ارشيف من :آراء وتحليلات

زيارة استراتيجية لرئيسة البرازيل الى روسيا

زيارة استراتيجية لرئيسة البرازيل الى روسيا
قامت الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف يوم 14 كانون الاول 2012 بزيارة الى روسيا، اعتبرها الكثير من المراقبين انها ذات اهمية استراتيجية بالنسبة للبلدين، وسيكون لها تأثيرها الكبير على مجمل العلاقات بين البلدين كما وعلى السياسة الدولية بأسرها.

وعقب لقائها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعلنت روسيف ان بلادها تؤيد "موقف روسيا من التطورات في الشرق الاوسط، وبخاصة مما يحدث حالياً في سوريا". وأعلن المكتب الصحفي للكرملين ان الطرفين سيبحثان في العمق وعلى اعلى المستويات مسائل توسيع وتنويع العلاقات التجارية المتبادلة، وآفاق توسيع الشراكة الاستراتيجية في حقول مثل الطاقة، والفضاء، والتعاون العلمي ـ التكنولوجي، وتحضير الكوادر، والعلاقات الثقافية ـ الانسانية.

والبرازيل هي احد الشركاء الرئيسيين لروسيا في اميركا اللاتينية. ويتطور بشكل بناء العمل المشترك للبلدين في المنظمات الدولية مثل الامم المتحدة، مجموعة بريكس، ومجموعة العشرين الكبار G-20. وفي ختام المباحثات تم توقيع العديد من وثائق الاتفاقات بين الجانبين.

وقد حظيت روسيف باهتمام خاص لكونها ذات جذور سلافية (اذ إن والدها هو بلغاري الاصل). ويعتبر المسؤولون الروس ان البرازيل هي شريك استراتيجي لروسيا في النصف الغربي للكرة الارضية. وهم يعولون على امكانيات قيام تعاون اقتصادي واسع بين البلدين، وعلى ارفع المستويات التكنولوجية. وقد شقت البرازيل طريقها بوصفها قائداً اقليمياً في منطقة اميركا اللاتينية، وهي تتقدم اكثر فأكثر للتحول الى لاعب رئيسي في السياسة الدولية.

والبرازيل هي الثانية في نصف الكرة الارضية الغربي، بعد الولايات المتحدة، من حيث الحجم بعدد السكان الذي يقارب 200 مليون نسمة، وبالناتج الداخلي القائم الذي يزيد على 2 تريليون دولار، وبمساحتها البالغة 8،5 مليون كلم مربع. وهي تتميز بديناميكية ملحوظة.

وبالطبع ان الازمة الاقتصاية لم تتجاوز البرازيل. وقد تعرض الاقتصاد البرازيلي لكبح النمو، ولكن مجرد الكبح، وليس الهبوط كما يلاحظ ولا يزال مستمراً في غالبية مراكز الاقتصاد العالمي. وتعرضت ديناميكية نمو الاقتصاد لحد معين من الضعف، وهو ما واجهته حكومة روسيف بزيادة الانفاق على الأبحاث العلمية المتعلقة بالانتاج والتسويق وبرفع معدلات الاستثمار. ووضع هدف رفع حصة الاستثمار في الناتج الداخلي القائم من 18،4% سنة 2010 الى نسبة 22،4% سنة 2014. وسترفع تكاليف الابحاث العلمية للانتاج في الفترة ذاتها من 1،19% الى 1،8%.

ودخلت البرازيل القرن الواحد والعشرين بسمعة البلد ذي النظام الديمقراطي الثابت. فالاستقطاب الاجتماعي هناك يوجد، من وجهة نظر تاريخية، في مستوى حرج مقبول، يصل بمعادل جيني الى 0،6 (وهو في اوروبا الغربية، كقاعدة، اقل من 0،3%). (مُعامل جيني هو طريقة احصائية متخصصة لحساب مداخيل السكان).

زيارة استراتيجية لرئيسة البرازيل الى روسيا

فبدءا من رئاسة فرناندو انريكه كاردوزو بدأت في البلاد خطة التوجه الاجتماعي للنمو، وهو ما اتخذ نطاقاً شاملاً في سنوات ادارة لويس ايناسيو لولا دا سيلفا. وبدأ قطاع الفقر في البلاد في الانخفاض. وامكن في سنوات الازمة تجنب نمو البطالة وتعثر البرامج الاجتماعية. وقد ورثت حكومة ديلما روسيف هذا النهج وراثة تامة. وتبرهن تجربة البرازيل ان النفقات الاجتماعية تبدو في الواقع كاستثمارات منتجة، ترفع قدرة الدفع (الملاءة) في السوق الداخلي وبالتالي ترفع ثبات الاقتصاد الوطني خلال الظروف الخارجية غير الملائمة. وباختصار يمكن القول ان البرازيل قطعت الطريق من الماضي الى المستقبل ليس بخطوات رتيبة بل بقفزات. فقد تضاعف الناتج الداخلي القائم في مائة سنة 78 ضعفاً. والان تحتل البرازيل مواقع متقدمة على النطاق العالمي في بناء الطائرات، والطاقة الحيوية، والاغذية. وطاقتها الزراعية، حسب تقديرات منظمة الفاو (منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة) قادرة على اطعام مليار انسان، دون الاساءة الى البيئة. واكتشاف المكامن الطبيعية الغنية في الجروف القارية للمحيط الاطلسي سيحول البرازيل خلال سنوات قليلة الى لاعب ضخم في السوق العالمي للهيدروكربونات (المحروقات).

لقد اصبحت البرازيل اول شريك تجاري لروسيا في شبه القارة الاميركية اللاتينية. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في السنة الماضية 6،5 مليارات دولار. وتصل الى الاسواق الروسية مجموعة واسعة من المنتجات البرازيلية، منها اللحوم والمصنعات اللحومية، والسكر، وزيوت الطعام النباتية. ويزود المصدرون الروس السوق البرازيلي بتكنولوجيا طائرات الهليكوبتر، والاسمدة العضوية والمعدنية والكيميائية، والفولاذ المدرفل (الصفائح).

وأخذاً بالاعتبار نطاق وتنوع القطاع الصناعي، واحتياطات الانتاج الزراعي، والقدرات التكنولوجية والعلمية للبلدين، فإن بامكانهما زيادة التبادل التجاري وإغناءه بالانتقال الى التعاون الاستثماري والانتاجي، والى التبادل التكنولوجي الفعال. ولهذه الغاية ينبغي اشراك آليات عمل وحوافز الدولة لكلا البلدين. والاوراق هي بيد الرئيسين. وان انتساب البرازيل وروسيا الى مجموعة واحدة مع الصين، والهند وجنوب افريقيا (مجموعة بريكس) هو مشروط بالفهم المشترك لأزمة النظام العالمي السابق، وعدم قدرته على الاخذ بالاعتبار بشكل كاف تغيير موازين القوى على النطاق العالمي. والبرازيل وروسيا ليستا ميالتين لانتظار تغيير المناخات. وهما تفضلان القيام بدور فعال لايجاد نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب. ومع تعزيز اصلاح هيكلية النظام المالي الدولي، فهما تعملان لاجل تغيير صيغة تشكيل الكوتات (الحصص) في صندوق النقد الدولي، بهدف تدعيم مواقع اقتصادات الاسواق النامية.

وبالرغم من تباعدهما في الجغرافيا والجذور الحضارية فإن البرازيل وروسيا تتقاربان اليوم في العديد من المعالم: في اتساع نطاق الاقتصاد، في المصلحة المشتركة في اعادة هيكلة النظام المالي العالمي، وفي اولويات النمو الاجتماعي ـ الاقتصادي (بما في ذلك ضرورات التحديث، التغلب على الاستقطاب الاجتماعي، تصفية الفقر، الاندماج الاكثر فعالية في النظام الدولي... الخ). واذا كانت روسيا تنمو بسيبيريا، فإن البرازيل تنمو بالامازون. وكل من البلدين يملك احتياطات بيئوية استثنائية، وفي الوقت ذاته يدركان بشكل كبير المسؤولية عن مصير البيئة.

ودعا السفير الروسي في البرازيل الى تكثيف السياحة بين البلدين، وإلغاء تأشيرات الدخول وإنشاء خط طيران مباشر بين روسيا والعملاق الاستوائي. وذكّر السفير بأنه في العهد السوفياتي كانت شركة الطيران "ايروفلوت" تقوم برحلات مباشرة منتظمة بين موسكو وبوينس ايرس وسان باولو. وانه من الضروري تجديد هذه الرحلات. وقال السفير ان حجم التبادل التجاري حالياً يبلغ اقل من 8 مليارات دولار وان قيادتي البلدين وضعتا هدف الوصول الى رقم 10 مليارات دولار، وهذا الرقم يبقى متواضعاً امام امكانيات البلدين العملاقين، وخصوصاً ان الحجم العام للصادرات البرازيلية يبلغ اكثر من 200 مليار دولار.

وتحتل البرازيل المرتبة السابعة في العالم من حيث حجم الاقتصاد، والمرتبة الاولى في اميركا اللاتينية. وتعتبر البرازيل احد الاسواق الاكبر في العالم لمنتجات التكنولوجيا العالية، كالهواتف المنقولة والكومبيوترات الشخصية، والمرتبة السابعة عالميا في انتاج السيارات، والمرتبة السابعة ايضاً في انتاج تكنولوجيا الطيران. وهي تحتل المرتبة الاولى في انتاج الطائرات ذات الـ 120 مقعداً وأقل، وكذلك المرتبة السابعة في انتاج اللوازم الطبية ولطب الاسنان.

في النصف الاول من اليوم الاول لزيارتها، اي في يوم 14 كانون الاول ألقت ديلما روسيف خطاباً دام 40 دقيقة في الاجتماع المغلق لندوة البيزنس المشتركة بعنوان "البرازيل ـ روسيا: دعم التعاون الاستراتيجي". والنصف الثاني من اليوم قضته في المباحثات في الكرملين.

حتى الان لم تكن صادرات البرازيل الى روسيا تتجاوز قائمة الصادرات التقليدية، بما فيها السكر، اللحوم، البن، التبغ والصويا، التي تشكل 95% من الصادرات الى روسيا. ولهذا تكتسب زيارة روسيف الى روسيا اهمية خاصة، على صعيد التعاون في مختلف المجالات.


كاتب لبناني مستقل















 
2012-12-19