ارشيف من :آراء وتحليلات

الغذاء : مشكلة وحلول تعقد المشكلة !

الغذاء : مشكلة وحلول تعقد المشكلة !
بين الموت جوعاً، أو تناول أطعمة ليس لها شيء من الأطعمة للعيش شهوراً أو سنوات لا شيء فيها مما يحسد المرء عليه، لا يمتلك إنسان الحضارة الما-بعد حداثية كثيراً من الخيارات.
ففضيحة لحوم الخيل التي تبين أن تسويقها يتم في أوروبا على أنها لحوم بقرية، هي عملية غش شبيهة بما نجده في كل زمان ومكان. لكنها فقط الجزء غير المغمور من كتلة الجليد الطافية على وجه الماء.

إذ من المعروف منذ سنوات أن "بقايا" (عظام، أمعاء، أحشاء وما إلى ذلك من بقايا الحيوانات التي يتم قتلها بغرض الاستهلاك في أميركا وأوروبا وغيرهما) يجري طحنها وتلوينها ومعالجتها بمواد كيميائية مشبوهة، قبل أن تضاف بكميات تصل نسبتها إلى 60 أو 70 بالمئة إلى لحوم الأبقار التي يستهلكها الجمهور العريض في العالم أجمع!.

أما منتجو هذه اللحوم فلا تعوزهم التبريرات. تلك البقايا هي بنظرهم بروتينات وسعيرات وفيتامينات. كما أنهم لا يترددون في المزايدة فيدعون أنهم يخدمون بعملهم هذا القضايا الاقتصادية والبيئية الكبرى. وبحسب مواقع إنترنت غربية عديدة، فإن ممثلاً لشركة أميركية تعالج يومياً ما بين 4500 إلى 6000 من الأبقار يتباهى بقوله إن استخدام هذه "البقايا" يوفر على شركته، وبالتالي على البشرية جمعاء "ما يعادل 5،1 مليون حيوان سنوياً".

الغذاء : مشكلة وحلول تعقد المشكلة !
 لحوم الخيول ... لحوم بقرية !

ويكن توفير كميات أكبر بطرق أكثر سرعة وبساطة : فما يسمى بـ "اللحوم المفصولة ميكانيكيا"، والتي تنزل إلى الأسواق بكميات كبيرة لا يمكن اعتبارها لحوماً، لأن الذبيحة تطحن بكاملها مع هيكلها العظمي. وكذا الأمر مع اللحوم التي يتضاعف حجمها ووزنها مرتين أو ثلاثاً بفعل كميات الماء التي تحقن بها عن طريق آلات مجهزة بإبر نحيفة جداً.

عملية غش أيضاً، لكن ذلك لا يمنع من الاعتراف بأن صعوبة إنتاج ما يكفي من المآكل لمليارات البشر، خصوصاً في ظروف الكارثة المناخية المستفحلة، تتزايد بوتيرة متسارعة، وبالتالي فإن الحاجة تفرض الاستفادة من أدنى جزيئة بروتينية. ولكن، كم من الوقت يمكن لمجتمعاتنا الاستهلاكية أن تواصل الاعتماد على مثل هذه الحلول؟

والسؤال نفسه يطرح بخصوص الدعوات المتكاثرة والداعية إلى تعزيز نظامنا الغذائي عبر "تذوق" ما لا يحصى من مئات وألوف الأنواع الحيوانية والحشرية التي تبدأ بالجرذان والحراذين والصراصير ولا تنتهي بالنمال والديدان والجعلان والفراش والعقارب... يكفي من أجل ذلك أن نغير عاداتنا الغذائية، على ما يقول أصحاب تلك الدعوات! ويكفي أن نتخيل هذا الهروع الكبير للكائنات البشرية وهي تغادر المدن يومياً لممارسة هذا النوع الجديد من النشاط البشري: صيد الحشرات! أو بالمزيد من الدقة، صيد ما تبقى من هذه المخلوقات في وقت تشهد فيه كل ثانية تمر انقراض عشرات الأنواع الحشرية تحت ضربات التغيرات المناخية الناجمة عن الحداثة وأنماط عيشها.

كما تنتشر بمنتهى الجدية أفكار ثورية أخرى. لماذا لا نحول سطوح الأبنية وناطحات السحاب إلى حدائق للمزروعات؟ يكفي أن ننقل إليها التراب والأسمدة "الطبيعية"، طبعاً، ومن ثم نزرع ونقطف ما تعطيه من طماطم وخس وبرتقال أيضاً! ذلك، على ما يقولون، يغطي قسماً من احتياجاتنا الغذائية، وفوق ذلك يعطي المدينة مظهراً جميلاً وأكثر احتراماً للبيئة.

وبينما يتفذلك المتفذلكون، تواصل الصناعية الزراعية ـ الغذائية والشركات المتعددة الجنسيات مسيرتها الظافرة في "النضال" العلمي من أجل تأمين الغذاء للمليارات السبعة التي تعيش حالياً على سطح الكوكب والتي سيرتفع عددها إلى عشرة مليارات في غضون عشرين عاماً.

الغذاء : مشكلة وحلول تعقد المشكلة !

بالفعل، وبالرغم من أنواع التدخلات التي نجحت في رفع إنتاجية اللحوم والألبان والحبوب والفواكه والخضار، عبر استخدام أغذية وأسمدة يتم إغناؤها عن طريق دعمها بالبقايا والفضلات الحيوانية المدعومة هي نفسها بالمواد الكيميائية والهرمونات، وهي التدخلات التي تؤمن حالياً غذاء الأكثرية الساحقة من المستهلكين الذين ما زالوا يمتلكون بعض القدرة الشرائية، فإنه يتبين أن هذه الثورة تبقى عاجزة إلى حد كبير عن استئصال أزمة الغذاء.

وهنا، تنصب الآمال على "العضويات المعدلة جينياً" المنتجة في الولايات المتحدة. فهذه العضويات هي عبارة عن حيوانات ونباتات "مثيرة جداً للاهتمام" : يكفي إدخال جينة فأرة مثلاً في الخريطة الجينية للبقرة العادية لنحصل على بقرة ذات مزايا استثنائية لجهة حجمها ووزنها...

الأوروبيون يقفون حتى الآن في صف المقاومة أمام الضغوطات التي يمارسها عليهم الأميركيون بهدف إدخال هذه المنتجات إلى الأسواق الأوروبية. وهم يفعلون ذلك لدواع اقتصادية ولكن أيضاً لأن بعض الدراسات العلمية قد بينت وجود علاقة ذات دلالة بين استهلاك هذه المنتجات وظهور الأورام السرطانية.

ومع هذا، نجد الآن في أوروبا وغيرها أجباناً وألباناً رخيصة الثمن ولا علاقة لها بالأجبان والألبان من قريب أو بعيد: عدة أنواع من النشاء تضاف إليها مواد كيميائية ونكهات تعطيها طعم الأجبان والألبان وتزيد... والعمل جار أيضاً على إنتاج لحوم بالطريقة نفسها. ألبان وأجبان ولحوم يتم توليدها في "الأنابيب". تلك هي "البدائل" الغذائية!.
وبهذه الوتيرة كل شيء يدعو إلى الاعتقاد بأن الصناعات الزراعية ـ الصناعية ستنتهي إلى القطيعة مع كل ما هو زراعي لتصبح مجرد صناعات غذائية. وهنا لا بد من طرح السؤال : ما هو نوع البدائل البشرية الذي سيقود إليه نمط التغذية هذا ؟
2013-02-18