ارشيف من :آراء وتحليلات

الانتخابات الرئاسية الاميركية تاريخياً: لا تنافس حقيقي بين الحزبين

الانتخابات الرئاسية الاميركية تاريخياً: لا تنافس حقيقي بين الحزبين

ان السمة المميزة لجميع الانتخابات الاميركية هي انها انتخبات بدون تنافس حقيقي. فأي من الطرفين ( ما يسمى حزبين رئيسيين: الدمقراطي والجمهوري) يفوز في الانتخابات، فهو سينفذ السياسة العامة ذاتها، داخليا وخارجيا.

منذ سنة 1820 (وهي اول سنة جرت فيها في الولايات المتحدة الاميركية انتخابات بدون تنافس حقيقي) ففي غالبية الانتخابات الرئاسية كانت نتائج التصويت للمرشحين متقاربة جدا.

واكبر عدد اصوات نالها رئيس في التاريخ الاميركي كان ما ناله الرئيس ليندون جونسون سنة 1964 الذي نال 61،5% من اصوات الناخبين. وقد نال اكثر من 60% ثلاثة رؤساء اخرين هم: وورن هاردينغ سنة 1920، وفرانكلين روزفلت سنة 1936، وريتشارد نيكسون سنة 1972.

وفي تسع حملات انتخابية رئاسية نال الفائزون ما يتراوح بين 55% الى 60%، وهم: أندريو جاكسون، ابراهام لينكولن، يوليسيس غرانت، تيودور روزفلت، هيربيرت هوفر، فرانكلين روزفلت، دوايت ايزنهاور و رونالد ريغان. وفقط ايزنهاور نجح في الحصول مرتين على اكثر من 55% من الاصوات.

والمرشحون الفائزون الذين حصلوا على اقل من 50% من الاصوات يبلغ عددهم 18، ومن بينهم لينكولن ـ في انتخاباته الاولى، ووودرو ويلسون في انتخاباته الاولى والثانية، وهاري ترومان، وجون كينيدي، ونيكسون في انتخاباته الاولى، وبيل كلينتون في انتخاباته الاولى والثانية.

منذ 1824 حتى سنة 2008 جرت 29 معركة انتخابات رئاسية، وقد حصل الفائزون في 13 منها على اكثر من 55% من الأصوات. ولكن لم يحصل اي من الفائزين على اكثر من 61% من الاصوات. وفي الـ16 انتخابات الاخرى حصل الفائزون على ما يتراوح بين 50% و55% من الاصوات. وفي عدة حالات حصل الفائز بالكاد على 50% من الاصوات.

وهذا يعني ان حوالى نصف الناخبين في الولايات المتحدة الاميركية كانوا على الدوام يصوتون لغير الفائز. ويعني ان الانقسام في الولايات المتحدة الاميركية هو فقط انقسام انتخابي، ولكن الرؤساء كانوا على الأغلب يمثلون الاقلية من الناخبين المسجلين. ومن الملفت ان ثلاثة من الرؤساء الذين نالوا اكثر من 60% من الأصوات قد تمتعوا بسمعة سيئة، وهم هاردينغ، جونسون ونيكسون.

ويمكن ان نستخلص من ذلك ثلاثة استنتاجات:

اولا ـ طوال 200 سنة تقريبا، إن العملية الانتخابية كانت سببا لانقسام انتخابي شكلي، ولكن هذا الانقسام لم يتجاوز ابدا نسبة 60:40%، وفي اغلب المناسبات كانت النسبة مناصفة تقريبا.

ثانيا ـ حينما كانت الاحزاب الاخرى (غير الدمقراطي والجمهوري) تمارس تأثيرا ملحوظا في الانتخابات، فإن الفائزين حصلوا 5 مرات على نسبة 45% فقط من الاصوات او اقل.

ثالثا ـ في 26 انتخابات رئاسية اميركية فإن الفائزين كانوا يحصلون على اقل من 52% من الاصوات.

في جميع الانتخابات الاميركية، وبالرغم من عدم وجود منافسة حقيقية، فإن نسبة 40% وأكثر من الناخبين كانت دوما تصوت ضد الرئيس الفائز. أي انه حتى اكثر الرؤساء شعبية فإن مثل هذه النسبة الكبيرة صوتت ضدهم. في حين ان المعارضة كانت تحصل دوما على اكثر من 40% من اصوات الناخبين.

وهذا امر  مذهل. فحتى في اثناء الازمات، او حينما يكون على رأس السلطة رئيس ضعيف، فإن اي رئيس لم يحصل يوما على اكثر من 60% من الاصوات.

ان المعارضة كانت تحوز على نسبة تتراوح بين 40% و 50% من الاصوات. وهذا الوضع هو مستمر منذ حوالى 200 سنة. وباستثناء انتخابات 1860 فإن الفارق في نسبة الاصوات لم يكن ليؤدي الى تهديد اسس النظام. وبالعكس فإن النظام ( وباستثناء سنة 1860 ) كان يتوطد ويزداد ازدهارا بمعزل عن الفروقات في نسبة الاصوات.   

لماذا تنقسم الولايات المتحدة الاميركية بهذه الحدة؟ ولماذا لا تؤدي الخلافات الحادة الى اضطرابات، حتى لا نتحدث عن تغيير النظام؟

الانتخابات الرئاسية الاميركية تاريخياً: لا تنافس حقيقي بين الحزبين

لننظر في هذه المفارقة الظاهرية من خلال واقعة اخرى: ان عددا كبيرا من الناخبين لا يدلون باصواتهم. وعادة توصف هذه الظاهرة بأنها دليل على  انخفاض مستوى الضمير المدني او الاجتماعي. ولكن لننظر الى ذلك بطريقة اخرى.

اولا لننظر في هذه الواقعة من وجهة النظر البراغماتية: ان الولايات المتحدة الاميركية هي احد البلدان القليلة حيث تجري الانتخابات الرئاسية ليس في يوم عطلة، بل في يوم عمل. وهذا يعني ان الناس يكونون في اشغالهم او يكونون مضطرين للاهتمام باولادهم لارسالهم الى المدرسة، ولاعادتهم من المدرسة في ساعات زحمة السير، وكذلك عليهم تحضير وجبة الطعام، وتناول الغداء او العشاء. ولهذا نرى نسبة المقترعين من المتقاعدين هي اكبر بكثير من نسبة الاشخاص في سن العمل.

ان النسبة المنخفضة للمقترعين يمكن اعتبارها دليلا على انخفاض شعبية النظام والتغرب عنه. ولكن التغرب عن النظام كان من المفروض ان يستثير اكثر الاضطرابات واعمال الفوضى خلال المائتي سنة الماضية. حينما كان هناك تغرب حقيقي عن النظام واستياء حقيقي كما حدث سنة 1860، فإن عدد المقترعين انخفض كثيرا، وبعد الانتخابات وقعت اعمال عنف. واذا استثنينا هذه الحالة، فإن الاضطرابات كانت تقع ليس في ارتباط مباشر مع الانتخابات.

وفي رأي الكثير من الخبراء، فإن النسبة المنخفضة للمقترعين تدل على اللامبالاة، أكثر مما تدل على التغرب عن النظام والاستياء. فبالنسبة للكثير من الناس فإن المشاركة في التصويت ليست من الاهمية كما هو مثلا الذهاب لاخذ الاولاد من المدرسة.

ويمكن ان يعكس الامتناع عن الاقتراع الاعجاب بكلا المرشحين معا. فالكثير من الناخبين يرون انه لا يوجد فروقات بين اطروحات كلا المرشحين ولذلك لا يهم، في نظرهم، من منهما سيكسب.

وهناك من يعتبر أنه لا اهمية للانتخابات ونتائجها على السياسة العامة للبلاد. وان تركيبة النظام هي مبنية على اساس انه ايا من كان الفائز فإن سياسة البلاد تبقى هي ذاتها. والنظام الدستوري يجعل الرئيس شخصية ضعيفة جدا.

في اميركا كان على الدوام يوجد ايديولوجيون ينظرون الى الاحزاب السياسية بوصفها آليات للتعبير عن وجهات النظر الايديولوجية واعادة بناء البلاد.

في المرات الاربع التي نال فيها الرؤساء اكثر من 60% من الاصوات كان يوجد الكثير من الايديولوجيين، وفي كل هذه المرات كانت البلاد تمر بأزمة. جونسون جاء الى السلطة في 1964 بعد اغتيال جون كينيدي، وانتصر على المرشح الآخر المؤدلج جدا باري غولدووتر. وروزفلت حطم ألف لاندن ابان استعار ازمة الركود الكبرى في 1929 ـ 1933. ونيكسون جاء الى السلطة منتصرا على  جورج ماكغوفرن ذي المواقف الايديولوجية ضد الحرب في فيتنام. ووورن هاردينغ انتصر بعد الحرب العالمية الاولى على خلفية الصراع ضد ادارة ويلسون وايديولوجيته.

الانتخابات الرئاسية الاميركية تاريخياً: لا تنافس حقيقي بين الحزبين

ان الازمات كانت في العادة تولد اشكالا متطرفة من الموقف العدائي من ايديولوجيا الخصم، وتخلق تحالفا يستطيع ان يجمع حوالى 60% من الاصوات. ولكن دائما كان هناك 40% من المعارضة للاكثرية.

وهنا نصل الى نقطة مفصلية: ان 40% من الناخبين (في كلا المعسكرين) هم كتلة ثابتة لأحد الحزبين، و20% هي كتلة مترجرجة، اما تنحاز لاحد الحزبين  واما تنقسم فيما بينهما بنسب مختلفة. وفي الحقيقة فايا كانت النتائج فإن الانتخابات ليست نقطة تحول في السياسة العامة للبلاد، ولا يجري تذكرها بخصوصية معينة.

ان واقع ان حوالى 50% من المجتمع الاميركي لا يشارك في الانتخابات او يشارك بشكل مترجرج، يدل على الموقف من الانتخابات. وبعض الايديولوجيين والمتحزبين يعتبرون هؤلاء الناس بأنهم اغبياء او سطحيين. ولكن في الواقع فإن هؤلاء الناس يدركون ان الانتخابات ليست لها الأهمية المرجوة، كما يوحي الايديولوجيون والسياسيون ووسائل الاعلام. ولهذا يفضلون البقاء في بيوتهم.

ان الرؤساء في الولايات المتحدة الاميركية ينتخبون في الغالب بفارق بسيط من الاصوات، وما يحصلون عليه هو دائما الاقلية مقابل الاكثرية المشكلة من الطرف الخاسر وغير المشاركين في الانتخابات.  
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
2012-11-08