ارشيف من :آراء وتحليلات
"بروفة" في الحرب الإيرانية ـ الإسرائيلية!
عادل الجبوري
أفرزت حرب الايام الثمانية بين الفلسطينين والصهاينة، او ما عرف بحرب غزة، حقائق ومعطيات مهمة للغاية، من الطببيعي ان يكون لها اثر كبير في صياغة معادلات القوة العسكرية بالمنطقة، ورسم المشهد العام فيها.
وحرب غزة اختلفت عن الحروب العربية ـ الاسرائيلية (1948-1956-1967-1973)، فهي حملت اوجه شبه تتقاطع الى حدّ كبير مع الحروب الاسرائيلية على حزب الله.
أوجه الاختلاف تتمثل في أن تلك الحروب من الصنف الاول اسست ـ رغم بعض المكاسب المتحققة فيها ـ لثقافة المساومات والتنازلات والاستسلام، بينما حروب الصنف الثاني اسست لثقافة الرفض والتحدي والمقاومة والانتصار الحقيقي.
واذا كان حزب الله اللبناني هو الوحيد الذي استطاع في اوقات سابقة ان يوجه ضربات نوعية يهز من خلالها المنظومة السياسية والامنية والعسكرية الاسرائيلية، فإن حرب غزة اظهرت لاعبين اخرين يحملون نفس المنهج ويتبنون ذات الاستراتيجية وان كانت هناك اختلافات في بعض التفاصيل والجزئيات.
هذه قد تكون حقيقة إجمالية عامة تنضوي تحت عنوانها الواسع والعريض عدة حقائق، يمكن ان نشير اليها سريعا في هذه السطور، ومنها:
-من دون شك، كشفت حرب الثمانية ايام واقع الكيان الصهيوني ومستوى قدرته وقوته الحقيقية ومكامن ضعفه، وفي ذلك يشير الباحث والسياسي الايراني محمد صادق خرازي الى ان "الحصيلة المنطقية التي افرزها العدوان الاخير علی غزة هي العودة الی العمل الثوري والمقاوم في المنطقة، وهذا العمل تقوده اليوم ايران وحزب الله لبنان، كما ان الكيان الصهيوني وخلال حرب الايام الثمانية ضد غزة عرف بانه في حالة مواصلة عدوانه فإن ذلك سيؤدي الی صحوة التيارات الجهادية في الشرق الاوسط، ومن هنا قبل بشروط التهدئة التي فرضتها المقاومة الفلسطينية.
-وارتباطا بالحقيقة الاولى، فإن انتصار حركة المقاومة الاسلامية "حماس" على الكيان الصهيوني كان في واقع الامر انتصارا لحزب الله وكافة التيارات والفصائل التي تتبنى الخط الثوري المقاوم، فضلا عن كونه اعطى جرعة مهمة جدا للساسة الفلسطينيين، وهو ما دفع الرئيس الفلسطيني الى الاسراع للذهاب الى مقر الامم المتحدة في نيويورك والنجاح باستصدار قرار من الجمعية العامة للامم المتحدة للحصول على صفة دولة عضو مراقب في المنظمة، وهو ما ازعج تل ابيب وواشنطن وعدد من العواصم الدولية الاخرى، وربما عواصم اقليمية وعربية ايضا.
-ان حرب غزة كانت في الواقع "بروفة" صغيرة لحرب ايرانية ـ اسرائيلية اشارت بوضوح الى قوة ايران وقدرتها على ارباك الكيان الصهيوني والوصول الى مراكزه الحساسة ومفاصله الحيوية، واذا كانت صواريخ "فجر 5" الايرانية قد احدثت رعبا وفزعا اسرائيليا كبيرا، فإن هناك اسلحة اخرى قد تكون اكثر تقنية واشد فتكا وتأثيرا بحوزة طهران.
وما ينبغي الاشارة اليه هو ان طهران نجحت خلال فترة زمنية قصيرة لم تتعدّ الاربعة اسابيع في توجيه صفعتين قويتين لتل ابيب، الاولى تمثلت بطائرة الاستطلاع "ايوب" التي اخترقت الاجواء الاسرائيلية وصورت منشآت ومراكز حساسة، وجاءت الصفعة الثانية من خلال حرب غزة وعنوانها الابرز صواريخ "فجر 5".
-صحيح ان الالة العسكرية الاسرائيلية تمكنت من الحاق خسائر بشرية ومادية غير قليلة بالفلسطينيين، بيد ان ذلك لم يفضِ الى نصر عسكري، ناهيك عن كونه كشف عن النزعة الدموية الاجرامية للكيان الصهيوني، ولم يكن بإمكان وسائل الاعلام الغربية ان تعتم على ما جرى، ولا ان تنقل صورا ومشاهد تخفف من بشاعة المشهد تجنبا لاثارة الرأي العام العالمي.
-ان انهيار منظومة "القبة الحديدية" الامنية للكيان الصهيوني اوجد ارتباكا لا حدود له داخل مراكز صناعة القرار السياسي واوساط رسم الاستراتيجيات الامنية والعسكرية في تل ابيب، وذلك الارتباك الذي سعت وما زالت تسعى قوى المعارضة للاستفادة منه وتوظيفه لتحقيق مكاسب سياسية، سيخلف اثارا وخيمة على تل ابيب على المديين المتوسط والبعيد، بصرف النظر عن الحزب الذي يمسك بزمام الامور ويتحكم بمقاليد السلطة.
ولعل وصف "اسرائيل" بـ"القوة العاجزة" بعد صدمة غزة، بدا انه الوصف الاقرب الى الواقع، وفضلا عن كونها باتت مكشوفة للصواريخ الايرانية، فهي اصبحت حائرة في كيفية معالجة الموقف عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا، ولم ينفعها كثيرا الدعم والاسناد السياسي والاعلامي الغربي.
-ربما سببت نتائج حرب غزة الخاطفة صدمة عنيفة لقوى واطراف عربية واقليمية، ترتبط بعلاقات لا بأس بها بحركة حماس انطلاقا من عناوين طائفية ـ مذهبية، مثل المملكة العربية السعودية وقطر، لانها ـ اي الحرب ـ اظهرت قدرة ايران على الفعل والمبادرة، ونجاحها في تفعيل خيار المقاومة ليس من خلال حزب الله الشيعي فحسب، بل ومن خلال حركة حماس السنية ايضا.
-واضافة الى الرياض والدوحة، فإن القاهرة بهوية حكمها الاخوانية في الوقت الذي بدت فيه محرجة بين اعلان الدعم والتأييد لحماس، وبين العمل على قطف بعض ثمار الازمة، بدا للكثيرين ان اخوان مصر الحاكمين نجحوا الى حد ما عبر اسلوب براغماتي واضح بعدم اثارة حفيظة اي من طرفي النزاع حيالهما، فضلا عن ارتياح واشنطن لدور مصر في تخليص تل ابيب من الورطة التي وقعت بها وحفظ ما تبقى من ماء وجهها!.
هذه الحقائق ـ وربما غيرها ـ تشير بمجملها الى ان موازين القوى الاقليمية الحقيقية ليست مثلما تريدها او تفترضها الولايات المتحدة وحلفاؤها الدوليون والاقليميون، وان تل ابيب لا تمثل رقما صعبا في المعادلات، وان طهران هي الرقم الصعب، وان الضغوط السياسية والاقتصادية ضدها لم تفلح في إضعافها ومحاصرتها وتهميشها.
ليس هذا فحسب، بل ان ما حصل في غزة لا يمكن فصله عما يجري في سوريا والبحرين، وما تلوح معالمه واضحة في افق الساحة الاردنية، وما يحصل تحت السطح من تفاعلات خطيرة في السعودية.
والخلاصة أن غزة هي جزء من مشهد واسع لن يهدأ الحراك فيه كما كانت الحال في تونس ومصر وليبيا واليمن.