ارشيف من :آراء وتحليلات
إقليم كردستان وإشكالية النفط المزمنة
بينما كانت أزمة المحافظات الغربية في العراق تتصاعد وتستفحل مطلع الشهر الماضي، تداولت بعض وسائل الإعلام تقارير خبرية عن قيام إقليم كردستان بتصدير أول شحنة من الحقول النفطية الواقعة ضمن حدود الإقليم إلى تركيا خارج السياقات المتعارف عليها، وهذه المعلومة مرت مروراً عابراً بحيث لم تلتفت اليها كثيراً وسائل الاعلام المنهمكة بالتظاهرات الاحتجاجية في الأنبار ونينوى وصلاح الدين وما يمكن أن تفضي إليه من تداعيات واستحقاقات.
وفي حينه لم تنف حكومة الإقليم ولم تؤكد ما تم تداوله، بيد أن رئيسها نيجرفان البارزاني قال في مؤتمر صحافي إن "الإقليم لن يستجدي ميزانيته من ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي"، وقال ايضاً "يبدو أن الخط الرابط بين كردستان والموانئ التركية قد أنجز، وأنه بات بالإمكان تصدير النفط الكردي مباشرة إلى تلك الموانئ، لم تصلني بعد معلومات مؤكدة بانتهاء العمل بمشروع مد خط أنابيب نقل النفط من كردستان إلى تركيا، ولكني آمل أن يكون العمل قد أنجز، ونحن جادون في مد ذلك الخط الذي سيخدم في المحصلة إقليم كردستان وجميع أنحاء العراق، وسياساتنا بهذا الصدد معلنة ولا نخفيها على أحد، ونأمل أن يوقع رئيس الوزراء التركي على الاتفاقية الخاصة بهذا المشروع الاستراتيجي المهم".
ومنذ عدة أعوام يدور جدل وسجال حاد بين الحكومة الإتحادية وإقليم كردستان حول ملف النفط في الاقليم، من حيث كيفية استثماره وآليات وصيغ التعاقد مع الشركات الاجنبية وعمليات الرقابة والمتابعة والتدقيق، ولم تتبلور اية نتائج ايجابية، وكان واضحاً ان سياسة الامر الواقع هي التي فرضت نفسها على ذلك الملف الحساس والخطير والحيوي، وبمرور الزمن، ومع بروز المزيد من الخلافات والاختلافات حول جملة قضايا بين المركز والاقليم، من قبيل تطبيق المادة 140 من الدستور المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، وتخصيصات قوات البيشمركة الكردية من الميزانية الاتحادية، وغيرها، باتت فرص التوصل الى حلول وتوافقات بشأن العُقد الخلافية في ملف النفط تكاد تكون معدومة، ولهجة الخطاب لدى كل من الطرفين هي أبلغ وأوضح دليل على ذلك. واذا لم تكن ازمة "ملف النفط" معقدة وشائكة الى حد كبير ويمكن حلها او حلحلتها فإن الازمات الاخرى لا بد أن تلقي بظلالها عليها لتبدد فرص الحل في حال كانت موجودة.
منشأن نفطية في كردستان العراق
وطيلة أعوام عدة كان إقليم كردستان يتحرك بصورة متواصلة لجذب كبريات الشركات العالمية المتخصصة بصناعة النفط مثل اكسون موبيل وشيفرون الاميركيتين وغيرهما للاستثمار فيه، وبالفعل حقق نجاحات ملموسة في هذا الجانب، ما اثار حفيظة الحكومة الاتحادية وجعلها تتحرك في الاتجاه المضاد لإبطال العقود النفطية المبرمة بين الاقليم والشركات المتخصصة.
ولعله ارتباطاً بطبيعة موازين القوى وعناصر الضعف والقوى لدى كل من الطرفين، وعموم تفاعلات وأحداث المشهد العراقي وتدخلات اطراف خارجية، لم يتمكن اي من الطرفين فرض ارادته على الطرف الاخر، وفي ذات الوقت لم ينجح في تحقيق ما يريده ويتمناه، حتى انه ليبدو ان هناك قناعات راحت تتبلور لديهما مع مرور الوقت بأن المخرج الصحيح والواقعي هو التفاهم والتوافق، ولكن بسبب تداخل المشاكل والازمات وتراكمها وانعدام الثقة لم تتهيأ الارضيات والمناخات المناسبة للحوار الحقيقي والبناء الذي من شأنه أن يفضي الى التفاهم والتوافق.
ومواقف الاونة الاخيرة اشارت مرة اخرى الى ان الهوة ما زالت بعيدة بين المركز والاقليم، وان ملف النفط سوف يكون احد الملفات التي يمكن ان تساهم في تصاعد وتائر الازمة - او الازمات - بين الطرفين. وان من يقول غير ذلك، اما انه مستغرق بتفاؤلات غير واقعية او انه يقرأ الوقائع والاحداث قراءة مجتزأة ومقلوبة.
آخر التصريحات المتشنجة الذي صدر عن الحكومة الاتحادية اتهمت فيه "أربيل بالتسبب بخسارة أربعة مليارات دولار من ميزانية الدولة العراقية جراء وقف حكومة الإقليم تصدير نفطها إلى تركيا عبر المنافذ الرسمية، متوقعة أن ترتفع الخسارة خلال العام الجاري إلى تسعة مليارات دولار".
وكانت بغداد واربيل قد ابرمتا في ايلول الماضي اتفاقا تعهدت بموجبه الاولى بدفع مستحقات الشركات النفطية الاجنبية العاملة في الاقليم في مقابل التزام اربيل بتصدير مئة وخمسة وسبعين الف بريمل نفط يوميا عبر المنافذ الرسمية، وتودع عائداتها المالية في خزينة الدولة الاتحادية.
ويبدو ان ذلك الاتفاق ولد ميتا تقريبا، فحكومة الاقليم تتهم الحكومة الاتحادية بعدم الايفاء بتعهداتها حسب الاتفاق، والاخيرة تتهم حكومة الاقليم بتصدير النفط بطرق غير مشروعة، والدخول في عمليات تفاوض مع شركات اجنبية من دون التنسيق معها.
ويقول المتحدث الرسمي لحكومة اقليم كردستان سفين دزة يي بهذا الشأن "إن الحكومة الاتحادية هي التي تراجعت عن الالتزام بالاتفاق المعقود بيننا وبينها خلال شهر أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، ونحن أبدينا استعدادنا لضخ الكميات المتفق عليها وهي 175 ألف برميل من النفط يوميا عبر الأنابيب العراقية الناقلة إلى تركيا، وفعلا التزمنا بإنتاج وتصدير تلك الكمية، وكنا نخطط للوصول إلى مستوى 200 ألف برميل لكي نزيد من موارد الخزينة العراقية، وتعهدت الحكومة الاتحادية بموجب ذلك الاتفاق أن تدفع جميع المستحقات المترتبة عن أعمال الشركات الأجنبية العاملة بكردستان والبالغة مليار دولار، وكان يفترض أن تدفع تلك المستحقات بقسطين، ولكن الحكومة الاتحادية دفعت الدفعة الأولى البالغة 650 مليون دولار، وتراجعت عن دفع القسط الثاني، وهذا ما أدى بتلك الشركات إلى وقف نشاطاتها، ونحن لا نستطيع أن نضغط عليها بهذا الاتجاه، لأن المستحقات من حقها، وليست لدينا الموارد الكافية لنغطيها من ميزانيتنا الإقليمية".
ولكن المسألة التي تستحق التوقف هي اعتراف المتحدث الرسمي بقيام حكومة الاقليم بتصدير النفط خارج السياقات القانونية من خلال قوله "إن الحاجة هي التي اضطرتنا إلى تصدير 15 الف برميل يوميا، فأسواقنا المحلية بحاجة إلى المشتقات النفطية، والحكومة العراقية خفضت بشكل كبير تجهيز محافظات الإقليم بتلك المشتقات، فاضطررنا إلى تصدير تلك الكمية ومقايضتها بالمشتقات النفطية، ويذهب جزء من عوائدها لتغطية مصاريف الشحن والتحميل والنقل، وما يبقى نتبادلها بالمشتقات النفطية الضرورية، وعملية التصدير ستستمر إلى حين تجهيز محافظاتنا بتلك المشتقات".
مصادر رسمية عراقية مقربة من الحكومة تؤكد ان لديها معلومات موثقة عن تصدير اربيل كميات اكبر بكثير من التي ذكرها المتحدث الرسمي باسم حكومة الاقليم.
ويضاف الى ذلك ان هناك حساسية من كلا الطرفين بشأن الاستفادة من النفط الموجود في المناطق المتنازع عليها، وحساسية الاكراد اكبر لأن الحكومة الاتحادية لها يد في اغلب المناطق المتنازع عليها، ومؤخرا حذر وزير الموارد الطبيعية في حكومة اقليم كردستان اشتي هورامي شركة بريتش بيتروليوم البريطانية العملاقة من مغبة العمل بعقود نفطية في المناطق المتنازع عليها، طالبا منها الا تزج بنفسها في معمعة الخلافات الدائرة حاليا حول النفط في العراق".
في نفس الوقت فإن حكومة بغداد كانت منزعجة الى حد كبير من اللقاءات التي عقدها رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني على هامش منتدى دافوس الاقتصادي العالمي الاخير مع مديري شركات نفطية كبرى مثل اكسون موبيل، والحديث عن تقديمه المزيد من المغريات لهم.
ومن المرجح ان تزداد حدة الجدل والسجال وتبادل الاتهامات بين بغداد وأربيل تزامنا مع طرح مشروع الموازنة المالية الاتحادية لعام 2013 للتصويت في البرلمان العراقي هذه الايام، وتلويح اطراف محسوبة على الحكومة الاتحادية بالاتجاه لتخفيض حصة الاقليم من 17% الى 13%، بينما تحاول الاطراف الكردية رفع تلك الحصة، وايجاد تخصيصات معينة لقوات البيشمركة باعتبارها ضمن منظومة وزارة الدفاع.
ومثلما أشرنا آنفا فإن لا أحد بإمكانه فرض رؤيته على الاخر، ولا بإمكان اي منهما تحقيق ما يريد ويتمنى بالكامل، وكذلك فإنهما غير مستعدين للالتقاء في منتصف الطريق والتوافق على حلول وسط، وحتى لو كانا مستعدين لذلك فليس في ظل هذه الاجواء السياسية المتأزمة، والارادات المتقاطعة، والنوايا الغامضة.