ارشيف من :آراء وتحليلات
هل غيرت الرياض توجهاتها حيال بغداد.. ولماذا ؟

لا يمكن لأي متابع أن يتجاهل أو يتغافل عن ملامح التحولات التي راحت تلوح في الأفق مؤخراً في مسيرة العلاقات العراقية ـ السعودية، ولا يمكن له أن يتعاطى معها وينظر إليها على أنها لا تخرج عن سياق التذبذب والشد والجذب الذي ميز تلك العلاقات طيلة الاعوام العشرة الماضية، أي منذ الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003.

هناك شيء مختلف الآن عن المراحل السابقة، أي بعبارة أخرى هناك قراءات جديدة من قبل صناع القرار السعودي ومن له دور وقدرة في التأثير على توجهاتهم ومواقفهم، وربما كانت الولايات المتحدة الأميركية هي الطرف الأكثر قدرة في التأثير على توجهات ومواقف الرياض.
قبل حوالي عام، وتحديداً في شباط/فبراير 2012 أعلنت الرياض بعد تسعة أعوام من سقوط نظام صدام، تعيين سفير غير مقيم لها في العراق هو سفيرها في الاردن فهد عبد المحسن الزيد، وكان ذلك مؤشراً تفاءل به الكثيرون على بداية تصحيح مسار العلاقات بين بغداد والرياض، عززته خطوة إبرام اتفاقية أمنية بين البلدين تضمنت تبادل السجناء، الى جانب إشارات اخرى.
بيد أنه في الجانب الآخر، كانت الرياض ومعها الدوحة من أكثر الاطراف التي سعت الى عرقلة عقد القمة العربية الثانية والثلاثين في بغداد العام الماضي، وحينما بات عقدها أمراً حتمياً، اكتفتا بتمثيل متواضع جدا تمثل بإرسال سفيريهما في الجامعة العربية، في الوقت الذي حضر زعماء عرب مثل أمير الكويت ورئيس السودان ورئيس لبنان.
اضف الى ذلك فإن الموقف العراقي المتوازن من الأزمة السورية الذي رأت فيه الرياض والدوحة وأنقرة بأنه يدعم نظام بشار الاسد، ويعزز موقف طهران، دفع صناع القرار السعودي الى وضع خط أحمر أمام اي تقارب مع العراق، ولعل وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل كان واضحا حينما خاطب كلاً من الرئيس العراقي جلال الطالباني ووزير الخارجية هوشيار زيباري في احدى المناسبات قائلا "نظامكم لا يعجبنا"!.
وبما ان القضايا متشابكة والملفات متداخلة في بعديها الداخلي والاقليمي، فإن عدم الارتياح السعودي من الموقف العراقي حيال الأزمة السورية انعكس على مواقفها من القضايا الداخلية العراقية، اذ انها ساندت بقوة نائب رئيس الجمهورية السابق طارق الهاشمي الذي أدين قضائيا وأبدت تعاطفاً كبيراً مع المطالبين بسحب الثقة من حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، وشكلت مع كل من قطر وتركيا محوراً لدعم الأكراد والقائمة العراقية من أجل الإطاحة بالحكومة، في ذات الوقت الذي كانت تبرز بين الحين والاخر تسريبات من هنا وهناك عن قلق سعودي من تنامي الإنتاج النفطي العراقي، وتحول العراق الى منافس حقيقي للسعودية في الأسواق العالمية، لا سيما بعد فرض عقوبات اقتصادية على ايران من قبل الاتحاد الاوروبي العام الماضي.

ولعل المشكلة السعودية مع العراق الحالي تتمثل بثلاثة أبعاد، بعد سياسي يرتبط بطبيعة النظام الديمقراطي القائم رغم أوجه الضعف والقصور والاختلال فيه، إلا أنه يشكل عامل قلق بالنسبة لنظام متزمت ومنغلق يخضع لقوالب صلدة من الصعب جداً كسرها او الخروج منها.
والبعد الثاني ايديولوجي ـ عقائدي، يتمثل في ان العراق بهويته الاسلاميةـ الشيعية، التي بات من اليسير على عموم العراقيين التعبير عنها بمظاهر وأشكال مختلفة، يختلف مع السعودية بهويتها الوهابية المتشددة التي لا تنسجم ولا تتعايش حتى مع المذاهب السنية المعتدلة، ناهيك عن المذهب الشيعي، ويزداد القلق السعودي في هذا الجانب بوجود ايران بثقلها وحضورها وتأثيرها الكبير في محيطها الاقليمي، وعلاقاتها الايجابية مع العراق رسميا وشعبيا.
اما البعد الثالث، فهو اقتصادي، إذ ان الوفرة النفطية الكبيرة في العراق، واستثمارها بطريقة صحيحة في ظل أوضاع سياسية وأمنية مستقرة، يعني بروز العراق كقوة اقتصادية كبيرة منافسة للسعودية، وذلك بدوره يفضي الى تعزيز نظامه الديمقراطي، والذي من الطبيعي أن يكون المكون الشيعي حاضرا ومساهما وفاعلا فيه بقوة.
هذه الصورة بإطارها العام قد لا تشجع كثيراً على الحديث عن تحولات حقيقية في واقع ومسيرة العلاقات بين بغداد والرياض، وخصوصا أن الاخيرة لعبت دوراً كبيراً في دعم الارهاب وتأجيج العنف الطائفي في العراق بعد سقوط نظام صدام عبر منابرها الدينية ووسائلها الإعلامية وأجهزتها المخابراتية ومؤسساتها الاقتصادية والمالية.
اذن .. ما الذي تغير الان؟.
في واقع الأمر، ما تغير هو ترتيب الأولويات لدى مراكز صنع القرار السعودي على ضوء التحولات والمتغيرات التي أفرزتها "ثورات الربيع العربي"، وهي تحولات ومتغيرات لم تكن قد وضعت في الحسبان، وإعادة ترتيب الاولويات فرض قدراً من الانفتاح على بغداد، وهو انفتاح لا يمكن الحكم عليه مبكراً بأنه ذو طبيعة استراتيجية، ونابع من قناعات، ومستند إلى رغبة جادة وحقيقية لتصحيح المسارات الخاطئة.
ان صعود نجم حركة الاخوان المسلمين في مصر وتونس، وحضورها وتأثيرها في اليمن وليبيا والأردن وسوريا وفلسطين، وإمكانية امتدادها إلى مساحات أخرى من الممكن أن تكون بلدان الخليج من ضمنها، أثار حفيظة الرياض، وقبلها دولة الإمارات العربية المتحدة التي جاهرت بانتقاداتها الحادة للإخوان المسلمين عدة مرات على لسان قائد شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان.
ويقول البعض "ان التطورات اللاحقة (بالثورات العربية) افزعت ـ الى حدٍّ ما ـ الساسة السعوديين، إذ كشفت طموح شبكة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ابتداءً من مصر وانتهاءً بتركيا للسيطرة على المنطقة عن طريق استغلال التحولات الليبرالية التي اعقبت الربيع العربي. ولهذا فإن المملكة العربية السعودية التي استبشرت خيراً بالنفحة الإسلاموية المقبلة بخطاها السريعة؛ وجدت ان المجتمعات الثائرة التي تمور بالغضب وتعاني من الحرمان والفاقة لا تتحمل مثل تلك الطموحات، بل إنها كشفت أن البعد الديني من الربيع لم يقدم الجواب المنتظر، لهذا فالرياض توقفت في منتصف الطريق الى تشكيل محور الانقلاب الديني الذي يضم اسطنبول والدوحة، ورجعت على اعقابها لتراجع السياسات الإقليمية التي تشوشت بسبب الحسابات الخطرة لمحور تركيا ـ قطر. ووجدت أنهما في سوريا أم العراق، الأمر سيان، تقترفان مغامرة كبيرة وباهظة الثمن والمستقبل غير واضح والخسائر والدمار بالغان".
من هنا يمكن ان نفهم الاختلاف والافتراق الحاصل بين قطر وتركيا من جهة والسعودية من جهة أخرى بشأن ما يحصل في العراق، وتحديدا في المحافظات الغربية، ففي الوقت الذي حافظت كل من الدوحة وأنقرة على مستوى ومسار دعمهما للتظاهرات الجماهيرية، نحت الرياض منحى آخر، بسبب إمساك الاخوان المسلمين بزمام الامور هناك، وهو ما دل عليه ارتفاع رصيد وحضور الحزب الاسلامي العراقي بعد انكفائه وتراجعه سياسيا وشعبيا.
وبدلا من ذلك راحت الرياض تبعث بإشارات "غزل" الى الحكومة العراقية، فقناة العربية السعودية على عكس قناة الجزيرة القطرية، تعاطت مع التظاهرات الجماهيرية في المحافظات الغربية بأقل قدر من الاهتمام، وصحيفة "الشرق الاوسط" غادرت الخطاب المتشنج ضد حكومة المالكي، وفي خطوة غير مسبوقة افردت "الشرق الاوسط" في عددها الصادر الاثنين الماضي (11/2/2013) حوارا مفصلا مع المالكي أجراه معه رئيس التحرير من القاهرة على هامش قمة منظمة المؤتمر الاسلامي، وواضح من طبيعة الاسئلة والأجوبة ان الحوار موجه بدقة، في ذات الوقت نجد في الخطاب الاعلامي السعودي خلال الآونة الأخيرة تصعيداً ضد النظامين المصري والتونسي، وانتقادات ضمنية وحتى صريحة للدوحة وأنقرة.

ولا شك ان تفكك وتشظي القائمة العراقية إلى فريقين أو اكثر، ما هو الا انعكاس لاختلاف المواقف والتوجهات السعودية مع المواقف والتوجهات القطرية والتركية، التي لا يمكن ان تكون واشنطن بعيدة عنها، ولا يمكن ان تأتي بمعزل عن تفاعلات الأحداث في سوريا، فما ينقل ويتداول في بعض المحافل السياسية والدبلوماسية هو أن أنقرة التي تبنت بقوة اسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ولقيت تشجيعاً ودعماً كبيراً من واشنطن والرياض وقوى أخرى، تجد نفسها معزولة ومحاصرة في ظل حراك من أطراف متعددة مثل واشنطن وموسكو وطهران وحتى الرياض يتمحور حول الحوار والحل السلمي للأزمة السورية، وهذا يعني أن حلفاءها في سوريا لم يعودوا فاعلين وكذلك حلفاؤها في العراق، وتزامن ذلك مع حلحلة في الأزمة البحرينية من خلال فتح قنوات حوار بين السلطة والمعارضة، والرياض بالتأكيد ليست بعيدة عن هذا الأمر وهي التي أرسلت بالامس القريب قوات "درع الجزيرة" لمنع سقوط النظام في المنامة.
واذا كانت السعودية تسعى الى المحافظة في هذه المرحلة بالذات على تماسكها الداخلي وعدم التفريط بعلاقاتها الاستراتيجية مع قوى دولية مثل الولايات المتحدة الاميركية، فهي تجد نفسها ملزمة بأن تتحرك بإيقاع لا ينسجم مع سياساتها وتوجهاتها التقليدية، وهذا لا يتعدى كونه تكتيكا تفرضه جملة من الحقائق والوقائع على الأرض.