ارشيف من :آراء وتحليلات
الاقليم والمركز والذهاب الى حافة الهاوية
بغداد ـ عادل الجبوري
اذا كانت مفردة الحرب قد ظلت غائبة طيلة شهور وأعوام في حمى السجالات والمناكفات والمعارك الكلامية بمختلف المستويات بين الحكومة الاتحادية في العاصمة العراقية بغداد وإقليم كردستان، فإنها الآن ربما باتت من بين اكثر المفردات تداولاً في كواليس السياسة وفي الميدان وفي اوساط الشارع الكردي ومعه الشارع العراقي عموماً، لا سيما في المناطق المتنازع عليها الممتدة من اربيل مروراً بالموصل وكركوك وديالى وانتهاءً بالكوت.
هل ستندلع الحرب فعلاً بين الاكراد والحكومة؟ اي بعبارة اخرى هل من الممكن ان تتكرر مشاهد الصراع الدموي الذي حفلت به المنطقة عقوداً من الزمن؟.. وهل هناك ما يبرر اللجوء الى السلاح في ظل نظام ديمقراطي يحكمه الدستور وتحدد مساراته صناديق الاقتراع؟.. ومن سوف يربح ومن سوف يخسر من صراع كهذا؟...
هذه التساؤلات وغيرها راحت تطرح نفسها بقوة في خضم اجواء التشنج والاحتقان والتهيؤ والاستعداد المشوب بالخوف والقلق. ومع انحسار فرص وامكانيات حل واحتواء قائمة طويلة من المشاكل والازمات بين بغداد واربيل تراكمت خلال الاعوام العشرة الماضية ـ علماً ان بعض جذورها يعود الى عهد النظام السابق ـ فإن الحديث عن الخيارات السيئة، وكيفية مواجهتها وتجنبها بات الشغل الشاغل للأطراف التي ترى ان اللجوء الى منطق القوة من شأنه ان يأتي على التجربة الديمقراطية الحديثة العهد ويفتح الباب واسعاً لمسلسل دموي جديد من الصعب التنبؤ بحدوده ومدياته ومعطياته.
النقطة المهمة في التداعيات الاخيرة هي ان الصراع الذي كان محصوراً بين "ائتلاف دولة القانون" بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي من جهة، و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني من جهة اخرى، اتسع نطاقه وراح يتخذ صيغة الصراع الكردي ـ العربي، بعد توحد مواقف كل من حزبي البارزاني والطالباني ومعهما القوى الكردية الاخرى، وبعد ظهور أصوات عربية مؤيدة وداعمة لتصعيد الموقف من قبل المالكي ضد الاكراد.
|
الخلاف لم يعد محصورا بين المالكي والرازاني |
هذا التحول يعني فيما يعنيه اختلاط الاوراق بدرجة اكبر وتعقد سبل ومسارات الحل، واتساع الهوة بين الفرقاء الى حد كبير. ومن الخطأ ان يدعي اي طرف ان ما يحصل حالياً من تداعيات يعد امراً مفاجئاً وغير متوقع، إذ ان مؤشرات تصاعد الأزمة لاحت في الأفق منذ شهر شباط/فبراير حينما فتح الاقليم ابوابه لنائب رئيس الجمهورية المطلوب قضائياً طارق الهاشمي، وهي خطوة اعتبرها المالكي استفزازية الى حد كبير، في الوقت الذي تساءل الاكراد قائلين "ومن سمح للهاشمي بمغادرة بغداد في وضح النهار؟".
وبعد قضية الهاشمي ظهرت قضايا اخرى من قبيل العقود النفطية التي ابرمها الاقليم مع عدة شركات نقط اجنبية من بينها شركة "اكسون موبيل" الاميركية العملاقة، ومن ثم اقدام الاكراد على تشكيل مجلس وطني للاقليم، وتقوية وتعزيز العلاقات مع تركيا في الوقت الذي وصلت العلاقات بين انقرة وبغداد الى اسوأ مستوياتها، وبعد ذلك قيام الحكومة بتحريك قطعات عسكرية باتجاه الحدود العراقية ـ السورية في مناطق محاذية لاقليم كردستان، وهو ما اعتبره الاكراد اجراءً موجهاً ضدهم، الامر الذي دفعهم الى تحريك تشكيلات من قوات البيشمركة الكردية لمنع القطعات التابعة للجيش العراقي من اتخاذ مواقع "حساسة واستفزازية" لهم.
وفي خضم تلك القضايا كان التلاسن الكلامي على أشده، فعلى صعيد مجلس النواب، برز نواب من ائتلاف دولة القانون مثل ياسين مجيد وعلي الشلاه وغيرهما يتهجمون على الاكراد وبالتحديد على رئيس الاقليم مسعود البارزاني، وفي الجانب الاخر تصدى لهم نواب من التحالف الكردستاني مثل فرهاد الاتروشي وخالد شواني واخرين غيرهما، بل واكثر من ذلك دخل كل من البارزاني والمالكي على خط المهاترات الكلامية الحادة، ناهيك عما كان ينشر في وسائل اعلام محسوبة على الطرفين ضد بعضهما البعض من سيناريوهات تسقيطية فضائحية.
وهكذا كان الخط البياني للأزمة يتصاعد بوتائر سريعة، حتى انه لم يعد هناك من يأمل بحدوث انفراج حقيقي للأزمة. ولا يمكن اليوم القول بأي حال من الاحوال ان جوهر الازمة يتمثل بتشكيل قيادة عمليات دجلة في المناطق المتنازع عليها وايكال قيادتها الى شخص ـ هو اللواء الركن عبد الامير الزيدي ـ يقال انه شارك في حملات الانفال ضد الاكراد اواخر الثمانينيات وانه مشمول بإجراءات المساءلة والعدالة، بل ان تشكيل قيادة عمليات دجلة ربما كان بمثابة القشة التي قصمت ـ او ستقصم عن قريب ـ ظهر البعير.
وبينما يتحدث اصحاب الشأن والقرار وفي مقدمتهم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي عن ان وجود قيادة العمليات المذكورة امر مهم جداً لمواجهة التمدد الكردي، وكبح جماح المطامح والمطامع الكردية بالتوسع والاستحواذ على كركوك ومناطق اخرى متنازع عليها، وصفها رئيس حكومة الاقليم نيجرفان البارزاني مؤخراً بـ"المناطق المستقطعة من الاقليم"، وانه يأتي في سياق الدستور وضمن صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة والحكومة الاتحادية، فإن الاكراد يرون في تلك الاجراءات عودة وتكراراً للاساليب التي كان يتبعها النظام السابق في العراق بحقهم، ويؤكدون انهم لن يتنازلوا ولن يخضعوا، والبيان الذي اصدره رئيس الاقليم قبل ايام قلائل ودعا فيه الاكراد الى التهيؤ والاستعداد للدفاع عن الاقليم مثّل اشارة واضحة الى واحد من اخطر الخيارات، يضاف الى ذلك اشارة اخرى تعززها، وهي تحشيد اعداد كبيرة من قوات حرس الاقليم والبيشمركة على طول نقاط التماس في المناطق المتنازع عليها، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني واحزاب كردية اخرى.
وفي الجانب الاخر فإن مشهد الاستفزاز والتعبئة والتحشيد ـ كلامياً وميدانياً ـ لم يكن يختلف كثيراً، فقد صدرت عن بغداد تحذيرات شديدة اللهجة للقوات الكردية من مغبة التعرض لقوات الجيش التابع للحكومة الاتحادية، وتم تحريك قطعات عسكرية عديدة في مناطق التماس، رافقها تحركات واتصالات مع مكونات عربية معارضة للوجود والنفوذ الكردي في كركوك ومدن ومناطق اخرى كالموصل وطوزخورماتو وكلار وخانقين.
وسواء كان التصعيد بسبب سوء فهم ام سوء تقدير لطبيعة وحساسية الموقف فإن النتائج ستكون واحدة في حال لم يتم احتواء الامور والسيطرة عليها من قبل الطرفين. ولا شك ان الطرفين يدركان تبعات التصعيد والتأزيم، ولكن في ذات الوقت يفرض انعدام الثقة وتراكم المشاكل والازمات بينهما انسياقاً وراء سياسة ليّ الاذرع وفرض الامر الواقع من دون ادراك ان هذا الانسياق يدفع بالجميع الى حافة الهاوية، وهذا الاتجاه في حال اوصل الى خيار استخدام القوة، او الى تدخل قوى واطراف خارجية، او في افضل الاحوال بقاء الامور على ما هي عليه الان، فإنه لا يعني نزعاً لفتيل الأزمة بالمطلق او انتهاءها بطريقة ما.
ورغم تعقد الامور وتأزمها الى حد كبير وسير طرفي النزاع الى حافة الهاوية، فإن خيار اللجوء الى القوة العسكرية على نطاق واسع ما زال بعيداً نوعاً ما، لكن ما هو غير بعيد انسداد الافق السياسي بدرجة اكبر وتراكم ملفات التقاطع والخلاف، فالمادة 140 ستبقى معلقة، ومشروع قانون ترسيم الحدود الادارية بين المحافظات لن يجد السبيل للتشريع، واقرار الموازنة سيتلكأ طويلاً، ومن ثم اتساع الهوة الى مستوى يكون فيه من الصعب بمكان جمع الفرقاء تحت سقف واحد او حول طاولة واحدة، وكل ذلك لا بد ان يلقي بظلاله على اهم وأخطر ملفين وهما الامن والخدمات.