ارشيف من :آراء وتحليلات

مصر... عبد الناصر أم السادات !

مصر... عبد الناصر أم السادات !
عندما اختفى جمال عبد الناصر عن المسرح في عز احتدام حرب الاستنزاف التي كانت قد أصبحت محط الآمال في أن تكون بداية الرد المشرف على نكسة 5 حزيران 1967، ربما يكون الكثيرون من المصريين قد أملوا بأن يكون حكم أنور السادات مساراً تصحيحياً لجهة إزالة آثار العدوان واستكمال مشروع عبد الناصر الذي أجهضته النكسة.

وجاءت حرب تشرين / أكتوبر 1973 لتعزز، في مرحلتها الأولى، ذلك الأمل نظراً لأهمية عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف. ولكن مرحلتها الأخيرة واختراق الإسرائيليين للجبهة المصرية وتطويق ثلث الجيش المصري وما شكله ذلك من تهديد باحتلال القاهرة، كان له طعم نكسة جديدة.
والحقيقة أن هذه النكسة الجديدة كانت أدهى من الأولى. ففي حين كان أنور السادات يشدد دائماً على أنه يواصل المسير على الطريق الذي اختطه "أخوه" جمال، أقر الجميع بصحة دعوى السادات تلك، ولكن مع تعديل بسيط: صحيح أنه يسير على طريق عبد الناصر، ولكن بالممحاة.
إذ بعد أقل من خمس سنوات على حرب العبور، كان أنور السادات قد تمكن من إخراج مصر من موقعها كبلد عمل عبد الناصر على تحريره من التبعية وعلى تنميته بالشكل الصحيح للتنمية، وعلى إعطائه موقعاً رائداً على مستوى التحرر القومي والوحدة العربية، وعلى مستوى تشكيل جبهة عالمية كبرى (لا منحازة) لكنها صريحة في معاداة سياسات الهيمنة.

فقد رسم السادات مكان المسار الناصري الذي قام بمحوه مساراً معاكساً تماماً: ارتماء كامل في حضن الغرب. تنكر لسياسات عبد الناصر التنموية وإلغاء البرامج الناصرية في مجالات التأميم والإصلاح الزراعي. وخروج عن الخط القومي لصالح اتفاقيات كامب دافيد وتحويل مصر إلى مرتع للجواسيس الإسرائيليين والسياح الغربيين (والعرب الرجعيين) الذين كان لهم الفضل في إرساء ثقافة جماهيرية عمادها مقولات "إحنا مالنا" و"عاوزين ناكل عيش" بكل الأشكال الممكنة. مع التنويه بأن كل الأشكال الممكنة لم تكن ولا يمكنها أن تكون من النوع الذي ينسجم مع كرامة المصريين. وكانت النتيجة 50 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، نصف النساء المصريات مطلقات، وعشرات الملايين من المصريين هجروا الأرياف ليعيشوا في مدن الصفيح أو بين القبور.

وبالمقابل، ازدهرت أحوال حفنات من المتنفعين ورجال الأعمال/الساسيين ممن كانوا يستأثرون بالمساعدات الأميركية وبقروض صندوق النقد الدولي، الأمر الذي لا يمكن معه إلا أن تُفتح أبواب الاضطراب الاجتماعي والسياسي على مصاريعها.

وكل ذلك بالتوازي مع القمع الشرس. كانت المدن المصرية تستفيق يومياً على عشرات الألوف من الجنود وهم يداهمون البيوت والأحياء ويمارسون عملهم الأمني تفتيشاً وقمعاً واعتقالاً في ظل قانون الطوارئ الأبدي.

وعندما قتل السادات، لم يكن من الممكن لكثيرين من المصريين والعرب وغيرهم من الشعوب التواقة إلى الحرية إلا أن يتفاءلوا خيراً وأن ينتظروا تحسن الأمور، إذا لم نقل عودة قوية لمصر إلى سابق إحساسها بالانتماء والهوية واحتضان القضايا الناصرية التي محاها السادات عن سكة المسار الناصري.

وربما كان البعض قد أملوا في أن يقوم خليفة السادات، حسني مبارك، بالخطوة المعاكسة في إعادة مصر إلى النقطة التي تركها فيها عبد الناصر. لكنه، أي مبارك، لم يمح شيئاً من مسار سابقه بل أثبته بالخط العريض ووضع تحته كل ما قدر عليه من خطوط التشديد.
وعندما اندلعت ثورة 25 كانون الأول / يناير 2011 هفت أفئدة المصريين والعرب وغيرهم من الشعوب المقهورة إلى القاهرة، على أساس أن ثورة بهذا الزخم لا بد وأن تعيد أمور مصر إلى نصابها كبلد رائد في مجال النضال من أجل التحرر.
وبعد عامين طويلين من اندلاع الثورة، يطرح السؤال الكبير عن منجزاتها. فريق مهم من المصريين يعتبر أن ما حدث لم يكن غير تغير في الوجوه مع الإبقاء على السياسات التي كانت معتمدة من قبل مبارك "المخلوع"، على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية والإدارية والسياسية. ما يعني أن مصر لا تزال تعيش، رغم مرور الزمن، في صبيحة 25 كانون الأول / يناير 2011.
الفريق الآخر يعتبر أن الثورة قد حققت نجاحات كبرى على مستوى الديموقراطية : رئيس منتخب لأول مرة في تاريخ مصر. أما على المستويات الأخرى، تروج الفكرة القائلة بأن النظام الجديد يحتاج إلى الوقت من أجل تقديم حلول لمشكلات مصر الموروثة عن الأنظمة السابقة.
وفي الوقت الذي تهدد الأحداث الدموية الجارية بانزلاق مصر إلى وضع مأساوي ربما لم تعرف مثيلاً له في تاريخها، وأياً تكن الحجج التي يقدمها الفريقان، يبدو أن على مصر أن تحسم موقفها في الخيار بين... عبد الناصر والسادات.

2013-01-29