ارشيف من :آراء وتحليلات
أنظمة الثورات العربية والعلاقة مع الغرب: تفاهم تكتيكي أم تواطؤ؟
عقيل الشيخ حسين
كان من الممكن، في أزمنة الملك العضوض التي ورد ذكرها في الحديث النبوي الشريف، أن يجلس الحاكم فوق عرشه وأن يأمر الجلاد بضرب عنق هذا أو بسمل عيون ذاك دون إجراء أية محاكمة، أو أن يأمر خازنه بهدر أمول الناس على الشعراء والمغنين والمهرجين والقيان وما إلى ذلك من النزوات دون أدنى محاسبة.
وإذا كان من الممكن للحاكم أن يفعل ذلك فلأنه كان يتمتع بقوة قاهرة يستمدها من أتباع يتبعونه بقدر ما يشبع أطماعهم أو بقدر ما يخشون بطشه وشوكته.
وحتى وقت قريب، كان ما يزال من الممكن للحاكم في بلداننا أن يستمد قوته من الاعتماد على القوة القاهرة التي يتمتع بها المعسكر الأميركي. لكن ذلك لم يعد أمراً مضموناً في جميع الحالات لأن أميركا لم تعد في وضع يسمح لها على الدوام بفرض إرادتها على العالم. كما أن أولويات أميركا لا تتطابق بالضرورة، في ظل التطورات المستجدة، مع أولويات هذا أو ذاك من الحكام أو من الطامحين إلى الحكم.
وهذا ما يفسر عجز أميركا أو امتناعها المقصود عن حماية حكام معروفين بولائهم التام كحسني مبارك وزين العابدين بن علي وسعيها، بعد التخلي عنهم وتركهم لمصيرهم، إلى "التفاهم" مع خلفائهم.
تفاهم قد يراهن هؤلاء الخلفاء في أحسن الحالات على الاستفادة منه ريثما يمكنون لأنفسهم ويوفرون لمجتمعاتهم أسباب القوة اللازمة للمضي قدماً وبشكل لا هوادة فيه نحو تحقيق الهدف الذي يقولون بأنه إقامة الدولة الإسلامية.
ومن جهته، يراهن المعسكر الأميركي على هذا التفاهم كوسيلة من أجل ضمان استمرار هيمنته وتعزيزها بالشكل الأكثر تناسباً مع مصالحه.
وفي ظل هذه المعادلة، نسمع يومياً كلاماً عن ضرورة إعطاء هذا النظام أو ذاك فرصة ووقتاً كافياً لإثبات جديته وقدرته على قيادة السفينة نحو تحقيق هدفه المعلن الذي لا يمكن أن يمر إلا عبر احترام مصالح الناس الحقيقية المتمثلة باحتضان قضايا الأمة والعمل على تأمين الحد الأدنى من القدرة على مواصلة الحياة لشعوب بات قسم كبير من أفرادها يعيش تحت خط الفقر أو لا يجد مأوى يؤويه غير مدن الصفيح والكرتون أو المقابر.
والكلام عن إعطاء الفرصة والوقت الكافي منطقي تماماً. إلا أنه من غير المنطقي بالمطلق أن تقتصر وظيفة الناس في هذه الأثناء على الانتظار، خصوصاً في وقت يشتد فيه تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. كما أنه من غير المنطقي أيضاً أن تكون توجهات الأنظمة التي أفرزتها الثورات العربية في مصر أو تونس مقتصرة، في مجال الدفاع عن قضايا الأمة، على الاستبشار بهدنة في غزة يخرقها الكيان الصهيوني كل يوم.
وفي مجال البناء الاقتصادي، على أنواع الخيارات المثيرة للإحباط كالتوكل على مساعدات مالية هزيلة تقدمها هذه الجهة أو تلك، أو على قروض يقدمها صندوق النقد الدولي بشروط تضمن استمرار غوص المركب نحو الأعماق.
وإذا ما كان بإمكاننا أن نترك جانباً هذا الرقص، لاعتبارات "تكتيكية"، على حبال التقريب بين ليبرالية وعلمانية وديموقراطية يريدها الغرب وبين شعارات نسمعها في مصر وغير مصر من نوع "الشعب يريد تطبيق شرع الله"، فكيف يسعنا تحمل الاستماع إلى شروحات مطولة عن جدية وأصالة المسعى الإسلامي بدليل أن للشرعية والشريعة جذرا لغويا واحدا؟
وكيف يسعنا أن نطمئن إلى حسن العاقبة في وقت يسمح فيه رئيس لنفسه بأن يتصرف بشكل سمح لكثيرين أن يوجهوا إليه تهمة التصرف كفرعون جديد أو كأحد أباطرة روما ممن كانوا يزعمون لأنفسهم صفة الربوبية؟
وفي الوقت الذي تنكشف فيه الديموقراطيات عن دكتاتوريات مقنّعة، قد لا يكون هنالك إشكال في سعي هذا الرئيس أو ذاك إلى الإمساك بجميع السلطات. ولكن بشرط ألا تفضي أوائل قراراته إلى هذا الانقسام الكبير بين المؤيدين والمعارضين، وبشرط ألا تكون تلك القرارات حصاناً يمتطيه أصحاب المصلحة في إغراق مصر في حرب أهلية من شأن كارثيتها أن تكون أشد كارثية من الحروب الأهلية التي باتت تستعر أو تهدد بالاستعار في معظم البلدان العربية والإسلامية.
حروب أهلية، لا بد من التذكير بأن وظيفتها تدمير البلدان المعنية من الداخل، وتحويل الأنظار عن قضية الأمة في فلسطين وعن القضايا الاجتماعية في كل قُطر، وبأن الجهات التي تذكي نارها هي نفسها الجهات التي تقوم التفاهمات بينها وبين من وصلوا إلى الحكم بفضل الثورات العربية.
هذا إذا لم يكن التفاهم تعبيراً مهذباً عن التواطؤ والارتباط المشبوه.