ارشيف من :آراء وتحليلات
الثورة المصرية: كل شيء يتوقف على الموقف من أميركا!
كثيرة هي الاتهامات التي يوجهها كل واحد من الفريقين المتنافسين في مصر إلى الفريق الآخر. من هذه الاتهامات، وربما أهمها فيما يتعلق باستقلالية الثورة وأصالتها والتزامها بالمصالح الحقيقية للشعب المصري، تهمة الولاء للولايات المتحدة أو التفاهم معها. والحقيقة أن مؤشرات كثيرة تدلل على صعوبة نفي هذه التهمة عن أنفسهم من قبل الإخوان وحزب الحرية والعدالة المنبثق عنهم. لكن ذلك لا يعني أن الفريق الآخر بريء تماماً رغم عدم توافر أدلة ملموسة على حسن علاقته بواشنطن. فطبيعة عناصره المتوزعين بين ليبراليين ويساريين وشغوفين بحرية يصعب تحديدها، تسمح بافتراض وجود جسور إيديولوجة يسهل اجتيازها نحو الاصطفاف وراء الغرب.
على هذا، فإن مصر التي تغلي اليوم على مذبح البيان الدستوري تكون في وضع مشابه للوضع الذي عاشته قبل أشهر يوم احتدام المواجهة بين المجلس العسكري وقوى الثورة التي ضمنت فوز محمد مرسي على منافسه أحمد شفيق في الانتخابات الرئاسية، وما أعقب ذلك من مواجهة بين مرسي والمجلس العسكري المعروف بارتباطاته القوية بواشنطن، والذي ـ رغم كل ما يتمتع به من قوة ـ أثار ذهول الكثيرين واستغرابهم بانسحابه المفاجئ من تلك الحرب الضروس التي انتهت لمصلحة مرسي من دون أن ينتطح فيها عنزان.
يومها لم يكن من الصعب على المحللين أن يخرجوا بتحليلات مفادها أن هذه النتيجة ليست غير تأكيد لواقع أن واشنطن التي تحرك المجلس العسكري بيدها اليمنى تحرك الإخوان بيدها اليسرى. واليوم، فإن الخوف كل الخوف هو أن تكون واشنطن تعيد اللعبة بكلتي يديها في الأحداث الراهنة التي تعصف بمصر.
من الأمور التي تبرر هذه المخاوف التواضع الشديد للشعارات التي طرحتها الثورة المصرية حتى الآن. فالمعركة المحتدمة حالياً تدور رحاها حول البيان الدستوري، أي حول مشكلة رغم كل أهميتها تظل مقتصرة على هوية الحاكم وصلاحياته وكيفية ممارسته الحكم من الناحية الإجرائية، من دون النفاذ إلى برنامجه وخططه في التصدي للمشكلات الضخمة التي تعاني منها البلاد على المستوى الداخلي من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى مستوى السياسات الخارجية والمواقف المطلوبة تجاه القضايا الكبرى كقضية فلسطين وقضايا أخرى لحقت بها في الأهمية على ضوء الحروب والتوترات ـ من الصومال إلى مالي، ومن تونس إلى ليبيا والخليج، ومن السودان إلى اليمن والبحرين وسوريا ولبنان، وكل ذلك مروراً بمصر ـ التي جعلت من المنطقة برمتها ساحة حرب ساخنة بامتياز بين المكونات المحلية، وميداناً لحرب باردة جديدة ومرشحة للسخونة بين القوى الدولية.
واللافت أن هذه القضايا غائبة إلى حد بعيد عن خطابات الفرقاء المصريين باستثناء بعض الحالات الهامشية وغير الوازنة أقله حتى الآن. فالقوى التي تنزل اليوم إلى الشارع لا تتجاوز بشعاراتها مطلب إلغاء البيان الدستوري أو حتى إقالة مرسي وإسقاط النظام. أي أنها ما تزال متخلفة عن الشعارات التي رفعت في بداية الثورة وأدت إلى إسقاط نظام مبارك، من دون أن يعقب ذلك تقدم ملموس على مستوى ترسيخ مواقع الثورة.
أما الموقف الرسمي الذي يمثله الرئيس مرسي فلا يتجاوز الرهان على المساعدات الأميركية والاستثمارات الأجنبية وقروض صندوق النقد الدولي وتنمية قطاع الخدمات، لا سيما السياحية منها، كمدخل شبه حصري لمعالجة المشكلة الاقتصادية التي تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم.
وعلى مستوى موقع مصر على خارطة الصراعات والتجاذبات الإقليمية، يراهن الموقف الرسمي على التشبث باتفاقيات السلام مع الكيان الصهيوني والاستمرار بضخ الغاز اليه وعلى الانضمام المكشوف إلى جوقة أعداء سوريا كمدخل لاستدرار الدعم الأميركي. وكل ذلك في وقت بات من المعروف فيه أن التوكل على أميركا غالباً ما يفضي إلى الخيبة، على ما تؤكده عشرات الحالات القريبة والبعيدة التي تخلت فيها واشنطن عن المرتبطين بها وفقاً لما تمليه مصالحها وخصوصاً مصلحتها في نشر الفوضى "البناءة" في العالم العربي والإسلامي.
والظاهر، بعد أن كانت الصراعات التي شهدتها الثورة المصرية تدور بين قطبين اثنين، أن قطباً ثالثاً قد نزل إلى الميدان مع ارتفاع صوت القوات المسلحة المصرية مجدداً في ظروف تصاعد التوتر بين مرسي ومعارضيه. والأكيد أن واشنطن تراقب الساحة المصرية لاختيار القطب الذي ستمنحه دعمها قبل أن تعود إلى التخلي عنه على طريق إضعاف مصر ودفعها نحو الهاوية.
يبقى أن الثورة المصرية بمكوناتها الإسلامية والمسيحية والليبرالية واليسارية والوطنية لا يمكنها أن تنتصر وأن تعيد مصر إلى الحياة ليس فقط إلا بمقدار ما تلغي توكلها على أميركا، بل أيضاً بمقدار ما تعي أن انتصارها رهن بالوقوف في وجه السياسات الأميركية في مصر والمنطقة والعالم.