ارشيف من :آراء وتحليلات

حتى لايقاتل الفلسطينيون نيابةً عن أعدائهم

حتى لايقاتل الفلسطينيون نيابةً عن أعدائهم

{إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}
(الحج: 38)

معركة مخيم اليرموك كانت فخاً مرصوداً للقيادة السورية من مكان، وللفلسطينين من مكان آخر. سورياً كان المطلوب حشر قيادتها للدخول في معركة (الأرض المحروقة) مضطرةً بحسب فرضية أصحـاب الأيدي السوداء التي انطلقت من أن النظام سيستميت في منع المسلحين من الاستيلاء على المخيم، هذا بالنظر لموقعه وهو على أبواب دمشق بل هو فعلياً امتداد عمراني لها، ما سيتسبب بحسب الخطة المبيتة بإحداث أكبر قدر من الأضرار والخسائر داخل المخيم، والغاية من هذا كله إصابة هدفين معاً، الأول: تحطيم الصورة النمطية للقيادة السورية كحاضن للقضية وداعم للمقاومة.

وبالفعل ما إن بدأت المعركة وأخذ بعض السكان ينزحون منه حتى تصاعدت وتيرة البروباغندا، على سبيل المثال تقرير لمراسل الغارديان في بيروت: "عملية الهجوم الجوي والبري للنظام السوري على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا تمثل لحظة تاريخية كاشفة حطمت مزاعم الرئيس السورى بشار الأسد بأنه راعى حركات المقاومة ضد اسرائيل" .. أما الهدف الثاني فهو ينصبّ في المساعي الحثيثة التي سعت إليها أطراف عربية لزج الفلسطينين في أتون الفتن الطائفية بحيث يكون الفلسطينيون ـ المتمرسون في الحرب ـ من وقودها تحت مسمى "احتياطي السنة في مواجهة الشيعة" كما يهمس بها البعض من فريق 14 اذار اللبناني. وهذا بالآن عينه هو الفخ المرصود للفلسطينين، إذ كان المطلوب ـ وما زال ـ استدراج مخيماتهم إلى زواريب الحروب الداخلية وإلى كل ما يبعدهم بالوعي وبالثقافة وبالإرادة عن ساحتهم الأساس. حاولوا ذلك في مخيم الرميل في اللاذقية. وفي عين الحلوة في صيدا وما زالو ليغدوا خزاناً يغذي أتون الفتنة.
حتى لايقاتل الفلسطينيون نيابةً عن أعدائهم

لكن ما يحز بالنفس أن البروباغندا المشاركة في الحرب على سوريا استطاعت أن تسحب الرأي العام الفلسطيني وبنسبة غير قليلة منه إلى مواقف تخدم في المحصلة أعداء فلسطين وقضيتها. فأضحى بذلك بعض الفلسطينيين رافداً لشلال ينسكب في طواحين أولئك الأعداء. لماذا هذه المظاهرات في الضفة الغربية المطالبةُ باسقاط النظام!! وفي غزة يصل التماهي حد رفع علم ما يسمى بـ"الثورة" !! هذا الذي يردنا إلى ذكريات الانتداب الفرنسي فيما علم سوريا وقد ارتبط وثيقاً بقضية فلسطين يغيب عن سمائها! إذ لطالما سقطت تحت ساريته في معمعات الحروب مع "اسرائيل" الاف مؤلفة من الجنود والضباط السوريين، والمصريين أيضاً زمن مصر عبد الناصر فيما هذا العلم - للتذكار- كان وما زال هو البقية الباقية من الجمهورية العربية المتحدة آخـر ما يربطنا بأيام العزة والمجد، والأمل الواعد.

لأول مرة يتصرف الشارع الفلسطيني -او الغالب منه- بما يجافي منطقه التاريخي الذي ما جعله يوما ينسى بوصلته، فمن هو المسؤول عن تحضير المناخات التي شوهت هذا المزاج الفلسطيني حتى تحولت هتافاته لصالح تلك "المعارضة السورية"التي ارتبط العديد من أسماء أقطابها بـ"إسرائيل" !!. لم يمض زمن طويل كي ينسى الشارع في غزة، أو الضفة، الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام عن الأيدي الصهيونية التي لعبت بهذه المعارضة من الفرنسي برنار هنري ليفي إلى غيره ممن يسمون بـ "الفلاسفة الجدد"؛ بل على حد وصف الفيلسوف الفرنسي جورج لابيكا "كلاب واشنطن واسرائيل"!.. يعرفون في (حماس) أن "مؤتمر التضامن مع سوريا" الذي عُقد في باريس والذي رتبت له تلك العصبة الصهيونية قد حضره ممثل جماعة الإخوان المسلمين ملهم الدروبي فيما قاطعه معارضون هابهم وقاحة المشهد فيما لم يهبها الدروبي كما لم يهب من قبله صدر الدين البيانوني القطب الإخواني ظهوره الوقح على القناة الثانية الإسرائيلية مبديا حيال الكيان الغاصب (نواياه الحسنة)!.

وبعيدا عن أي سجال بين مدافع عن النظام السوري أو مقرعٍ فيه، هناك محاكمة عقلية مؤداها: إذا كان الإخوان المسلمون في سوريا يمارسون دجلهم السياسي حيال قواعدهم فيبررون لهم ما سبق على أنه ليس تخلياً عن قضية فلسطين بل تكتيك على قاعدة: الأخطر فالأخطر!؛ ما يجيز لنا أن نسأل: هل هذا الترتيب ينسحب على الفلسطينيين أو هو يلامس وجدان الرازح منهم تحت الإحتلال. او الذي يعيش معاناة النكبة وتداعياتها في أراضي الـ 48. حتى التحق الشيخ رائد صلاح بركاب جوقة ما يُسمى بـ "الثورة السورية" ليصرخ بأعلى صوته: "إن الثورة السورية امتداد للإنتفاضة الفلسطينية "!!. فإذا كان تلوث هذه "الثورة" بالتعامل مع أمريكا والأطلسي عراب " إسرائيل" وحاميها، لا يستحق ليكون سببا كافيا لكي يفرمل الشيخ صلاح من اندفاعه، ألا يستحق ذلك منه متى علم بوجود ارتباط رسمي بين بعض اقطاب المعارضة و"إسرائيل" كما سنبين. ذات السؤال نوجهه إلى حماس وهي وغيرها تعرف مدى العلاقة بين رهط من المعارضين السوريين مع الصهاينة، وهذه باتت من الحقائق شبه المؤكدة، بعض تفاصيلها كشفته صحيفة "هآرتس" وبالأسماء. ومن قبلها تقرير بريطاني يثبت أن هذه العلاقة غير مستجدة، بعد أن تسربت بعض أجزائه من أحد أعضاء لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني جاء فيه أن جهاز الموساد الإسرائيلي "تولى تمويل ثلاثة مشاريع سياسية وإعلامية سورية "معارضة" على الأقل خلال السنوات الخمس الأخيرة، متبعا طرقا ملتوية في التحويلات المالية بحيث يغدو من الصعب تتبعها بنكياً". وقد تحدث التقرير عن اجتماعات بين الليفتنانت نير بومس من "الموساد" وبعض الأسماء من المعارضة مثل: أنس العبده، أسامة المنجد، رضوان زيادة، عمار عبد الحميد. كما أشار التقرير في معرض التفصيل إلى أن الضابط المذكور الذي شغل في السابق منصب ضابط امن السفارة الإسرائيلية في واشنطن "قد وفر منذ العام 2004 ولغاية نهاية العام 2009 ملايين الدولارات من موازنة "الموساد" لصالح مجموعات سورية سياسية وإعلامية معارضة أبرزها "حركة العدالة والبناء" و قناة "بردى" الناشطتان انطلاقا من لندن".

حتى لايقاتل الفلسطينيون نيابةً عن أعدائهم

لم يكن هذا السلوك من الشارع الفلسطيني ـ او بعضه ـ مجافيا وحسب لمنطق التاريخ. بل أيضا لمعاني الوفاء. فالقاصي والداني يعرف الإمتيازات التي ينالها الفلسطينيون اللاجئون إلى سوريا من حيث معاملتهم على قدم المساواة مع المواطنين السوريين في الحقوق والواجبات كاملة دون أدنى تمييز، الأمر غير المتاح لنظرائهم اللاجئين إلى بلدان عربية أخرى. وهنا نسجل "للبعث" إنصافاً للحق وللتاريخ أنه تعامل مع الفلسطينيين بأريحية ورحابة إنطلاقاً من خلفيته العقائدية حتى شهدت سوريا أحياناً شخصيات من الفلسطينيين شغلوا في سلكها الدبلوماسي مناصب سفير أو قنصل، وبات من المألوف في القطاع الحكومي وجود فلسطينيين معاوني وزراء أو مدرين عامين، وأساتذة جامعيين، وفي الجيش السوري ضباط عاملون قبل استحداث "جيش التحرير الفلسطيني"... وربما لا يعرف البعض أن الأكثر التصاقا بالرئيس الراحل حافظ الأسد كانا فلسطينيين. الأول: أسعد كامل الياس مدير مكتبه الخاص، والمترجم المعتمد من قبله في كل اللقاءات المغلقة مع مسؤولين غربيين. ما جعله بحق خزان أسرار الدولة السورية، والثاني هو اللواء خالد الحسين مرافق الرئيس الخاص والرجل المؤتمن على سلامته، وهذا الأخير كان يدين له الأسد بحياته بعد أن أنقذه من موت محتم مخاطراً بنفسه ليفتديه بشجاعة خلال محاولة اغتيال استهدفت الرئيس الأسد في سبعينيات القرن الماضي.. وللعلم فإن موقع الرجلين، كان قبل وظل بعد الخلافات التي عصفت بين الرئيسين الأسد وعرفات إثر الدخول السوري إلى لبنان وما رافقه من صدام مع فتح وعدة فصائل فلسطينية أخرى عام 1976.
إن هذا التماهي السوري مع كل ما هو فلسطيني استولدته الخلفية القومية المتأصلة في هذا البلد، وربما أيضاً مخزون ثقافتها التاريخي، حيث فلسطين في الوعي السوري جزء اقتطعته سايكس ـ بيكو من بلادهم. لعل هذا الرصيد هو ما عزل أصابع الفتنة في مخيم اليرموك. وطوق بيئتها الحاضنة الذي جاء في لحظة جحود، غير أن ما سبق من حقائق لا بد أن يظل ماثلاً في أذهان الفلسطينيين ممن لم يعيشوا في سوريا، لا سيما منهم الأجيال الصاعدة كي لايجد هؤلاء أنفسهم يوماً يقاتلون بالنيابة عن أعدائهم.
لؤي توفيق حسـن (كاتب من لبنان)
2013-01-11