ارشيف من :آراء وتحليلات

معـــــركة دمشـــق. لعـبة عـض أصــــابع!

معـــــركة دمشـــق. لعـبة عـض أصــــابع!
{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.
(الأنفال/ 30)

لم يكن فيروساً مرضياً ذاك الذي منع الوزيرة هيلاري كلينتون من حضور مؤتمر مراكش . لعله فيروس سياسي متعلق بالأجندة السياسية، التي ما زالت تؤجل الالتزام العملي بما زال حتى الآن في حدود الدعم الكلامي . ومن هنا فإن حضور مسؤول أمريكي من الصف الثاني للمؤتمر المذكور يعكس مستوىً أقل من الجدية فيما لو كان الحضور بمستوى وزير خارجية. وتعويضاً عن هذا الغياب قال أوباما في اليوم التالي على محطة التليفزيون الأمريكية. "اي بي سي": "الائتلاف الوطني السوري المعارض أصبح يضم ما يكفي من المجموعات وهو يعكس ويمثل ما فيه الكفاية من الشعب السوري كي نعتبره الممثل الشرعي للسوريين". وحصيلة ما بين هذا وذاك أن الموقف الأمريكي يراوح في "منزلة بين المنزلتين": عدم ترك المعارضة السورية, مع عدم تبنيها كما تطالب بإمدادها بأسلحة نوعية وصولاً لتمكينها من الحسم. أما مبعث هذه المنزلة الوسطى فقد كان حتى وقت قريب الحرص الامريكي على إطالة أمد الحرب الداخلية في سوريا، وهو ما أشرنا إليه في مقال سابق: "حتى لو استقال الأسد المطلوب رأس سوريا" يومها كان حضور (القاعدة) على الساحة السورية لا يتجاوز المشاركات الفردية من مغامرين (قاعديين) قادمين من بضعة أقطارٍ عربية فيما رأت فيه الإدارة في واشنطن، و(أصدقاؤها!) من العرب باباً جديداً للتخلص منهم، وذلك في سياق ما اعتبرته أمريكا "حرباً نظيفة" على سوريا، حيث لا قوات ترسلها، ولا أعباء مالية إضافية تثقل كاهل خزينتها المنهكة؛ فيما تجري بالإنابة عنها حرب تستهدف تدمير هذا البلد يتولى كلفتها الدم العربي والبترودولار العربي.

غير أن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر حين أخذ تنظيم (القاعدة) في سوريا يتجاوز بأشواط نطاقه المحدود الذي ابتدأ به، ليصبح حالة قائمة ولتصبح له كوادره المنتشرة وفي إطار تنظيمي صارم ما جعله يتفوق على الجماعات العسكرية لما يسمى تجاوزاً بـ "الجيش الحر"، فيما هذا الأخير مجرد غطاء لفظي لمجموعات ميليشياوية محلية لكل واحدة منها (قيدوم) أو زعيم يأمر وينهى وبات جلهـم أثرياء حرب بفضل ما يأتيهم من الخارج من أموال، إضافة لما يفرضونه من خوات على السكان أو فدية لقاء اختطاف أحدهم! وبهذا الجو (المافيوزي) المستعر تمكنت (القاعدة) ـ الأكثر خبرة في إدارة الفوضى واستثمارها ـ من الحاق عناصر من هذه المجموعات لا سيما بعد أن وجد هؤلاء أنهم تحولوا إلى مجرد حصادين يجمعون (الغلة) لقائدهم العسكري. والنتيجة هي كما جاءت في افتتاحية "النيويورك تايمز" قبل بضعة أيام: "أصبحت جبهة النصرة المتفرعة من تنظيم القاعدة في العراق القوات الأكثر تأثيراً في مقاتلة النظام السوري".

وإذا كان لأمريكا أن تتأقلم مع واقع فوضى مافيوزي في سوريا بل تهلل له إمعاناً في تخريبها فإنها وحلفاءها الإقليميين لا يمكنهم أن يتأقلموا مع حضور طاغٍ للقاعدة مُتفلت من عياراته المطلوبة! حيث المعادلة المأموله أمريكياً كانت بدايةً في إبقاء القاعدة تحت سيطرة المعارضة السورية. مجرد مخلب؛ فيما سوريا ساحةً يَقتلون فيها ويُقتلون؛ أو "كمين منصوب للقاعدة" على حد تعبير السيد حسن نصر الله: وذلك بغية اصطيادها فيها، كما لفت إليه في كلمته الأخير خلال حفل "التخرج الجامعي السنوي". غير أن هذه المعادلة الحرجة تفلتت من عقالها!. وكرد على وضع أمريكا لـ"جبهة النصرة" في قائمة المنظمات الارهابية جاء الرد من مجموعات المعارضة المسلحة في عريضة وقعها ممثلون عنهم، تحت شعار: "لا للتدخل الامريكي وكلنا جبهة النصرة' .."وأظهرت صفحة 'فيسبوك' الدعم الذي يحظى به المقاتلون حيث جاء فيها: 'هؤلاء هم رجال سوريا.. هؤلاء هم الابطال الذين ينتمون لديننا بالدم والثورة'!! .

معـــــركة دمشـــق. لعـبة عـض أصــــابع!


وهكذا عادت أمريكا للسير على الحبل المشدود كما حالها بعد كل لعبة مع (القاعدة) !! متناسية (وحلفاءها) من عرابي هذا التنظيم حجم معاناتهم وهم عاشوها في العراق، وما زالوا يعايشونها في أفغانستان، وباكستان, واليمن. وقد انقلب السحر على الساحر.

وتداركاً لتداعيات تحول سوريا إلى أفغانستان، أو صومال جديدة تتداعى نتائجها على حلفاء أمريكا الإقليمين؛ أولهم الأردن وثانيهم تركيا، وبالتواتر اسرائيل سعت تلك إلى إعادة تشكيل المعارضة السورية منقلبةً على (حلفاء!) الأمس الذين ثبت أنهم بين منعدم الصلاحية أو إخونجي ترتاب منه لا سيما في هذا الظرف الاقليمي ـ (سبق وشرحنا لماذا في مقال سابق) ـ وفضلاً عما سبق فإن الإخوان لم يستطيعوا في المبدأ أن يلعبوا من داخل تنظيمهم دوراً قتالياً فعالاً، اللهم إلا أن يكون جسراً لإمرار متطوعين من تنظيم (القاعدة) نحو سوريا، أو في أحسن حال وسيطاً يجمع له المال الخليجي، في (تذاكٍ مفرط من الأخوان) ساعين منه إلى جعل هؤلاء الفتية من "جبهة النصرة" بمثابة جناحهم العسكري!!، متغافلين عن تجارب الآخرين ممن سبقوهم. لكن أمريكا دخلت في الحلقة المفرغة مجدداً، فهي واقعياً لم تتحصل على معارضة سورية ليبرالية ذات فعالية ونفوذ حتى إنها اضطرت للقبول بتسوية عنوانها: معاذ الخطيب وهو رجل قريب جداً من الأخوان, وقيل بأنه كان يستبطن إخونجيته!!!.

المرجح أن أمريكا باتت تدرك حجم الاستعصاء وهي للخروج منه هربت إلى الأمام واضعةً مؤقتاً تصريحاتها عن " جبهة النصرة" في الإطار الإعلامي، دافعةً بمسلحيها إلى معركة دمشق مستفيدةً من كفاءتهم القتالية لتحقيق أكبر ضغط ممكن على النظام الذي تعرف بأنه لن ينهار بذلك، ولكنه حوار أمريكي بالسلاح معه بغية فرض شروطها عليه، وعلى حليفه الروسي!!. أو هو حوار "سياسي بالقوات المسلحة" بحسب تعريف كلاوزفست للحرب. نعم إن أمريكا ذاهبة إلى الحوار إن لم يكل اليوم ففي الغد أو بعده. إنها من دمشق تضغط بالسلاح ومن جنيف تفتح البازار... السوريون أعطوا إشارةً بأن الحسم العسكري غير ممكن كما جاء على لسان السيد فاروق الشرع وفي إشارة لها دلالاتها سبقته إشارة سريعة من "النيويورك تايمز" القريبة من مراكز صناعة القرار في واشنطن حيث جاء في الافتتاحية الآنف ذكرها: "إن الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبعض المسؤولين الأوروبيين، لا يزالون يعملون على الترويج للتفاوض على صفقة تضع حداً لإراقة الدماء... وإن أي صفقة تتطلب دعماً روسياً".

الخلاف الآن على سقف التفاوض لا على حيثياته، فأمريكا لم تعد تتحدث عن إسقاط النظام، فيما شرطها المعلن: "تنحي الأسد" ما زال عند الروس خطاً أحمر. لقد دخلنا في لعبة عض الأصابع لعبة تطول ودونها خسائر باهظة بانتظار ساعة الصفر.




2012-12-18