لموسكو في شهر كانون الاول/ديسمبر من عام 2003، ومن ثم زيارة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي لها بعد عام من ذلك التاريخ، وزيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لبغداد في شهر ايار/مايو 2011.

ولوحظ أن موسكو لم تكتف ببحث قضايا ثنائية ذات طابع سياسي وامني واقتصادي، وانما كان الملف السوري مطروحا بقوة على طاولة البحث والنقاش، ولا سيما ان الطرفين يتبنيان مواقف متقاربة ان لم تكن متطابقة حيال ما يجري في سوريا من وقائع واحداث.

ومثلما يرى العراق انه معني الى حد كبير بتداعيات الامور في سوريا، فإن روسيا تنظر الى مساعي واشنطن وبعض حلفائها الاقليميين لاسقاط نظام الرئيس بشار الاسد على انها تختلف تماما مع مصالحها وحساباتها، لذلك فإنها تعمل جادة لتحشيد وتعبئة جهد دولي واقليمي داعم لتوجهاتها ومواقفها مستفيدة في ذلك من الموقف الصيني دوليا، والمواقف العراقية والايرانية اقليميا بالدرجة الاساس، ومثلما يقول البعض "ان الأزمة السورية شكلت بالنسبة للسياسة الروسية البوابة الأوسع التي ولجت من خلالها نحو إعادة بناء منظومة العلاقات الدولية ككل من جانب، ونحو تثبيت وتعزيز النفوذ الروسي في العالم العربي وفي البحث عن تسويات للنزاعات التي يشهدها من جانب آخر".

ومن الطبيعي جدا ان تكون الأزمة السورية حاضرة بقوة في مباحثات المالكي مع الزعماء الروس، ومن الطبيعي جداً ان تكون طهران مهتمة الى حد كبير بنتائج ومعطيات تلك المباحثات، وزيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد المرتقبة لبغداد بعد عودة المالكي من جولته الخارجية في روسيا والتشيك، تشير الى أن التنسيق والتواصل بين بغداد وموسكو وطهران بشأن دمشق حقيقة قائمة ومكشوفة، وان هذا التنسيق والتواصل هو الكفيل بمنع انزلاق الامور في سوريا بالاتجاهات التي تريدها واشنطن وانقرة والرياض والدوحة وربما عواصم اخرى.

بغداد ـ عادل الجبوري
2012-10-10