ارشيف من :آراء وتحليلات
أزمة المحافظات الغربية .. تسييس الملفات
يؤشر تصاعد وتيرة الاحتجاجات الجماهيرية فيما يطلق عليها بالمحافظات الغربية (الأنبار ونينوى وصلاح الدين) إلى أن الأزمة الجديدة، أضافت قدراً آخر من التعقيد على مجمل الازمة السياسية الخانقة في العراق، واحكمت اغلاق الابواب التي كان يمكن فتحها للبحث عن حلول ومعالجات معقولة تقطع الطريق على الخيارات السيئة والكارثية.
ولعل دلالات ومعطيات التأزيم والتعقيد برزت واضحة وجلية من خلال تتابع الوقائع والاحداث بصورة دراماتيكية سريعة، يمكن أن نتوقف هنا عند البعض منها حتى تتبلور صورة المشهد الراهن:
ـ بدأت الازمة هذه المرة من حدث صغير نوعا ما، تمثل باعتقال افراد من حماية وزير المالية والقيادي في القائمة العراقية رافع العيساوي استنادا الى أوامر قضائية، ولان عنصر الحكمة في التعاطي مع القضية غاب الى حد كبير لدى الطرفين فأن الامور خرجت عن السيطرة، ولم تعد مجرد اجراءات وسياقات قانونية، وامتدادها من الكواليس السياسية والاروقة القضائية في بغداد الى شوارع الانبار ومن ثم شوارع نينوى وصلاح الدين ومدن اخرى يثبت بالدليل القاطع غياب عنصر الحكمة.
ـ لم يتم، وربما كان ذلك مقصودا، التعاطي مع تلك الازمة بمعزل عما سواها من ازمات وملفات وقضايا، بل انها اقحمت سريعا مع ازمات وملفات وقضايا اخرى غيرها من قبيل قانون العفو العام، وقانون المساءلة والعدالة، والسجينات المعتقلات في السجون الحكومية، بحيث ان اصل القضية المتمثل بأعتقال افراد حماية العيساوي ضاعت وتلاشت ولم يعد هناك من يشير اليها ويتحدث عنها.
- لايمكن القول بعفوية جزء كبير من المظاهر التي رافقت الاحتجاجات الجماهيرية مثل رفع العلم العراقي القديم ذي النجمات الخماسية الثلاث والذي يعود لعهد نظام صدام، ورفع علم الجيش العراقي الحر التابع لتنظيم القاعدة، وعلم اقليم كردستان والعلم التركي، وكذلك صورا لرئيس الوزراء التركي رجب طيب اوردوغان، ناهيك عن رفع الشعارات ذات البعد الطائفي المقيت، ونقلت بعض المصادر غير المؤكدة ان جماعات شاركت في الاحتجاجات اقدمت على احراق العلم العراقي الحالي واحرقت ايضا صورا لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وتقول تلك المصادر ان اشخاصا من جنسيات عربية دخلوا بصورة مفاجئة على خط الاحتجاجات وراحوا يوجهون الامور نحو التأزم والاحتقان، وانهم ـ وبحسب المصادر ـ قاموا بتوزيع الاموال من اجل حشد اكبر عدد من الناس للتجمع في مكان الاحتجاجات.
ـ دخول رموز النظام البعثي السابق على الخط، وذلك من خلال الخطاب المتلفز لنائب رئيس ذلك النظام والمطلوب للعدالة عزت الدوري، والذي حمل نفسا وتوجها طائفيا، كان واضحا جدا انه اريد من خلاله زرع الفتنة بين الشيعة والسنة في العراق، وصب المزيد من النار على زيت الازمات والاحتقانات السياسية في الساحة العراقية.
ـ بدا واضحا ان هناك ادراكا وتقديرا لخطورة الموقف، وخصوصا ما يتعلق ببعده المذهبي الطائفي، لذلك راحت بعض الشخصيات الدينية والعشائرية من المكون السني تعمل على تهدئة الامور والتخفيف من حدة الازمة، ولعل خطاب رجل الدين السني الشيخ عبد الملك السعدي في الجماهير المحتشدة بمدينة الفلوجة التابعة لمحافظة الانبار الاسبوع الماضي، كان مؤشرا على مثل ذلك التوجه، اذ شدد على توحد وانسجام ابناء المكونين، وعلى التعايش السلمي وعدم وجود اية خلافات او تقاطعات حقيقية بينهما.
ولكن رغم ذلك فإن اجواء الاستقطاب الطائفي هيمنت الى حد ما على ما سواها، والسجالات الكلامية الحادة بين بعض نواب البرلمان العراقي وسياسيين من القائمة العراقية وائتلاف دولة القانون عكس هذه الاجواء، واكثر من ذلك فإن تلك الاجواء عطلت جلسات البرلمان، إذ أن مقاطعة نواب ائتلاف دولة القانون ومعهم نواب كتل اخرى تسبب بعدم عقد الجلسة الاستثنائية التي كان قد دعا اليها رئيس البرلمان اسامة النجيفي الاحد الماضي لعدم اكتمال النصاب القانوني، لتتحول الى جلسة تشاورية قوبلت باعتراضات وانتقادات واتهامات لرئيس البرلمان بخرق الدستور.
ـ طرحت اطراف سياسية وغير سياسية عديدة دعوات للتهدئة واحتواء الازمة، وتبنى البعض منها مبادرات في هذا الشأن الا انه يمكن القول ان اي من تلك الدعوات والمبادرات لم تجد اذانا صاغية او استجابة عملية، وهذا يعني ان مسار التصعيد والتأزم مازال هو المهيمن على مسار الحل والحلحلة والاحتواء.
ولان التداخل والتشابك والتقاطع بلغ اشده، فإن اي حديث عن فرص التوصل الى حلول حقيقية وسريعة ومجدية يبدو ضربا من الخيال، لان العامل او العنصر الاساسي للحل بات مفقودا بصورة شبه تامة، ان لم تكن تامة، الا وهو الحوار الهادىء والمكاشفة والمصارحة وتفكيك الازمات بالتدريج، فبعد ان انقطعت مجمل خيوط الوصل بين الحكومة الاتحادية في بغداد واقليم كردستان، او بتعبير ادق بين رئيس الوزراء نوري المالكي ورئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني، راحت الخيوط المتبقية بين المالكي وخصومه في القائمة العراقية من المكون السني ينقطع الواحد بعد الاخر، واصبح من يريد ان يوصل كلمة او رسالة او موقف فأنه يلجأ الى وسائل الاعلام والمنابر السياسية العلنية، ليطرح مايريد طرحه بصورة متشنجة وانفعالية تغلب عليها لغة التهديد والوعيد والشتم والسباب اكثر منه اظهار حسن النوايا وصدق التوجهات.
وفي خضم هذه الاجواء الملبدة بسحب الازمات التصعيدية، فإنه من الطبيعي والمتوقع ان تطرح اسوأ الخيارات من قبل الفرقاء.
المالكي اشار في حديث تلفزيوني له اواخر الاسبوع المنصرم الى اربعة خيارات للتعاطي مع الازمة، هي الحرب الطائفية، والثاني هو تقسيم البلاد، والثالث يتمثل بحل البرلمان والذهاب الى انتخابات مبكرة وتشكيل حكومة اغلبية سياسية، والخيار الرابع هو الحوار.
ومع تصاعد الازمة والاتجاه المتواصل لتعبئة وتحشيد الشارع، اخذت اطراف عديدة تشير الى ان المخرج الواقعي والعملي يتمثل باجراء انتخابات برلمانية مبكرة، واذا كان مثل هذا الحل ـ او المخرج ـ مناسبا من الناحية النظرية فإن امامه عقبات كأداء على ارض الواقع يمكن ان تزيد الامور تعقيدا وتأزما، ناهيك عن ان امكانية تطبيقه والعمل به يتطلب وقتا طويلا، ويستلزم تفاهمات واتفاقات بين الفرقاء من الصعب بمكان تحققها بسبب عدم توفر ارضياتها، ولانها لو تحققت بمقدار معين فإنه قد تنتفي الحاجة للذهاب الى خيار الانتخابات المبكرة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا.. ويطرح نفسه عند كل ازمة .. اين يكمن الحل؟
لاشك ان السؤال كبير وخطير والاجابة غائبة، وهذا ماتؤكده تداعيات الاحداث يوما بعد اخر، وكل من يأتي بفكرة او مبادرة ويعتقد ان الحل يكمن فيها فأنه لاينظر الى الواقع من كل جوانبه وزواياه، بل يكتفي بالنظر اليه من زاوية واحدة او اثنين لا اكثر، وازمة المحافظات الغربية لن تكون اكثر من عقدة جديدة تضاف الى عقد سابقة، تزيد من خلط الاوراق وتبدد اية بارقة امل يحملها البعض للخروج من عنق الزجاجة، بعبارة اخرى انها تحرك وحراك نحو الاسوأ لا الافضل.