ارشيف من :آراء وتحليلات
ما بعد إقرار الارثوذكسي في اللجان المشتركة

المشهد الانتخابي أمام ثلاثة سيناريوهات والأيام المقبلة ستحسم أحدها
جاء إقرار القانون الأرثوذكسي في اللجان المشتركة النيابية كترجمة طبيعية للمسار والنتائج التي انتهت اليها مناقشات لجنة التواصل الفرعية، وللتذكير فقط ان القانون الوحيد الذي صوت عليه وحاز الأكثرية هو القانون الأرثوذكسي، وكان يفترض أن يُحال مباشرة ـ كما يقتضي منطق الأمور ـ الى اللجان المشتركة، إلا أن رئيس المجلس وغالبية الكتل النيابية ارتأتوا أن يفسح المجال لمناقشة المزيد من الاقتراحات وفي طليعتها الاقتراح الذي قدمه الرئيس بري كمخرج توافقي، ويستند الى المزج بين الأكثري والنسبي على نحوٍ متساوٍ أي خمسين بالمئة للأكثري وخمسين بالمئة للنسبي.
إلا أن مماحكات تيار المستقبل، ومناوراته في سياق لعبة تضييع الوقت لفرض قانون الستين المرفوض من الأكثرية الساحقة من اللبنانيين أفضت الى استهلاك الوقت الإضافي من دون الوصول الى نتائج ايجابية، وذلك في ظل ضيق الوقت الفاصل بيننا وبين المهل الدستورية لإقرار الهيئة الناظمة للانتخابات أو للبت بالقانون الانتخابي الذي يفترض اجراء الانتخابات على أساسه.
في هذا السياق، كان طبيعياً أن يُحال القانون الأرثوذكسي الى اللجان المشتركة، وأن يحظى أيضاً بالتصويت المناسب، ما يجعله قاب قوسين أو أدنى من الهيئة العامة، وبالتالي منحه الصفة الدستورية والقانونية.
ويبدو أن الوقت الفاصل ما بين إقرار اللجان المشتركة للقانون الأرثوذكسي، وإحالة هذا القانون الى الهيئة العامة ليس بالمتسع كثيراً، وهو يراد منه أن يشكل أيضاً الفرصة الأخيرة للتوافق على قانون بديل.
وسط هذه المعمعة الانتخابية برز مشهد سياسي غني بدلالاته ومؤشراته، لعل أبرزها التالي:
أولاً: لقد بدا تيار المستقبل مكشوفا سياسياً الى حد بعيد، كما ازاح الستار عن نواياه الفعلية التي تدفعه لرفض الأرثوذكسي أو ما يناظره، فهذا التيار يعرف معرفة يقينية ان الارثوذكسي ليس موجهاً ضد طائفة ما، بل هو يساوي بين كل الطوائف، وإلا ما معنى أن يكون لكل طائفة حق اختيار ممثليها.
نعم، ما يخافه المستقبل من الأرثوذكسي هو أمر آخر، والمتمثل بالجانب النسبي من جهة، وبالجانب الذي يحرر باقي الطوائف من هيمنته من جهة أخرى، فالنسبية ضمن كل طائفة من شأنها ان تكشف الحجم الحقيقي لكل قوة سياسية، والمستقبل يعرف ان له اليوم شركاء فاعلين في ساحته بدءاً من البيوتات والعائلات السنية العريقة التي حاول اقفالها بإحكام، ومروراً بالأحزاب السياسية العريقة، وليس انتهاءً بالقوى والتيارات الاسلامية والسلفية، صحيح، ان المستقبل يلتقي الآن مع هذه التيارات والقوى في بعض التوجهات السياسية، الا أنه يدرك في قرارة نفسه أنها خطر عليه قبل غيره عاجلاً أم آجلاً.
أما الجانب الآخر فمن شأن الأرثوذكسي أن يحرر باقي الطوائف من هيمنة المستقبل، وهنا نقطة خلاف "الأزرق" مع حلفائه الكبار من المسيحيين أي "القوات" والكتائب، فهذان الحليفان يعرفان ان المستقبل هو صاحب الكلمة الفصل، وهو من يتحكم بالقرار السياسي والسلطوي، ومنطلق ذلك، أنهما لا يستطيعان الخروج من تحت عباءاته الانتخابية والمالية.
بكلمة موجزة، المستقبل ـ كعادته ـ يحاول دائماً أن يحتمي بالغطاء الطائفي والمذهبي، ويعمل على تصوير المعركة معه وكأنها معركة ضد السنة، وكل ذلك للتغطية على عجزه، ولتشويه المضمون السياسي للمواجهة معه، وللتستر على نواياه الفعلية المتمحورة حول الاحتكار والاستئثار سواء داخل الطائفة السنية، أم خارجها، فالأرثوذكسي من شأنه أن يحرر قطاعات واسعة من السنة وغير السنة من الهيمنة الاحتكارية لهذا التيار المدعي، ويقدمه كما هو من دون اي تلبيسات أو تمويهات او تزييف لحقائق الأمور.
ثانياً: لم يكن موقف القوات والكتائب الايجابي من الأرثوذكسي مجرد خلاف ظرفي حول قانون للانتخابات، بقدر ما عكس ويعكس امتعاضاً حقيقياً لدى هذين المكونين المسيحيين يصل الى حدود الأزمة الفعلية سواء من حرص المستقبل على الهيمنة والاستئثار والاحتكار، ام من الأداء المفرط والمفرّط بالكثير من المبادئ والتوجهات السياسية المضرة مسيحياً بهذين الحليفين، فالمستقبل لم يظهر أي مراعاة لحلفائه، وهو تصرف دائماً معهم كما لو أنهم مجرد أتباع أو أزلام ليس إلا. وما كشفه موقف "القوات" والكتائب ليس مجرد زوبعة في فنجان، بل هو يعكس ـ بالفعل ـ مسار الأزمة البنيوية التي باتت تعصف بمكوّن فريق الرابع عشر من آذار، هذا لا يعني ان ما يجمع هؤلاء في الخط السياسي العام لم يعد موجوداً، بل قد يشكل العنوان الوحيد لوحدتهم.
ثالثاً: في مقابل الصورة المهتزة لفريق الرابع عشر من آذار، ظهر تحالف أمل ـ حزب الله ـ التيار الوطني متماسكاً وقوياً الى أقصى الحدود، واستطاع حلفاء التيار الوطني ان يقدموا لحليفهم ما فقده ويفقده الحلفاء المسيحيون لتيار المستقبل، وما يجعلنا بالفعل أمام نموذجين للتحالف والعلاقات.
رابعاً: تستطيع القوى المسيحية الأساسية بما فيها البطريركية القول إنها حققت انجازاً ومكسباً ليسا بالسهلين، مع الادراك ان هذا الانجاز ما كان ليكون لولا حلفاء التيار الوطني الحر بالدرجة الأولى، والادارة الحكيمة والمسبوكة للرئيس بري.
خامساً: لا شك، ان رئيس الجمهورية ليس في موقف يحسد عليه، فهو عليه أن يوفق بين عدم ظهوره بمظهر من يقوّض انجازاً مسيحياً مهماً ومحتضنا من ابرز القوى السياسية المسيحية أيضاً، وما يضمره من التزامات سياسية تضعه في صف واحد مع "المستقبل" والحزب التقدمي الاشتراكي.
سادساً: من حق زعيم التيار الوطني الحر التباهي بأنه هو أب القانون الأرثوذكسي، وأنه هو الذي شكل قاطرة هذا القانون مسيحياً، وهذا ما يشكل له اضافة نوعية في الشارع المسيحي في وقت بالغ الأهمية.
سادساً: يمكن القول، ان تصويت اللجان المشتركة لمصلحة القانون الأرثوذكسي سيضع الانتخابات أمام أحد خيارات ثلاثة، هي:
أ – الذهاب الى النهاية بالقانون الأرثوذكسي، أي العبور به الى الهيئة العامة للتصويت عليه، بمعزل عن الضجيج والغوغاء السياسي والاعلامي الذي يمكن ان يثار حوله.
ب ـ التوافق على اقتراح الرئيس بري الذي يقوم على المناصفة بين الأكثري والنسبي، ولو بتعديلات لا تمس جوهره، وهذا قد يشكل أهون الشرين بالنسبة لكثيرين.
ج ـ تعطيل الانتخابات، والتمديد للوضع القائم انسجاماً مع عدم وضوح مسار الأمور في المنطقة لا سيما في ما يتعلق بالأزمة السورية، التي يبدو أنها أخذت تشهد بعض الحلحلة في مسار ايجاد تسوية لها، وهو مسار لن يكون سهلاً، أو في متناول اليد خلال وقت قصير.
أي من هذه الاحتمالات سيفرض نفسه؟ الأمور مرهونة بالأيام القليلة المقبلة.