ارشيف من :أخبار عالمية

المسارات الصحيحة لبغداد وطهران

المسارات الصحيحة لبغداد وطهران
بغداد ـ عادل الجبوري

خلال ثلاثة اسابيع فقط زار بغداد اثنين من كبار المسؤولين في الجمهورية الاسلامية الايرانية، ومن المتوقع ان يزورها مسؤولون آخرون في المرحلة المقبلة. في الثالث من تشرين الاول/اكتوبر الجاري جاء وزير الدفاع أحمد وحيدي، وفي التاسع منه جاء قائد القوات البحرية للحرس الثوري الايراني الاميرال علي فدوي.

ولا يمكن بأي حال من الأحوال النظر الى هذا الحراك بين بغداد وطهران باعتباره سياقا طبيعيا في إطار العلاقات بين دولتين، بل إن القراءة الموضوعية الدقيقة لذلك الحراك لا بد ان تستند الى معطيات بعضها ينحصر بالعلاقات الثنائية تحديدا، وبعضها الآخر يتعلق بتفاعلات خطيرة تعد موضوع اهتمام وقلق ايراني وعراقي على السواء. ولا شك بأن التداخل بين ما هو ثنائي وما هو أوسع من ذلك كبير جدا، وهنا تكمن النقطة الجوهرية التي تحتم أن يكون التواصل بين بغداد وطهران على اعلى المستويات.

واذا كانت الازمة السورية هي المحور الرئيسي الذي يتربع على رأس اجندات البحث والنقاش في مختلف الاروقة والكواليس السياسية الاقليمية والدولية، فإنه من الطبيعي جدا ان لا تكون حصة اروقة وكواليس بغداد وطهران من ذلك البحث والنقاش قليلة او هامشية.

المسارات الصحيحة لبغداد وطهران

ولعل الامر المهم والمشجع يتمثل بوجود أرضيات مناسبة للتفاهم بين الجانبين تتيح صياغة مواقف ورؤى مشتركة تعبر في جانب منها عن تقديرات وتقويمات صائبة لمصالح لا تقتصر حدودها على ايران والعراق، وإنما تمتد الى البيئة الاقليمية الواسعة.

كيف تشكلت وتبلورت تلك الارضيات المناسبة؟...

لا تبدو الاجابة عن هذا التساؤل عسيرة او تحتاج الى الاستغراق في الكثير من البحث والتحليل، اذا عرفنا ان العلاقات العراقية ـ الايرانية شهدت خلال الاعوام الماضية التي اعقبت الاطاحة بنظام صدام تحولات مهمة جداً على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية، فالحوارات واللقاءات التي كانت تتم على أعلى المستويات في كلا البلدين ساهمت في إزالة قدر كبير من سوء الفهم وفك الكثير من العقد التي وجدت وتراكمت خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات بفعل السياسات العدوانية لنظام صدام، التي حظيت بدفع وتشجيع قوى اقليمية ودولية عديدة.

مساحات التفاهم العليا سياسيا، فتحت افاقا اقتصادية رحبة بين الطرفين، وخلقت تفهما لكل منهما حيال طبيعة الظروف الداخلية والتحديات الخارجية التي يواجهها الآخر، كما هي الحال في كيفية التعاطي الايراني مع الوجود الاميركي في العراق، والتعاطي العراقي مع المواقف الإيرانية بهذا الخصوص.

ومثلما يقول سياسيون ومراقبون، انه لو توافرت مساحات تفاهم وتفهم مماثلة بين العراق واطراف عربية مثل المملكة العربية السعودية وغيرها، لما واجه العراق مشاكل وأزمات سياسية وأمنية كثيرة خلال العقد الماضي، ولما بقيت تلك الاطراف بعيدة عنه ومتوجسه منه.

في الثاني من شهر اذار/مارس من العام 2008 زار الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد العراق، ومثلت تلك الزيارة في حينه نقطة تحول وانعطافة كبرى في مسيرة العلاقات بين البلدين، ورسالة بليغة موجهة الى اطراف مختلفة. فقد كان نجاد اول زعيم في المنطقة بهذا المستوى يزور العراق بعد سقوط نظام صدام، وكان أول رئيس دولة في العالم يزور العراق وفق السياقات المتعارف عليها، من حيث الاعلان المسبق عن الزيارة وكثافة وتعدد فقرات برنامجها، وامتدادها لعدة ايام، وكانت بعض وسائل الاعلام العراقية قد قارنت بين زيارة نجاد العلنية والزيارات السرية والخاطفة والمفاجئة التي يقوم بها الرئيس الاميركي وزعماء وسياسيون غربيون اخرون للعراق.

وحتى النقاط الخلافية والقضايا العالقة بين بغداد وطهران من قبيل ترسيم الحدود والتعويضات والديون بقيت تحت السيطرة، ولم تفض الى نشوب أزمات واندلاع مشاكل يصعب احتواؤها والتغلب عليها.

وطبيعي ان امكانية التفاهم لحل ومعالجة واحتواء الأزمات والمشاكل الثنائية، وتحديد الاولويات بطريقة عقلانية هادئة، والتوجه الجاد لاغلاق ملفات الماضي وفك الصراعات الدامية والحروب الكارثية، يعد منطلقا جيداً ومناسباً للإتفاق والتوافق على قضايا وملفات أكثر اتساعا وشمولية وحساسية وخطورة وأهمية، مثل الأزمة السورية.

وحتى الضغوط الخارجية التي يتعرض لها الجانبان لتغيير مواقفهما تبدو موضع تفهم متبادل، من أجل قطع الطريق أمام الاخرين لإحداث اية فتنة، وحادثة قيام الجهات العراقية المختصة بتفتيش احدى الطائرات الايرانية المتوجهة الى سوريا قبل أكثر من اسبوعين، لم تقابل بردود فعل ايرانية سلبية، لأن طهران لا تريد ان تسبب احراجات لبغداد، وفي ذات الوقت هي تدرك ان عملية التفتيش لا يمكن ان تكشف ما يشكل ادانة لها.

ويخطئ من يعتقد ان الرئيس الايراني أحمدي نجاد أو اي مسؤول ايراني كبير يأتي الى بغداد من دون ان تكون الأزمة السورية على رأس اجندة زيارته، مثلما هي الحال حينما يذهب الساسة والمسؤولون العراقيون الى طهران.

والمبادرة العراقية التي طرحها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على هامش المؤتمر السادس عشر لقمة دول عدم الانحياز التي عقدت في طهران نهاية شهر اب/ اغسطس الماضي، لم تكن بعيدة عن مجمل الرؤى والتصورات والاطروحات الايرانية لحل الازمة.

المسارات الصحيحة لبغداد وطهران

والجولات المكوكية التي قام بها مؤخراً المبعوث الدولي والعربي لحل الأزمة السورية الاخضر الابراهيمي الى كل من دمشق وطهران وبغداد وانقرة وعواصم اخرى، وطبيعة المقترحات المطروحة للخروج من المأزق، بدت قريبة الى حد كبير من اطروحات وتصورات الفريق الداعي الى الحل السلمي بأقل قدر من الخسائر والاستحقاقات المترتبة على سوريا بالدرجة الاساس، وعموم المنطقة.

وعملية الدفع باتجاه الحل السلمي تبدو مهمة وضرورية جدا في هذا الوقت بالذات، والاطراف الفاعلة والمتحركة والمنسجمة في هذا الاتجاه هي من تمتلك القدرة على ترجيح كفة الحل السلمي على كفة خيار الذهاب الى المجهول.

واذا كانت الشهور الماضية من عمر الأزمة السورية وما حفلت به من مآسٍ وكوارث بشرية ومادية قد اثبتت عقم ما تسعى اليه اطراف التصعيد والتأزيم، فإنه يصبح لزاما الآن البحث في الخيارات والحلول البديلة، فصياغة معادلات وتوازنات ورسم خرائط جديدة للمنطقة حدودها طائفية ـ مذهبية وأدواتها عسكرية، لن تقتصر في نتائجها ومعطياتها على محاصرة وإضعاف وتهميش هذا الطرف او ذاك فحسب، بل انها ستمتد الى ما هو ابعد وأشمل، وقد يكون من المفيد هنا استحضار تجرية الولايات المتحدة الاميركية ومعها السعودية وباكستان في مواجهة المد السوفياتي ـ الشيوعي قبل اكثر من ثلاثين عاما، تلك التجربة التي انتجت تنظيم القاعدة، حيث نرى ان مفصلا من مفاصله اليوم يتحرك في سوريا وأماكن اخرى ويحظى بدعم واشنطن والرياض والدوحة.
بغداد وطهران تعرفان حقيقة المسارات التي يراد إرغامهما على التحرك فيها، وتدركان المسارات الصحيحة والصائبة بالنسبة لهما.

2012-10-23