ارشيف من :مقاومة
التجسّس: اعترافات مذهلة
صحيفة "الاخبار" - عفيف دياب
■ بدأ الحمصي البحث عن الإسرائيليين المفقودين في السلطان يعقوب عام 1982
■ أكثر من سفره خلال العامين الماضيين إلى قطر والأردن ومصر والسودان
■ اعتقل في هولندا أثناء استعداده لخطف يهود من الاتحاد السوفياتي
تتّضح تباعاً أبعاد القرار الأمني الذي اتخذته الأجهزة اللبنانية المعنية بمكافحة التجسس، المتعلق بتفتيت الجزء الأكبر من البنية الأمنية الإسرائيلية في لبنان. ويوم أول من أمس، كان الموعد مع شبكتين جديدتين، واحدة في البقاع الأوسط، وثانية كانت ناشطة بين الضاحية والجنوب وجبل لبنان.
لم تستفق بلدة سعدنايل (البقاع الأوسط) بعد من هول الصدمة التي قد تكون الأكبر في تاريخها السياسي والاجتماعي. فقائدها الأول طوال ربع قرن، زياد الحمصي (61 عاماً)، أفجعها بعمله الأمني مع الاستخبارات الإسرائيلية. كيف لا وهو المقاوم والمناضل منذ مراهقته على جبهات الصراع مع إسرائيل، عسكرياً وسياسياً وفكرياً وثقافياً واجتماعياً وإعلامياً... وحتى بيئياً. هو المغرم حتى الثمالة بجمال عبد الناصر وياسر عرفات وأحمد بن بلة وتشي غيفارا ومعمر القذافي، والمؤرخ المحترف لنضال سعدنايل، والفخور دوماً بموقعها المقاوم لإسرائيل وقيادتها لتظاهرات دعم كل ثورات العالم، وتحولها إلى ممر ومستقر لقادة كبار في المقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية، من ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة إلى جورج حاوي ومحسن إبراهيم ومصطفى سعد ووليد جنبلاط وغيرهم الكثر من قادة الثورة التي آمن بها زياد الحمصي، قبل أن يسقط نفسه في المحظور. لا أحد يعرف بعد كيف انزلق الحمصي نحو ما تقول المعلومات الأمنية إنه وصل إليه، مُدخلاً بلدته سعدنايل، ومعها كل البقاع، في أتون أسئلة أحدثت صدمة بعد تسرّب معلومات شبه رسمية عن «خيانة» زياد لمبادئه وتاريخه النضالي الطويل، ولرفاقه الشهداء الذين كانوا معه في جبل الشيخ والعرقوب وعلى هضاب البقاع الغربي وأوديته، وسقطوا من أجل فلسطين وثورتها ودفاعاً عن عروبة لبنان.
تيار المستقبل رفع الغطاء السياسي عن نائب رئيس بلدية سعدنايل وناشر مجلة «الإرادة» زياد الحمصي، قبل أن تدخل على الخط جهات مجهولة أجرت اتصالات ببعض الأهالي منتصف ليل السبت ـــــ الأحد، مدّعية أن زياد خرج من وزارة الدفاع، وهو في طريقه إلى سعدنايل في سيارة المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، ما أدى إلى موجة من الفرح عمت سعدنايل، مصحوبة برصاص غزير، سرعان ما امتد إطلاقه إلى بلدات المرج وقب الياس وتعلبايا ومجدل عنجر. ومع هذه البهجة، اضطر تيار «المستقبل» إلى التدخل مجدداً والإيعاز إلى بعض رجال الدين بالمناداة عبر مكبرات صوت المساجد أن الخبر مجرد شائعة غير صحيحة.
ورغم نفي تيار المستقبل أي علاقة تنظيمية للحمصي به، فإن أهالي المنطقة يعرفونه كأحد أبرز وجوه التيار في البقاع الأوسط منذ عام 2005، عندما تولى مسؤولية الإعلام والإعلان في ماكينته الانتخابية في العام المذكور، ومن ثم تكليفه بالمهمة نفسها منذ أسابيع عدّة، وتوليه مهمات أخرى، أبرزها التعبئة الجماهيرية. وأتى إصرار التيار على رفع الغطاء عن الحمصي ليؤكد أن توقيفه حوّله إلى عبء سياسي وأمني لا يمكن أحداً تحمله أو حمايته، وتحديداً تيار المستقبل الذي أجرى عدد من مسؤوليه (بدءاً من رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وعدد من المقربين من النائب سعد الحريري) اتصالات بضباط من الجيش لاستطلاع أسباب توقيف الحمصي. وعندما أكدت مديرية استخبارات الجيش، قبيل ظهر السبت الفائت، أن الموقوف اعترف بتعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية، أصدر تيار المستقبل بياناً تبرأ فيه من الحمصي.
صدمة بلدة سعدنايل بزياد الحمصي بدأت فجر السبت الفائت، عندما دهمت دورية من مديرية استخبارات الجيش منزله وأوقفته وصادرت من داخله حاسوباً وعدداً من الأجهزة والكاميرات والوثائق. مباشرة، تجمّع عدد من أبناء البلدة، وخاصة من مناصري تيار المستقبل، وقطعوا طريق زحلة ـــــ شتوره، وبدأوا بنصب خيمة للتضامن مع الحمصي، رافعين صوراً له كتبت عليها عبارة «أشرف الشرفاء». وبعد تدخل تيار المستقبل، أعيد فتح الطريق وأزيلت مظاهر الاحتجاج. وخلال التحقيق معه، اعترف الحمصي بأن الإسرائيليين تواصلوا معه بعد عدوان تموز 2006، من دون أن يكشفوا عن هويتهم في بداية الأمر، وطلبوا منه الانتقال إلى تايلاند لبحث شؤون تجارية. وهناك، كشفوا له أنهم يعملون لحساب الاستخبارات الإسرائيلية، وعرضوا عليه العمل معهم مقابل مبالغ مالية كبيرة، فوافق. وبعد عودته إلى لبنان، تلقى مبلغاً مالياً من الإسرائيليين مكّنه من إعادة إصدار المجلة التي يملكها («الإرادة») بانتظام. وكانت إحدى أبرز المهمات التي كلفه بها الإسرائيليون هي البحث عن الجنود الإسرائيليين الثلاثة الذين فقدوا في معركة السلطان يعقوب عام 1982. وقد بدأ تنفيذ مهمته تحت ستار الإعداد لإصدار كتاب يوثق فيه هذه المعركة ضد الإسرائيليين من خلال شهادات لمواطنين في المنطقة، إضافة إلى مقاتلين آخرين كانوا معه.
وخلال التحقيق «البطيء»، بحسب وصف أحد الأمنيين، أشار الحمصي إلى أنه تخلص قبل نحو أسبوعين من أجهزة اتصال متطورة كان الإسرائيليون قد سلّموه إياها. وقد حدد المكان الذي رماها فيه، حيث بدأت دورية من استخبارات الجيش البحث عنها. و ذكر أن إحدى وسائل اتصاله بالإسرائيليين هي كمبيوتر موضوع في مكتبه في شتوره، حيث ضبطته قوة من استخبارات الجيش أمس. وأشار مسؤول أمني إلى أن زياد الحمصي أكثر من سفره خلال العامين الماضيين «ولا سيما إلى قطر والأردن ومصر والسودان، بعدما كان قد زار الصين وتايلاند ونيوزيلندا». ونفى المصدر الأمني علمه بما إذا كانت زيارات الحمصي لهذه الدول تدخل في عداد عضويته في المنتدى القومي العربي الذي برز فيه بعد مغادرته تنظيم اللجان الثورية الليبية سنة 1988، إثر أفول نجم تنظيم جيش لبنان العربي الذي كان يقوده الملازم أول أحمد الخطيب، حيث التحق الحمصي بهذا الجيش بعد عام 1977 إثر خلافه مع الصاعقة.
التحق زياد الحمصي بمنظمة الصاعقة سنة 1969 بعدما تشظّت حركة القوميين العرب إلى أحزاب ومنظمات وجبهات تحريرية، إذ عمل في الجهاز الأمني للصاعقة، وفي مكتبها الإعلامي مشرفاً على إصدار نشرة داخلية في لبنان اسمها «الطلائع». وهو نسج علاقة متينة وقوية مع مسؤول الصاعقة الأول الشهيد زهير محسن. وسبق للسلطات الهولندية أن اعتقلت الحمصي على أرضها سنة 1975 مع مجموعة من رفاقه كانوا يستعدون لخطف قطار يقل مهاجرين يهوداً من الاتحاد السوفياتي. وقد سجن لمدة سنة، وعاد بعد الإفراج عنه إلى لبنان ملتحقاً بجيش أحمد الخطيب مسؤولاً أول عن منطقة البقاع، مع تولّيه مهمات أمنية وتدريبية أخرى.
شارك الحمصي في مواجهات قتالية مباشرة مع العدو الإسرائيلي في العرقوب سنة 1969، حيث تعرّف هناك إلى ياسر عرفات، ومن ثم شارك في حرب تشرين 1973 مع الجيش السوري عند هضاب جبل الشيخ الغربية من ناحية مزارع شبعا بعد خضوعه لدورة قائد سرية في الكلية العسكرية «فيسترل» في الاتحاد السوفياتي قبل اندلاع هذه الحرب، وبرز مقاتلاً محترفاً خلال الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني سنة 1978 مع جيش لبنان العربي تحت جناح القوات المشتركة اللبنانية ـــــ الفلسطينية، ليتوّج عمله العسكري المقاوم لإسرائيل في اجتياح 1982 خلال معارك بيادر العدس المشهورة إلى جانب الجيش السوري وأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية. ونجح في تأريخ هذه المعركة بمجموعة صور فوتوغرافية نادرة تزيّن جدران منزله في سعدنايل، إلى جانب صوره مع ياسر عرفات وأخرى لجمال عبد الناصر وتشي غيفارا. ويقول أمنيون إن معركة بيادر العدس (أو السلطان يعقوب) التي شارك فيها الحمصي «كانت المفتاح الذي دخل منه الإسرائيليون لتجنيده، ولا سيما أن الاستخبارات الإسرائيلية لم تترك باباً إلا طرقته بحثاً عن الجنود الثلاثة الذين فقدوا في هذه المعركة».
ولزياد الحمصي أيضاً تاريخ حافل في التوقيفات والاعتقالات. اعتقلته الاستخبارات السورية إثر سقوط حكومة عمر كرامي الأولى سنة 1992 بتهمة التعرض لمنزل رئيس الجمهورية الياس الهراوي في زحلة، ومن ثم أوقف في سجن «النبي يوسف» في عنجر سنة 1994 إثر رفعه صورة عملاقة للرئيس جمال عبد الناصر خلال مهرجان تدشين الستاد الرياضي الذي يحمل اسمه في البقاع الغربي، ليعتقل مرة أخرى في عام 1998 وينقل إلى فرع فلسطين في دمشق قبل أن يفرج عنه لاحقاً. ولم تنجح كل الاتصالات السياسية معه في تخفيف اعتراضه العلني على الوجود السوري في لبنان، ونجح في تأليف لائحة لعضوية المجلس البلدي في سعدنايل عام 1998، لمواجهة لائحة أخرى كانت تلقى دعماً من السوريين، واستطاع الفوز مع فريقه ليصبح رئيساً للبلدية، قبل أن يعود ويفوز بالبلدية أيضاً سنة 2004، ويتخلى عن موقعه الأول ويصبح نائباً للرئيس، متفرغاً لأنشطة ثقافية وإعلامية وسياسية في المنطقة.