ارشيف من :آراء وتحليلات

تجريم التطبيع في الدستور التونسي الجديد: بين مطالبات المجتمع المدني ومناورات الحزب الحاكم

تجريم التطبيع في الدستور التونسي الجديد: بين مطالبات المجتمع المدني ومناورات الحزب الحاكم

تشهد تونس في الآونة الأخيرة جدلا ً كبيراً بشأن جعل تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني قاعدة دستورية لها علويتها على باقي القوانين الوضعية وتستمدها من علوية الدستور على هذه القوانين وعلى الاتفاقيات الدولية في الهرم التشريعي.

وقد باتت هذه المسألة حديث وسائل الإعلام والمنابر السياسية وغطت على المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس في الآونة الأخيرة ومن أهمها مماطلة الفريق الحاكم في تحديد خارطة طريق تتعلق بالمواعيد السياسية المقبلة وعلى رأسها الانتخابات والغلاء الفاحش جداً إلى حد المبالغة في أسعار المواد الاستهلاكية ما ينذر بالقضاء على الطبقة الوسطى التي كانت مصدر قوة الاقتصاد التونسي.

إجماع

وتجمع أغلب الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية في تونس على تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني في الدستور الجديد، وبناء على هذه القاعدة الدستورية سن قوانين تحدد أفعال التطبيع بالتدقيق أي الركن المادي للجريمة والعقوبات الزجرية الرادعة لكل مطبع مع المحتل الإسرائيلي الذي يهوّد القدس ويعتدي على المقدسات الإسلامية في المدينة المقدسة. وحتى الجهات التي لا ترغب في هذا التجريم، فقد التزمت الصمت ويبدو أن لا جرأة لديها لابداء رأيها في هذا المناخ الثوري الذي يرغب في القطع تماماً مع إرث الماضي والانتصار لقضايا العروبة والإسلام ولحركات المقاومة والتحرر في العالم العربي ولخط الممانعة لمشاريع الهيمنة على المنطقة.

تجريم التطبيع في الدستور التونسي الجديد: بين مطالبات المجتمع المدني ومناورات الحزب الحاكم

فالنظام التونسي السابق وإن لم يعترف رسمياً بـ"إسرائيل" ولم يقم علاقات ديبلوماسية معها، إلا أنه وخلال الفترة اللاحقة لمفاوضات "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" قام بفتح مكتب للاتصال مع الكيان الصهيوني في تونس، بحجة أن تونس هي دولة المقر لمنظمة التحرير الفلسطينية والعرب في مرحلة تفاوضية وبحاجة إلى هذا المكتب للدفع باتجاه الحل في هذه القضية. لكن التبريرات لم تقنع الرأي العام التونسي الذي ضغط لغلق هذا المكتب وهو ما تم سنة 2002 بالتزامن مع انعقاد القمة العربية ومع اندلاع انتفاضة جديدة في الأراضي الفلسطينية.


إرضاء أمريكا

وترغب حركة النهضة الحاكمة بدورها في تجريم التطبيع في الدستور وفقاً لتصريحات صادرة عن مسؤوليها في أكثر من مرة، ولكنها غير قادرة على ذلك خوفاً من "بطش" "حليفها" الأمريكي الذي لا ترغب في إغضابه بحسب كثير من المراقبين خصوصاً بعد حادثة إحراق السفارة الأمريكية في تونس على خلفية الفيلم المسيء للرسول (ص) والتي جعلت العلاقات بين الحركة وواشنطن تشهد بعض التوتر.

لذلك وبحسب هؤلاء المراقبين فإن جنوح حركة النهضة إلى رفض تجريم التطبيع في الدستور الجديد يأتي في إطار تنازلات قدمتها للجانب الأمريكي إرضاء له حتى لا يوقف دعمه للحركة. ومن بين التنازلات الأخرى المقدمة القبول بالتحقيق مع تونسيين متورطين في قضايا "إرهابية" من قبل الشرطة الفدرالية الأمريكية "الإف بي آي" على الأراضي التونسية في تجاوز صارخ لمفهوم السيادة خاصة وأن الأمر يحصل في تونس للمرة الأولى بعد استقلال البلاد عن فرنسا وبعد الإطاحة بالملكية وإقرار النظام الجمهوري.

تبريرات

ونتيجة لذلك تلقى حركة النهضة انتقادات واسعة من قبل أحزاب المعارضة وخصوصاً الأحزاب القومية ومن قبل عديد المنظمات الأهلية الناشطة في المجتمع المدني ووصل الأمر بالبعض إلى اتهام تيار الإخوان المسلمين برمته بالعمالة للغرب وبالسعي لإرضاء الجانب الأمريكي سواء في تونس أم في مصر. إذ كان يعتقد وإلى وقت غير بعيد أن تجريم التطبيع في الدستور الجديد متفق عليه من قبل السواد الأعظم من التونسيين ولم يكن يتصور أن يأتي الرفض من قبل حركة النهضة.
تجريم التطبيع في الدستور التونسي الجديد: بين مطالبات المجتمع المدني ومناورات الحزب الحاكم

قيادات النهضة ساقت عدة تبريرات لهذا الرفض لكنها لم تتمكن من إقناع الرأي العام التونسي وخصوصاً الجهات المنادية بتجريم التطبيع. ومن بين هذه التبريرات تلك التي قدمها السيد الصحبي عتيق رئيس كتلة الحركة داخل المجلس التأسيسي الذي اعتبر أن حزبه رفض تجريم التطبيع بناء على نصيحة قدمها زعيم حركة حماس إسماعيل هنية أثناء زيارته لتونس مفادها أنه لا فائدة من تجريم التطبيع في الدستور وهو ما نفاه إسماعيل هنية لاحقاً لتجد النهضة نفسها في حرج كبير وتعتبر أنه حصل سوء فهم لما قاله إسماعيل هنية.

مؤتمر دولي

وقد اعتبر المنتقدون للحركة أنه على فرض أن هنية قد نصح بالفعل حركة النهضة بالعدول عن تجريم التطبيع مع "إسرائيل" في الدستور فهل باتت القدس شأن إسماعيل هنية وحده ولم تعد تعني ملياري مسلم منتشرين في شتى أصقاع المعمورة؟ وهل بات الشأن الفلسطيني في نظر حركة النهضة تحت وصاية فصيل فلسطيني دون الباقين؟ وعلى فرض ذلك فهل أن إسرائيل تحتل فقط أراضيَ فلسطينية حتى يبرر الفلسطينيون دون سواهم للتونسيين عدم تجريم التطبيع مع إسرائيل؟

ويشار إلى أن تونس شهدت تنظيم مؤتمر دولي حول الأسرى الفلسطينيين خلال اليومين الماضيين قاطعته السلطة الفلسطينية وشهد حضوراً عربياً لافتاً وقام بافتتاح اعماله رئيس الجمهورية محمد المنصف المرزوقي، وأكد البعض على أنه يدخل في إطار التغطية على رفض تجريم التطبيع ولظهور حكام تونس الجدد بمظهر المدافعين عن القضايا القومية.
2012-11-13