ارشيف من :آراء وتحليلات
انتصار المقاومة في غزة وحقيقة الصراع في المنطقة
يمكن تصور مجموعة كبيرة من الأهداف للعدوان الاسرائيلي على غزة منها ما هو معلن، ومنها ما هو مسكوت عنه لكن يمكن استخلاصه من السياق الذي اتخذه العدوان، والأهداف الميدانية التي ركز عليها، ومنها ما يمكن استخلاصه من مجموع ما أنتجه العدوان ويمكن ان يدخل في حساباته الاستراتيجية أو التكتيكية المباشرة والمحددة سلفاً، أو لم يكن في الحسبان ثم جرى ادخاله في ما بعد.
المعلن من الأهداف هو:
أ ـ اعادة تثبيت قدرة الردع لديه التي بدا أنها اهتزت بقوة مؤخراً.
ب ـ توفير الحماية الأمنية للمستوطنات الاسرائيلية الغربية من غزة، والمنتشرة عموماً في ما يعرف اصطلاحاً في غلاف غزة.
أما غير المعلن ويمكن استنتاجه بسهولة، فهو:
أ ـ توجيه ضربة استراتيجية للقدرات الصاروخية لفصائل المقاومة إما من خلال استهدافها مباشرة، وإما من خلال عملية استنزاف لها.
ب ـ تدمير أكبر قدر ممكن من مقرات السلطة الحمساوية بما يعيق أداءها، ويضع في وجهها العديد من المشاكل الإدارية واللوجستية، ويدفعها الى حالة الغرق في معالجتها.
ج ـ تكبير حجم الضغوط الحياتية والمعيشية في وجه سلطة حماس من جهة، وعلى الناس من جهة أخرى لتوليد المزيد من التوترات الاجتماعية التي هي في الأصل صعبة ومعقدة.
الخلاصة الرئيسية لهذه الأهداف تتمثل في فرض اولويات مختلفة سواء بالنسبة لسلطة حماس، أم بالنسبة للناس، بحيث تصبح أولى الأولويات هي في معالجة المشاكل الداخلية الخاصة بالسلطة كسلطة، والخاصة بحياة الناس الاقتصادية والمعيشية والحياتية بما يجعل الواقع الغزاوي يحاكي واقع الانتفاضات العربية ذات الأولويات المحض داخلية، وذلك على حساب اولوية المواجهة مع العدو الاسرائيلي، وبالتالي على حساب أولوية قضية الصراع مع هذا العدو، والنتيجة المباشرة لهذا كله هي تراجع أولوية المقاومة لمصلحة الأولويات الآنفة الذكر.
من الواضح، أن هذه النتائج ذات الأبعاد الاستراتيجية لا تقف على ما يريده الاسرائيلي، وإنما تقف على الأسلوب والطريقة اللتين ستتعاملان وفقهما فصائل المقاومة مع هذه الأهداف.
وما يزيد من تعقيدات حسابات فصائل المقاومة مجموعة من الحقائق أبرزها:
أولاً: إن هذا الهدف الاسرائيلي يتطابق تماماً مع تحالف قوى التسوية في المنطقة، والتي تبذل جهوداً كبيرة، وتنفق كل ما تحت يديها من امكانيات لأجل ايصال الأمور الى هذه النقطة. هنا، الكلام الذي رشح عن زيارة أمير قطر الأخيرة الى غزة بالغ الدلالة، حيث أعلن الأمور كما هي: خذوا ما شئتم من الأموال لإعمار غزة، مقابل التخلي عن خيار المقاومة عبر القطيعة مع ايران وحزب الله، باعتبار أن قطيعة عملية ـ للأسف ـ تحققت مع سوريا، الدور القطري والسعودي والتركي في سوريا هو لانجاز الهدف عينه بعدما فشلت كل الاغراءات في حمل الرئيس الأسد على التخلي عن خيار الممانعة، وفك تحالفه الاستراتيجي مع ايران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية.
ما يحدث في سوريا هو المعادلة التي يراد تعميمها ـ كما يبدو ـ حيث توجد خيارات مقاومة: إما الانحياز الى الخيار الاسرائيلي ـ الاميركي، بمعنى قبول صك الاستسلام للعدو كأمر واقع والتخفف نهائياً من عبء القضية الفلسطينية، وقضية الصراع مع العدو الاسرائيلي لمصلحة أولوية الصراع مع ايران كقاعدة مركزية واستراتيجية لخيار المقاومة للمشروع الاميركي ـ الصهيوني في المنطقة.
ثانياً: ان هذا الهدف الاسرائيلي يعمل على فرضه كأمر واقع على الانتفاضات العربية، خصوصاً تلك التي سجلت صعوداً مهماً للحركات الاسلامية، وفي طليعتها حركة الاخوان من خلال تحويل القضايا الداخلية الى اولويات مطلقة، موظفين في ذلك الاعتبارات نفسها، اي الاعتبارات الاقتصادية والمعيشية والسلطوية.
اضافة الى القيود الموروثة من الحكم الساداتي الأسبق والمتمثلة على نحو رئيسي بقيود اتفاقيات التسوية، اي اتفاقيات كامب ـ ديفيد، فما يهم حلف التسوية في المنطقة ليس من يتولى شؤون الأمور في هذا البلد أو ذاك، وإنما أن تبقى هذه البلدان، وفي طليعتها مصر مع هذا الحلف موضوعياً، ولا سيما أنها الدولة الاقليمية المركزية الأولى في العالم العربي التي ذهبت هذا المنحى رسمياً وعملياً.
ثالثاً: ان هذا الهدف تحديداً هو ما يوجه الانقسام السياسي في لبنان، بمعنى أنه بالرغم من كل عمليات تشويه حقيقة الصراع في لبنان، ومحاولة تمويهه بعناوين فريقه لانتاج وعي سياسي زائف لدى قسم رئيسي من الرأي العام اللبناني والعربي عموماً حول حقيقة ما يجري، فالصراع في لبنان منذ عام 2000 وهو يتمحور بين خيار التسوية مع الكيان الاسرائيلي، وخيار مقاومة هذا الكيان، وليست كل محاولات تشويه صورة المقاومة واسقاط مكانتها، وضرب سلاحها بصورة مباشرة، أم من خلال تكتيفه بقيود ظاهرها رحمة وباطنها نقمة، والأخطر المحاولات الرامية الى مذهبية السلاح موقعاً ووظيفة ودوراً، لوضع العصبية المذهبية حاجزاً بقطع الطريق أمام الفاعلية الاستنهاضية للمقاومة على مدى المنطقة، تحطيم الوعي الزائف الذي يحاول تثبيته كوجه للسياسات والمواقف والانفعالات، في مقابل الوعي الحقيقي المرتبط بالبوصلة الحقيقية الموجهة للامكانات والقدرات ولحركة الشعوب... الخ.
ان الهجمة الشرسة على المقاومة في لبنان هي جزء من هذه الهجمة الاستراتيجية الشاملة التي يقودها حلف الانصياع للمشروع الاميركي ـ الصهيوني في المنطقة الذي يعرف باسم حلف التسوية.
رابعاً: الأمر عينه ينطبق على ايران بذريعة ملفها النووي، فكل الضغوط التي تمارس على ايران، انما تستهدف في العمق دورها المركزي في عملية انهاض مشروع المقاومة ومحورها في المنطقة في مقابل محور الانصياع والاستسلام.
وحتى ما يجري في العراق هو في أحد أبعاده الرئيسية يندرج في السياق نفسه.
استناداً الى ما تقدم، فإن أهم الدروس السياسية للعدوان الاسرائيلي الأخير على غزة تتمثل بالتالي:
أولاً: اعادة الاعتبار لحقيقة الصراع وأولوياته في المنطقة، أي للصراع مع العدو الاسرائيلي الذي سيبقى يمثل التهديد الاستراتيجي الوجودي الأول لكل شعوب المنطقة.
ثانياً: تثبيت وتأكيد المقاومة وسلاحها في معادلة الصراع، وهو تأكيد تجاوز حد اثبات حقانية المقاومة الى حد اثبات جدوانيتها، وقدرتها على انجاز التحولات وصياغة المعادلات الجديدة.
ثالثاً: فرع وعي الشعوب بالدرجة الأولى بحقيقة وطبيعة الصراعات والانقسامات في المنطقة، وتحفيز هذا الوعي على اجراء مراجعة للأولويات، وممارسة نقد لما يدور حوله بما يعيد انتاج وعي حقيقي غير مضلل، وهنا يكمن دور رئيس يقع على عاتق حركات المقاومة والدول الداعمة لها، ويتمثل بنحو رئيسي بإرفاد هذا الوعي بكل الأسلحة اللازمة التي تمكنه من كشف الأضاليل وتمزيق الحجب والأوهام.
رابعاً: فرع وعي الحركات الصاعدة لا سيما الاسلامية منها، والتي باتت اليوم تتحمل مسؤوليات مباشرة في السلطة بضرورة عدم الوقوع في فخ الفصل الاستراتيجي بين مقتضيات معركة الداخل بما هي معركة حرية وعدالة ونهوض وتحرر في العموم، ومعركة التحرر من ربقة المشروع الاميركي ـ الصهيوني في المنطقة المسؤول عن كل أزمات المنطقة، وحراسة تخلفها، وابقائها حيث هي من المراوحة القاتلة.
فكما أخطأت حركات التحرر في الخمسينيات عندما جمدت معركة التحرر الداخلي لمصلحة اولوية الصراع مع العدو، فكان ان انتجت اعتى الديكتاتوريات في الداخل، ولم تحقق نتائج تذكر في حروبها مع المشروع الصهيوني في المنطقة، فعلى قوى التحرر الجديدة ان لا تقع في الخطأ القاتل نفسه.
خامساً: يبقى على قوى المقاومة في المنطقة ان تنتبه الى الأفخاخ المنصوبة لها، والى الأهداف الفعلية التي يراد تحقيقها من قبل حلف التسوية بقيادة المشروع الاميركي ـ الصهيوني في المنطقة، من خلال التأكيد على أولوية المقاومة وتقويتها بكل ما يلزم، وبالتالي أولوية الصراع مع العدو الاسرائيلي، من دون اهمال كل ما يلزم لتقوية الجبهة الداخلية.
وعلى هذه القوى أن تنتبه الى افخاخ الفتن، والاغراءات ومحاولات فصلها بعضها عن البعض الآخر.
سادساً: ثمة نصر حقيقي لاح في غزة، ومهمة كل فصائل المقاومة عدم تضييعه من خلال عدم اعطاء العدو ما يريد اخذه على المستوى الاستراتيجي. ان هزيمة العدو انما تكتمل من خلال منعه من تحقيق ما يصبو اليه من أهداف.