ارشيف من :آراء وتحليلات

المشهد العراقي ... خلط الأوراق بدلاً من ترتيبها

المشهد العراقي ... خلط الأوراق بدلاً من ترتيبها
أدى اندلاع أزمة المحافظات الغربية قبل أكثر من ثلاثة أسابيع الى سرقة الأضواء من أزمة اقليم كردستان مع الحكومة الاتحادية، بحيث بدا للبعض أن نوعا من التهدئة ساد بين الطرفين، وأن جنوحا نحو البحث عن حلول وسط فرض نفسه على خيارات التأزيم، ولا سيما أن اللجان الفنية ـ العسكرية والأمنية، والوفود السياسية من إقليم كردستان والحكومة الاتحادية حرصت على مواصلة مباحثاتها وحواراتها وسط أجواء، اشارت بعض التصريحات الى انها ايجابية.

للأسف لم تكن هناك تهدئة حقيقية، ولم تفرز الأزمة توجهات جادة للبحث عن حلول وسط، ومصطلح "سرقة الأضواء"، هو الاكثر تعبيرا وتوصيفاً لصورة الواقع السياسي العام في البلاد، فمسيرة الأعوام العشرة الماضية اكدت واثبتت ان الازمات السياسية غالبا ما لا تجد طريقا الى الحل بل يكون طريقها الى الترحيل، والأخير يفضي الى التراكم، وهو ما يولد المزيد من الاحتقان والتشدد والتزمت وانعدام الثقة بين الفرقاء.

وبما ان جبهة جديدة انفتحت امام الحكومة الاتحادية في بغداد، أو بتعبير أدق، امام "ائتلاف دولة القانون" بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي، فإن الاكراد آثروا الترقب والمراقبة، وربما التحريض والتأليب على بغداد، من أجل تضييق الخناق على صانع القرار هناك وبالتالي إضعافه ومحاصرته.

المشهد العراقي ... خلط الأوراق بدلاً من ترتيبها

فبعد فترة هدوء وصمت اصدر رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني بيانا عبر فيه عن موقفه من الأحداث الاخيرة التي شهدتها المحافظات الغربية والمطالب التي طرحها المتظاهرون، وتضمن البيان اتهامات وانتقادات للحكومة الاتحادية وتحميلها المسؤولية، اذ قال البارزاني "ان العراق يمر منذ مدة طويلة بأزمة كبيرة بسبب اهمال الخدمات للمواطنين واقصاء الشركاء وعدم تطبيق الدستور والاتفاقيات، ما ادى الى ردود افعال تعبر عن استياء الشعب العراقي بكافة مكوناته وعلمائه ومراجعه واحزابه وتنظيماته، وفي الوقت الذي كان من واجب الحكومة الاتحادية ان تبادر الى التعامل بعقلانية من أجل ايجاد الحلول، عملت على تفاقم الازمة بالتهميش والتهديد والاقصاء ما أدى الى مضاعفات خطيرة قد تؤدي الى عواقب وخيمة".

وعبر رئيس اقليم كردستان عن دعمه وتأييده التام لمطالب المتظاهرين المشروعة مع تأكيده على ضرورة الحفاظ على سلمية الاحتجاجات وعدم اللجوء الى العنف".

وقد قوبل بيان البارزاني الذي رافقته تصريحات لوزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو عزا فيها التوترات والأزمات في العراق الى "ىسياسة الحكومة الاقصائية لبعض الاطراف السياسية"، وقوبل برد فعل عنيف من قبل رئاسة الوزراء، وذلك باصدار بيان من المكتب الاعلامي لها قال فيه انه "في الوقت الذي تسير الامور الى الحلول والانفراج الذي يخدم مصالح جميع ابناء الشعب العراقي وينعكس ايجابا على امن واستقرار العراق نفاجأ بمواقف وتصريحات مضادة من جهات اقليمية ومن شخصيات سياسية عراقية، كالبيان الصادر من رئيس اقليم كردستان والتصريحات غير المسؤولة التي اطلقها وزير الخارجية التركي، التي تكشف عن رغبة بإعاقة الحوار بين مكونات الشعب العراقي وإحياء الفتنة الطائفية البغيضة".

المشهد العراقي ... خلط الأوراق بدلاً من ترتيبها

وفي سياق التصعيد اتهم نائب رئيس مجلس النواب والقيادي في حزب البارزاني عارف طيفور نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني بمحاولة خلق ازمة جديدة مع اقليم كردستان بعد فشله في التفاوض مع المتظاهرين في المحافظات الغربية، وقال طيفور "ان الشهرستاني يسعى الى خلق ازمة جديدة مع اقليم كردستان من خلال اطلاق التهديدات ومقاضاة الشركات النفطية التي تعمل في الاقليم والمطالبة بتخفيض مخصصات الاقليم من الموازنة العامة الاتحاية"، مشيرا الى "ان الشهرستاني فشل في التفاوض مع المتظاهرين ولم ينجح في امتصاص غضب الجماهير المعتصمة التي خرجت من مختلف المحافظات".

وتصعيد النبرة الكردية ضد الحكومة الاتحادية جاء متزامنا مع انسحاب ممثلي القائمة العراقية من اللجنة الخماسية المشكلة من "التحالف الوطني" و"التحالف الكردستاني" و"العراقية" لبحث مطالب المتظاهرين وبالتالي احتواء الازمة الاخيرة.

والغريب ان انسحاب القائمة العراقية من اجتماعات اللجنة كان مفاجئا لمختلف الاوساط السياسية والشعبية، باعتبار ان الحكومة اتخذت خطوات عملية وسريعة للتعاطي والتجاوب مع مطالب المتظاهرين، ابرزها تشكيل لجنة برئاسة حسين الشهرستاني لتبويب وتفكيك تلك المطالب وتنفيذ ما يمكن تنفيذه بأسرع وقت واحالة المطالب الاخرى للجهات المعنية بغرض تفعيلها، وبالفعل فانه خلال فترة زمنية قصيرة تم اطلاق سراح اعداد غير قليلة من الموقوفين، واحالة ملفات الالاف من المشمولين بقانون المساءلة والعدالة الى هيئة التقاعد الوطنية لغرض تخصيص رواتب تقاعدية لهم، ورفع الحجز عن العقارات المملوكة للمشمولين بالقانون او ذويهم، فضلا عن قرار رئيس الوزراء اصدار عفو خاص عن المعتقلين المدانين بقضايا جنائية بشرط تنازل اصحاب الحق الخاص.

هذه الخطوات السريعة التي اعتبرتها بعض الاطراف السياسية تنازلات مبالغاً فيها ومن شأنها ان تفتح الأبواب لعودة البعثيين الملطخة اياديهم بدماء الابرياء في العهد السابق، وكذلك الارهابيين، لم تفلح في تهدئة وامتصاص غضب الشارع في المحافظات الغربية، ليس لان المتظاهرين لم يقتنعوا بمستوى الاستجابة لمطالبهم، بل لان ممثلي المتظاهرين او من يدعون تمثيلهم راحوا يرفعون سقف المطالب، ويمارسون سياسة لي الاذرع، ويتعاملون مع الحكومة من منطق القوة، بحيث إن بعض التجمعات الجماهيرية الاحتجاجية راحت ترفع شعار اسقاط الحكومة، كما حصل ذلك في محافظة الموصل، اذ صرح المتحدث باسم المتظاهرين غانم العابد "ان متظاهري ساحة الاحرار في المدينة ألغوا جميع مطالبهم السابقة للحكومة المركزية، كإلغاء المادة 4 ارهاب واطلاق سراح المعتقلين وغيرها، واكتفوا بمطلب واحد فقط هو اسقاط حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي".

ورأى محللون ومتابعون للاحداث ان رفع سقف المطالب من قبل بعض الجهات والاشخاص يأتي في سياق المزايدات والتنافس الداخلي والسعي الى كسب المزيد من التأييد في انتخابات مجالس المحافظات المقبلة والمزمع اجراؤها في العشرين من شهر نيسان/ابريل المقبل. هذا من جانب، ومن جانب آخر هناك اطراف خارجية ـ وهي نفسها التي تضخ الاموال وتمول هذا الطرف او ذاك ـ تضغط باتجاه عدم ايقاف التظاهرات، وأكثر من ذلك ارباك الحكومة بمزيد من المطالب، حتى وان كانت تعجيزية، اي بعبارة اخرى أن تلك الاطراف الخارجية لا يروقها احتواء الأزمة، وهي تراهن على تطويق الحكومة بأزمات عديدة من مختلف الجهات لاضعافها وتجريدها من عناصر قوتها ومن ثم اسقاطها سواء عبر السياقات الدستورية او عبر الشارع.

المشهد العراقي ... خلط الأوراق بدلاً من ترتيبها

وربما جاء بيان رئاسة اقليم كردستان حول الأحداث، وتصريحات وزير الخارجية التركي، وانسحاب القائمة العراقية من المفاوضات مع "التحالف الوطني"، في اطار خلط الاوراق بدلا من ترتيبها، في ذات الوقت فإن الجهات التي تمثل المتظاهرين لا تثق كثيرا بوعود الحكومة واجراءاتها، وترى انه حتى الاجراءات التي تم اتخاذها من قبل الاخيرة قام الاعلام الموجه بتهويلها وتضخيمها.

والتصريحات الاخيرة لمارتن كوبلر ممثل الامين العام للامم المتحدة في العراق من مدينة كركوك جاءت لتعزز الاتجاه نحو خلط الاوراق بقوله "إن الامم المتحدة لا ترى وجود نوايا حقيقية لتلبية بعض مطالب المتظاهرين"، مؤكدا "إن التظاهرات حق من حقوق ‏العراقيين الدستورية للتعبير عن ارائهم بالصورة التي تؤمن لهم مطالبهم، وعلى الحكومة العراقية ‏تلبيتها وأخذها على محمل الجد وأن تأخذ دورها في حل تلك القضايا".

كل ذلك، وربما غيره، يشير الى حقيقة ان الازمة ـ او الازمات ـ لم توضع حتى الآن على سكة الحل الحقيقية، واذا كان هناك نوايا وتوجهات جادة باتجاه الحل من قبل بعض الأطراف فإنها لم تتبلور بالقدر الكافي في خضم الحراك الفوضوي الخطير، وانعدام الثقة بين طرفي الأزمة.
2013-01-25