ارشيف من :آراء وتحليلات

حرب العملات في العالم

حرب العملات في العالم
بدأت شرارات حرب العملات بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية تنطلق، بسبب التأثيرات الجانبية لطباعة العملة. والحرب هي استمرار للاقتصاد، ولكن بوسائل أخرى. وفي أغلب الأوقات فإن المعارك لأجل التفوق الاقتصادي إنما تجري بهدوء ليس بين اعداء، بل بين شركاء.

ان تخفيض سعر صرف عملة ما، هو مغر جداً وطريقة سهلة لتصدير الكثير من المشكلات خلال الأزمة الاقتصادية. ولهذا، ومنذ بداية الزلزال الاقتصادي الحالي، كان يوجد تخوفات من أن الاحتكاكات الكلاسيكية في ما يسمى تخفيض العملة التزاحمي سوف تشتد. وفي سنة 2010، فإن وزير المالية البرازيلي حينذاك، غيدو مانتيغا، صاغ عبارة جديدة، حينما حذر بأن الطباعة الاستثنائية للعملات في البلدان المتقدمة تنذر بوقوع حرب عملات.

والان بدأت المخاوف تتزايد، خصوصاً بعد ان نجحت الحكومة الجديدة في اليابان وفي خلال شهرين فقط أن تخفض سعر الين الياباني بنسبة 15% حيال الدولار، وذلك من خلال إعلان البنك المركزي الياباني عن العزم على التعامل مع الانكماش.

وقد تحدث رئيس البنك المركزي الالماني Bundesbank يينس فايدمان، علناً عن خطر الحرب العملوية. وتوجهت كل الأنظار نحو قمة العشرين الكبار G-20 التي انعقدت في 15 شباط /فبراير الجاري، حيث كان من المتوقع حدوث مواجهة جبهوية حول الموضوع بين البلدان المتقدمة الكبيرة وبين بلدان الاقتصادات النامية.

الحرب بالعملة

وبالرغم من أن سعر صرف العملة يتحدد في السوق، فإن كل بلد يستطيع ان يؤثر على سعر صرف وحدته العملوية. والاداة الاساسية لذلك هي السياسة العملوية للبلد المعني وبالأخص الفائدة التي يضعها البنك المركزي للدولة. فحينما يتم تخفيض الفائدة، فهذا يحفز نشاط البيزنس في البلاد، إذ إن تدني كلفة تمويل البنوك، يؤدي الى تدني كلفة تمويل جميع الشركات. ولكن من جهة ثانية، فإن هذا يؤدي عادة الى توليد التضخم وإضعاف القدرة الشرائية للنقود. وتؤدي الى النتيجة ذاتها سندات الدولة وغيرها من الأصول ذات الريعية المنخفضة وغير الجذابة للمستثمرين. ومن هنا وبحسب القواعد الأساسية للسوق فإن انخفاض الطلب على العملة يؤدي الى انخفاض سعرها. وانخفاض سعر العملة له ميزة تجارية، وهو أنه يجعل التصدير أكثر قدرة على المزاحمة، والاستيراد أغلى.

وفي ظروف الأزمة فإن غالبية البنوك المركزية خفضت الفوائد الى مستويات قياسية وحتى الى الصفر. حتى ان بعضها لجأ الى اجراءات غير تقليدية، مثل شراء سندات دين الدولة من الاسواق الثانوية، أو ما يسمى التسهيلات الكمية quantitative easing. وبالمضمون فهذا يعادل طباعة العملة، الممنوعة عليهم، مع فارق أنه بهذه الطريقة لا تتم التوصية مباشرة من قبل الحكومة من أجل طباعة العملة، وبالواقع يحررهم من امكانية إصدار دين جديد، بأن يخلقوا للدين القائم طلبا اصطناعيا. ولكن الهدف من هذه الممارسة ليس تخفيض سعر العملة وتشجيع التصدير، بل هو أن يتم سكب سيولة في الاقتصاد، وأن يتم انقاذ الأنظمة البنكية المحلية من الانهيار.

وهنا بالواقع تأتي اللحظة المعقدة، وهي أن الحدود بين التأثير الداخلي المطلوب والتأثيرات الجانبية على الشركاء التجاريين هي حدود ضبابية جداً. فمن الصعب على أي كان أن يضع حدوداً لأي دولة مستقلة أي سياسة اقتصادية ستتبع. ولهذا فإن الكثير من المحللين لا يوافقون على مقولة وجود حرب عملوية، على الأقل الى أن نصبح شهودا لقيام دول أخرى باجراءات مضادة مكشوفة. أي ان تقوم احدى الدول بتبرير تخفيض عملتها الخاصة ليس بسبب حاجات اقتصادها الخاص، بل ردا على أفعال الآخرين. وهذا هو بالضبط خط دفاع اليابان. فقبل يوم من انعقاد قمة الـ G-20، أعلن حاكم البنك المركزي الياباني ماسآكي شيراكاوا ان السياسة النقدية التوسعية هي موجهة نحو انعاش الاقتصاد، وليس نحو اضعاف الين.

وبالرغم من تطاير الشرر من تصريحات مختلف السياسيين وموظفي البنوك المركزية فلم يكن من المتوقع ان تصدر عن قمة الـ G-20 اي رسالة قوية. فبالدرجة الأولى ان الموضوع هو حساس جداً، وجميع الدول تأخذ بالاعتبار أولا ان لا تضحي بسياستها النقدية المستقلة من أجل وضع اللجام لأحد المزاحمين في السوق العالمي. بالاضافة الى ان الجميع يلجأون في لحظة ما الى الضغط على العملة، من أجل التوصل الى ميزة تزاحمية. وعلى سبيل المثال فإن البلدان النامية تتهم الآن الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا، ومؤخرا اليابان، بأنها بطباعة العملة تقوم بتخفيض سعر عملاتها. ومن جهة ثانية يتم انتقاد الصين وبلدان آسيوية شرقية اخرى بأنها تتبع رسميا سياسة المحافظة على سعر عملاتها منخفضا ما يجعلها أكثر قدرة على المنافسة العالمية. وهكذا كان من المتوقع ان تسمع في قمة الـ G-20 الكثير من الاتهامات، ولم يكن من المتوقع التوصل الى تفاهم اجماعي.

حرب العملات في العالم

وبالواقع فإن الكابح الأكبر حتى الان أمام اندلاع الحرب العملوية هو الاستقلالية والنزعة المحافظة للبنوك المركزية. فأغلبيتها تملك التفويض بأن تحافظ فقط او بالدرجة الاولى على استقرار اسعار العملة، وأن تعمل للحؤول دون تقويض العملة الوطنية. ولكن عولمة الأسواق المالية أثرت على هذه النظرة الثابتة. فقبل بضع عشرات السنين كانت طباعة الدولارات الجديدة تستثير اول ما تستثير التضخم في الولايات المتحدة الاميركية ذاتها، اما الان فإنه يتم نقل الدولارات الجديدة بلمح البصر في وجهة غير معروفة، ويمكن ان يتم نفخ البوالين في اماكن غير متوقعة، وفي مختلف الاصول: عقارات، سلع، اسهم، دين دولة وأي شيء آخر يبدو "واعدا". وفي الوقت ذاته فإن التضخم الاستهلاكي الكلاسيكي، الذي يراقبونه، يبقى منخفضا، وهكذا يتم تحقيق الهدف.

وهذا يولد تدريجيا فئة جديدة من رجال البنوك المركزية العدوانيين، "المستعدين لكل شيء". وهذه كانت كلمات رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي، التي اراد بها ان يهدئ الاسواق، حينما تحولت عبارة "انهيار اليورو" الى كليشيه صحفية. وان الرئيس الجديد للبنك البريطاني Bank of England، مارك كارني، هو ايضا مشهور بخطواته الجريئة. كما ان البنك المركزي الياباني ينتظر تعيين رئيسه الجديد، الذي من المرجح ان يكون ساموراي تابع للحكومة في صراعها للتخلص من الركود المتسبب عن الانكماش. ومن المتوقع ايضا ان تجري تغييرات في روسيا والصين ايضا. ومن المرجح جدا انه سيحصل تبديل كامل للاجيال، اذا تم في السنة القادمة استبدال بن شالوم برنانكي بشخص اكثر عدوانية منه على رأس الفيديرال ريزرف (البنك المركزي الاميركي).

وبالتأكيد ان السياسيين يحتاجون الى مثل هؤلاء "الابطال الخارقين"، لان المعركة القادمة في العديد من الامكنة ستكون مع البطالة، ومن المفيد تسخير السياسة النقدية في هذه القضية. وإنها لمسألة اخرى إذا كانت جميع البلدان تحتاج الى مثل هذا التقارب بين البنوك المركزية والحكومات.

وقد كتب المحلل التابع لـ Societe Generale البرت ادواردز يقول "ان التاريخ يشير إلى أن تدخلات البنوك المركزية يمكن على المدى الطويل ان تسيء، بدلا من ان تحسن الامور". والعيوب لن تقتصر على التضخم، البالونات والحروب العملوية. ان الاموال السهلة يمكنها بسهولة ان تتحول الى "وحوش زومبي" تفترس البنوك والشركات. واليابان هي شاهد على ذلك منذ عشرين سنة الى اليوم. وفي الأخير فإن كل شيء يعود الى قرارات السياسيين وليس الاقتصاديين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
2013-02-20